"من أسرار القرآن" إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد

منذ 2019-06-05

والحصان حيوان قوي البنية‏، شديد الذكاء بصفة عامة‏، نبيل الطباع‏، قوي الذاكرة‏، له قدرة هائلة في التعرف علي الأشخاص‏، وفي الحكم علي المواقف‏، كما أن له قدرات فائقة‏، علي الشم‏، والسمع‏، وعلي معرفة الاتجاهات والطرق.

من أقوال المفسرين:

في تفسير قوله‏ تعالى‏: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص‏31-33].

(1) ذكر ابن كثير‏ (رحمه الله‏)، ما مختصره‏‏ يقول تعالى مخبرا أنه وهب لداود‏ (سليمان‏)‏ أي نبيا‏، كما قال عز وجل‏ {وورث سليمان داود} ‏أي في النبوة‏، وإلا فقد كان له بنون غيره‏، وقوله تعالى‏ {نِعْمَ العَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30] ثناء علي سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عز وجل‏،

وقوله تعالى‏: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ} [ص: ‏31] أي إذ عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات‏، قال مجاهد‏‏ وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة‏، والجياد السراع‏...‏ وقوله تبارك وتعالى‏ {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص‏: 32] ذكر غير واحد من السلف والمفسرين‏‏ أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر‏، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمدا‏، بل نسيانا‏، ويحتمل أنه كان سائغا في ملتهم تأخير الصلاة لعذر الغزو والقتال‏،

والأول أقرب لأنه قال بعده‏ {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص: 33] )قال الحسن البصري كأنه قال‏‏ لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك‏، ثم أمر بها فعقرت‏، وقال السدي‏‏ ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف‏، ولهذا عوضه الله عز وجل ما هو خير منها‏، وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب‏، غدوها شهر ورواحها شهر‏، فهذا أسرع وخير من الخيل‏، وأغلب الظن أن هذا التفسير الأخير من الإسرائيليات التي تسربت إلى كتب التفسير. 

 

(2) وذكر الشهيد سيد قطب‏ (رحمه الله رحمة واسعة جزاء ما قدم‏)‏ كلاما رائعا نوجزه فيما يلي: والإشارتان الواردتان هنا عن الصافنات الجياد وهي الخيل الكريمة‏، وعن الجسد الذي ألقي على كرسي سليمان‏ كلتاهما إشارتان لم تسترح نفسي لأي تفسير أو رواية مما احتوته التفاسير والروايات عنهما‏، فهي إما إسرائيليات منكرة‏، وإما تأويلات لا سند لها‏. 

(3) أما قصة الخيل فقيل‏‏ إن سليمان عليه السلام استعرض خيلا له بالعشي‏، ففاتته صلاة كان يصليها قبل الغروب‏، فقال‏‏ ردوها علي‏، فردوها عليه فجعل يضرب أعناقها وسيقانها جزاء ما شغلته عن ذكر ربه. ورواية أخرى أنه إنما جعل يمسح سوقها وأعناقها إكراما لها لأنها كانت خيلا في سبيل الله‏..‏ وكلتا الروايتين لا دليل عليها‏، ويصعب الجزم بشيء عنها‏. ومن ثم لا يستطيع متثبت أن يقول شيئا عن تفصيل هذين الحادثين المشار إليهما في القرآن الكريم‏. وكل ما نخرج به هو أنه كان هناك ابتلاء من الله وفتنة لنبي الله سليمان عليه السلام في شأن يتعلق بتصرفاته في الملك والسلطان كما يبتلي الله أنبياءه ليوجههم ويرشدهم‏، ويبعد خطاهم عن الزلل. 

