اصبر صبرًا جميلًا
ومنَ الصبرِ الجميلِ منْ أزواجِ النبيِّ -أمهاتِ المؤمنين رضي الله عنهن- أنَّه لمَّا أحبَّ أنْ يُمَرَّضَ في آخرِ حياتِهِ عندَ عائشةَ تنازلنَ كلُّهنَّ عنْ حقِّهنَّ بطيبِ نَفْسٍ فَبَقِيَ عنْدَها حتَّى مات.
قال الله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5].
موضوعُ الصبرِ تكرَّرَ في القرآنِ الكريمِ قرابةَ تِسعينَ مرَّةً، وسببُ ذلكَ أنَّ الحياةَ لا تخلُو منْ منغِّصاتٍ ومكدِّراتٍ ومشاقَّ وصُعوباتٍ تحتاجُ إلى الصبرِ