 

وأن سليمان أناب إلى ربه ورجع‏، وطلب المغفرة‏، واتجه إلى الله بالدعاء والرجاء‏ {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ} [ص: 35] وأقرب تأويل لهذا الطلب من سليمان عليه السلام أنه لم يرد به أثرة‏، إنما أراد الاختصاص الذي يتجلى في صورة معجزة‏، فقد أراد به النوع‏، أراد به ملكا ذا خصوصية تميزه عن كل ملك آخر يأتي بعده‏، وذا طبيعة معينة‏، ليست مكررة ولا معهودة في الملك الذي يعرفه الناس‏. وقد استجاب له ربه‏، فأعطاه فوق الملك‏، ملكا خاصا لا يتكرر‏، وصفه الحق‏ (تبارك وتعالى‏)‏ بقوله‏‏ " {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ.وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ*وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ*هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ*وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} (ص: ‏36‏-‏40).‏

(4) وجاء في بقية التفاسير كلام مشابه لما ذكره ابن كثير‏، وإن تميز بعض المفسرين عن بعض في إيراد عدد من التفاصيل التي لم يذكرها غيره‏، وبعض الاستنتاجات الخاصة به‏، وقد رد الشهيد سيد قطب‏ (رحمه الله‏)‏ على ذلك وفنده‏.

 

من الدلالات اللغوية لألفاظ الآيات القرآنية الثلاث:

‏(عرض‏)‏ بمعني أبرزت له حتى نظر إليها من‏ (عرض‏) (يعرض‏) (عرضا‏)‏ أي أظهر يظهر ظهورا‏، والفعل في الآية الكريمة مبني للمجهول‏.

(‏العشي‏)‏ من زوال الشمس إلى غروبها‏، وصلاتا العشي هما الظهر والعصر‏، فإذا غابت الشمس فهو العشاء الأول والآخر وإن قال بعض اللغويين أن‏ (العشي‏)‏ و‏ (‏العشية‏)‏ من صلاة المغرب إلى العتمة‏، و‏ (‏العشاء‏)‏ مثل‏ (العشي‏) (والعشاءان‏)‏ المغرب والعتمة‏.

وزغم البعض أن العشاء‏، من زوال الشمس إلى طلوع الفجر‏، وهو تعريف مبالغ فيه. و‏ (‏العشا‏)‏ مقصور مصدر‏ (الأعشى‏)‏ وهو الذي لا يبصر بالليل‏، ويبصر بالنهار‏، والمرأة‏ (عشواء‏)، ويقال‏ (أعشاه‏)‏ الله‏ (فعشي‏)، (يعشي‏) (عشا‏).

الصافنات‏ (الصافن‏)‏ من الخيل هو القائم علي ثلاث قوائم‏، وقد أقام الرابعة علي طرف الحافر‏.‏ ويقال‏ (صفن‏)‏ الفرس‏ (يصفن‏) (صفونا‏)‏ فهو‏ (صافن‏)‏ أي صف أقدامه‏، وجمعه‏ (صفون‏)‏ وذلك لأن‏ (الصفن‏)‏ هو الجمع بين الشيئين ضاما بعضهما إلى بعض‏، و‏ (‏الصفون‏)‏ صفة دالة علي فضيلة في الفرس‏.

الجياد‏‏ جمع‏ (جواد‏)، وهو الفرس السريع الجري‏، الجيد الركض‏، السابق في العدو‏ (ذكرا كان أو أنثى)، يقال‏‏ فرس‏ (جواد‏)‏ أي يجود بمدخر عدوه‏، ويقال‏ (جاد‏)‏ الفرس‏ (يجود‏) (جودة‏)‏ فهو‏ (جواد‏)‏ إذا أسرع في جريه وعدوه‏، والجمع‏ (جياد‏)‏ و‏ (‏الجواد‏)‏ في الأصل منسوب إلى‏ (الجود‏)‏ وهو بذل الكثير من المقتنيات مالا كان أو علما أو جهدا‏، ولذلك يقال‏‏ رجل جواد‏، وفرس جواد‏، كما يقال فرس‏ (حصان‏)‏ لكونه حصنا لراكبه‏، ويطلق علي كل ذكر من الخيل‏، وجمع الحصان‏ (أحصنة‏).‏ واسم‏ (الخيل‏)‏ مستمد من الخيلاء لأن‏ (الخيل‏)‏ تتخايل في سكونها‏، وفي حركاتها لما تستشعره من فضل الله‏ تعالى عليها من الجمال‏، والقوة والذكاء‏، والقدرة علي إدراك الكثير من الأشياء التي قد لا يدركها كثير غيرها من الحيوانات‏. ولفظ‏ (الخيل‏)‏ كما يطلق على الأفراس فإنه يطلق مجازا على الفرسان كذلك‏، تأولا لما قيل إنه لا يركب أحد فرسا إلا وجد في نفسه شيا من الخيلاء والزهو والشجاعة والنخوة وذلك من نحو ما قيل‏‏ يا خيل الله اركبي‏، والخطاب هنا للفرسان‏، وقول المصطفى ‏«عفوت لكم عن صدقة الخيل» يعني الأفراس و‏ (‏الخيالة‏)‏ هم أصحاب الخيول. ويقول‏ (عز من قائل‏)‏ {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (النحل: 8).

وفي ذلك يقول الحق‏ تبارك وتعالى‏:‏  {وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ}  ‏(الأنفال: 60] .

 

من الدلالات العلمية للآيات الكريمة الثلاث :

 

أولا‏‏ : الإشارة إلى فضيلة الخيل في السكون والحركة‏‏ : 

في هذه الآيات القرآنية الكريمة وصفت خيل نبي الله سليمان‏ (علي نبينا وعليه من الله السلام‏)‏ بوصفين هما‏ (الصافنات الجياد‏)‏ وهو مدح لها واقفة‏ (الصافنات‏)، وجارية‏ (الجياد‏)، فإذا وقفت كان ذلك علي ثلاث قوائم‏، وعلي طرف حافر القائم الرابع‏، وذلك من علامات السكون‏، والاطمئنان‏، والثقة في نفسها‏، والخيلاء بما أفاء الله‏ تعالى عليها من قوة في البنية‏، وجمال في المظهر‏، وقدرات علي الحس والإدراك وإذا جرت كانت في عدوها سباقة‏، بسرعة‏، راكضة كأحسن ما تكون الجياد‏، ولذلك فإن نبي الله سليمان من شدة إعجابه بها‏، وانبهاره بجمالها وحسن مظهرها‏، لم يدرك مرور الوقت طيلة استعراضه لها حتى فات عليه ذكر خاص له كان يؤديه في ذلك الوقت ولم يتذكره حتى غابت الشمس‏، واختفت الخيل عن الأنظار‏، فتأسف علي ذلك أسفا شديدا يرويه القرآن الكريم علي لسانه فيقول ‏ {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ}   [ص:‏32]. أي أثرت حب الخيل حتى شغلتني عن ذكر الله‏، ولم أتذكره حتى توارث الخيل عني باحتجابها‏، أو توارث الشمس بغروبها‏، أو حتى حدث الأمران معا‏.

والخيل من الحيوانات الثديية المشيمية ذات الحافر‏(ungulareplacenralmammals)‏ وتجمع في رتبه خاصة بها تعرف باسم رتبه فردية أصابع الحافر‏ (oddtoedungulates)‏ ويكتب هذا الاسم باللاتينية علي النحو التإلي‏ (orderperissodactyla)‏ وذلك لتميزها بإصبع واحد كبير عامل في كل قدم‏، وهو مغطي بالحافر الواقي له من الصدمات من أجل حمايته‏.‏ والحيوان الحافري إما أن يكون فردي الأصابع من مثل الخيل‏، والبغال‏، والحمير‏، والحمير الوحشية وأشباهها‏، وإما أن يكون زوجي الأصابع‏ (EventoedungulatesorderArtiodactyla)‏ من مثل مختلف الأنعام‏ (الإبل‏، والبقر‏، والغنم‏، والماعز‏، والغزلان‏، والزرافات‏، وأشباهها‏)‏ والخيل من الحيوانات آكلة الأعشاب‏ (Herbivorous)‏ ولذلك تتميز بأسنانها الكبيرة‏، ذات السطوح العريضة‏، المزودة بعدد من البروزات المناسبة لجرش وطحن هذا النوع من الغذاء‏ (مثل الحشائش‏، التبن‏، الدريس‏، الردة‏، الفول‏، الشعير‏، الشوفان وغيرها من الحبوب‏)‏ وتكثر هذه البروزات علي أسطح تيجان طواحين الخيل‏، ويتبع الحصان‏(Equushorse)‏ فصيلة الأحصنة وأشباهها‏ (FamlyEquidae)‏ التي تشمل كلا من الحصان‏، والحمار‏، والحمار الوحشي‏ (المخطط‏)، وهي جزء من رتيبة الأفراس المعروفة باسم‏ (SuborderHippomorpha)‏ والتي تشمل بالإضافة إلى فصيلة الأحصنة عددا من الفصائل المنقرضة التي عمرت الأرض منذ حوالي خمسين مليون سنة مضت في‏ (عهد الإيوسين‏)‏ أما الحصان الذي نعرفه اليوم فلم يعرف قبل المليونين الأخيرين من عمر الأرض المقدر بحوالي خمسة آلاف مليون سنة علي أقل تقدير‏، وهو يحيا عادة في قطعان وذلك من قبل استئناسه‏، وقد تم استئناس الأحصنة منذ حوالي خمسة آلاف سنة مضت وذلك لاستخدامها في الركوب‏، وحمل الأثقال‏، وجر العربات‏، وفي غير ذلك من أعمال الانتقال‏، والزراعة‏، والحروب‏، والرياضة‏، وغيرها.

 {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ. فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ. رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص31‏ - ‏33]

 

والحصان حيوان قوي البنية‏، شديد الذكاء بصفة عامة‏، نبيل الطباع‏، قوي الذاكرة‏، له قدرة هائلة في التعرف علي الأشخاص‏، وفي الحكم علي المواقف‏، كما أن له قدرات فائقة‏، علي الشم‏، والسمع‏، وعلي معرفة الاتجاهات والطرق والأماكن وتذكرها حتى بالليل وبعد فترات زمنية طويلة من مغادرتها‏.

وبالإضافة إلى ذلك فان الحصان حيوان هادئ ورصين‏، ليست له طبيعة عدوانية إلا إذا هوجم بشيء من القسوة‏، وهو يهرب عادة من المواجهة التي يخافها ويقلق لأقل سبب لما له من طبيعة رقيقة‏، ويظهر ذلك عليه بشيء من الوجوم وعدم الحركة ولكن إذا جوبه بالخطر أو إذا سيئت معاملته فإنه يستطيع ضرب عدوه برجليه الأماميتين وبرقبته حتى يطرحه أرضا‏. والحصان له رأس مستطيل‏، تحمل أكبر عينين لحيوان معاصر مقارنة إلى حجمه ولذلك فإن الذاكرة البصرية عنده عالية جدا مما يجعله يجفل عند رؤيته لمكان أو لشيء أفزعه من قبل‏، وكذلك فإن ذاكرته السمعية لا تقل حدة عن ذاكرته البصرية‏، مما يدفع بالمدربين للجياد إلى استخدام نفس الجمل‏، ونفس نبرات الصوت في توجيهها‏، بل إن بعض الجياد يمكنها استقراء رغبات راكبيها قبل أن ينطق الراكب بها‏.‏ 

والجواد فوق ذلك يستشعر الحالة النفسية لراكبه من قلق واضطراب‏، أو ثقة واطمئنان ويتصرف علي أساس من ذلك‏، فإذا أساء الراكب معاملته فإن الجواد يستطيع الانتقام منه بطرق متعددة‏، كما يمكن له أن يعبر عن طاعته لصاحبه‏، وعن وفائه له وثقته فيه وعاطفته تجاهه وذلك بتعبيرات وجهه‏، وحركات أذنيه‏، وإيماءات رأسه‏، أو إظهار أسنانه‏، أو العض عليها‏، وبصوته ومختلف نبرات صهيله‏، أو بالركل بأرجله الخلفية في تناغم جميل كما يمكنه الإتيان بالعديد من الأعمال التي تعبر عن ذكائه من مثل فتح غطاء صندوق العلف المغلق أمامه‏، أو فتح باب الإسطبل الذي يحتجز فيه إذا أراد الخروج منه‏.‏ وتتفاوت قدرات الخيل في ذلك تفاوتا كبيرا حتى ليكاد أن يكون لكل فرد منها شخصيته الخاصة‏، وصفاته المميزة له.

وللخيل قدرات فائقة علي التلقي والإدراك‏، وعلي التعاطف مع من يعتنون بها‏، أو مع أفراد معينين من أسرة مالكيها‏، كما أن لها القدرة علي كراهية أفراد آخرين والنفور منهم دون سبب واضح‏.

ولشدة الحاسة السمعية عند الخيل فإنها تستشعر الهزات الأرضية عند بدء انبثاقها فتهرب منها‏، وذلك قبل أن يدركها الإنسان بعدة ساعات‏.‏ وللحصان ثماني عشرة عضلة لتحريك الأذن في‏ (180)‏ درجة‏، ولذلك فهو شديد الانتباه إلا في حالات النوم العميق‏، وهذا لا يحدث إلا علي فترات قصيرة جدا في كل يوم.

وبالإضافة إلى ذاكرتيها البصرية والسمعية فإن للخيل حاسة شم قوية يتعرف بها كل فرد منها علي رفاقه‏، وعلي أصحابه‏، كما يميز بها بين طعام صالح أو فاسد‏، وماء عذب أو آسن‏، ووسط نظيف أو قذر‏، وذلك لأن الخيل تأنف من الروائح الكريهة‏، وهذه الصفات كلها‏ (وغيرها كثير‏)‏ تشير إلى فضائل الخيل بصفة عامة وخيل سليمان‏ (عليه السلام‏)، بصفة خاصة‏.

 

ثانيا‏‏ : الإشارة إلى أن اللمس يلعب دورا مهما في حياة الخيل‏‏:

تقول الآيات القرآنية الكريمة التي نحن بصددها في وصف تعامل نبي الله سليمان‏ (عليه السلام‏)‏ مع خيله ما نصه ‏‏{فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:‏ 33]‏. والدراسات المتأخرة في علم سلوك الحيوان تؤكد أن لمس الإنسان لسيقان الخيل وأعناقها يلعب دورا مهما في تطمينها وإشعارها بالود والمحبة‏، فجلد الخيل من أكثر أجزاء جسده حساسية للمس‏، لدرجة أنها تشعر بالذبابة تحط عليه‏، وتعمل علي طردها بحركة عضلاتها القوية التي تنقبض وتنبسط بسرعة فائقة فتهش الذبابة عن جسمها‏.‏ وأكثر مناطق جسم الحصان حساسية للمس هي سيقانه وعنقه وما حول رأسه لأن لكل حصان نقطة توازن في مركز رأسه وخلف كتفيه‏، ومن هنا كانت الإشارة القرآنية إلى فعل سليمان بخيله والتي يقول فيها ربنا‏ (تبارك وتعالى‏) {فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} (ص:‏ 33).

ومن مناطق الحس المرهف للحصان كذلك العين والأذن‏، فهو لا يحب أن تشد أذنه‏، ولا يحب أن ينظر إلى عينه مباشرة أحد غير صاحبه‏، لأنه يشعر أن في ذلك نوعا من التهديد له‏، لأن لكل عين من عيني الحصان جهازا خاصا لتضخيم كم الضوء الواصل إليها بإعادة عكسه لعدة مرات علي شبكية العين مما يعينها علي وضوح الرؤية مهما كان الضوء ضعيفا وإن كانت الخيل تنزعج من العتمة الكاملة ولذلك تنشط الخيل في الفجر وعند الغسق‏، وتقلق لرؤية أي عارض ولو من بعيد‏، وتدرك أبسط الحركات أثرا من حولها‏، لأنها تستطيع الرؤية بكل عين منفردة‏، كما أن لها رؤية مزدوجة بالعينين معا في حدود‏ (60)‏ إلى‏ (70)‏ درجة من الأفق أمامها‏، وبذلك تكاد تغطي الأفق كاملا بالعينين معا وبكل عين منفردة في جهتها‏.

ويمكن لراكب الفرس أن يعبر له أو لها بما يشاء عن طريق اللمس‏، كذلك يمكن للفرس أن يتفاهم مع غيره من الأفراس عن طريق لمس جسديهما ببعض.

 

ثالثا‏‏ : الإشارة إلى دور أنثى الخيل في تدبير أمر جماعتها‏‏:

 

تثبت الدراسات المتأخرة في علم سلوك الحيوان أن الخيل هي حيوانات اجتماعية بطبيعتها الفطرية‏، تحيا منطلقة في البراري في قطعان من أربعة إلى عشرة أفراد في المتوسط‏، وان كانت بعض قطعانها قد يصل إلى أكثر من عشرين في العدد‏.‏ وتعتمد كل واحدة من هذه الجماعات علي العائلة التي تضم مهرة واحدة أو مهرتين وأنسالهما حتى أعمار سنتين إلى ثلاث سنوات‏، وعلي مهر أو أكثر من مهر واحد في المجموعة‏.‏

 

والإناث في جماعة الخيل هي الآمرة‏، الحاكمة‏، صاحبة القرار على باقي أفراد القطيع‏، والمهر الذي يصحبه‏ (أو المهران أو الأمهار إذا كانوا أكثر من اثنين‏)‏ دوره حراسة القطيع‏، دون أن يكون له دور في القيادة‏، ومن هنا كانت الإشارة في الآيات القرآنية المستشهد بها هنا إلى الجياد بالتأنيث‏ (الصافنات الجياد‏)، ومن العجيب أن تتبادل الإناث في القطيع الواحد قيادة القطيع‏، الواحدة تلو الأخرى حتى لا تكون السيادة مطلقة لواحدة منهن‏، بينما في عالم الأناسي من وصل إلى كرسي السلطة لا يريد أن يغادره أبدا‏. وأنثي الخيل هي الموجهة الفعلية والمربية الحقيقية لصغارها‏، فإذا أخطأ أحدهم نهرته وعاقبته‏، ويصل العقاب إلى حد الطرد من مرافقة القطيع لفترات تطول بنسبة تتوافق مع حجم الجرم المقترف‏، فإذا انتهت مدة العقاب عاد إلى حدود أرض القطيع مستأذنا بالانضمام إليه فإذا واجهته رئيسة القطيع بأنفها كان في ذلك‏، وإذن بعودته للانضمام إلى القطيع‏، وإن قابلته بمؤخرتها كان ذلك رمزا لرفض طلبه‏، واستمرارا للعقوبة عليه فعاد من حيث أتي‏.

هذه الإشارات إلى فضائل الخيل في كل من السكون والحركة‏، وإلى خيلائها بما حباها الله‏ تعالى من الذكاء والفطنة والجمال والقدرة على الإدراك‏، وإلى إحساسها المرهف للمس خاصة حول رأسها وعنقها وسيقانها‏، وإلى دور الأنثى في قطعانها‏، هذه كلها من الحقائق التي لم تصل إلى علم الإنسان إلا بعد اهتمامه بعلوم سلوك الحيوان في القرنين الماضيين علي أحسن تقدير‏، ومن هنا كان ورودها بهذه الدقة والوضوح في القرآن الكريم الذي أنزل من قبل ألف وأربعمائة سنة على نبي أمي ، وفي أمة كانت غالبيتها الساحقة من الأميين لما يشهد لهذا الكتاب الخالد بأنه لا يمكن أن يكون صناعة بشرية‏، بل هو كلام الله الخالق‏ سبحانه وتعالى‏ ويشهد للنبي الخاتم الذي تلقاه بالنبوة وبالرسالة {وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب:‏ 4]. 

وصلي الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا‏.

زغلول النجار

أستاذ علم الجيولوجيا بالعديد من جامعات العالم

  • 20
  • 5
  • 248,873

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً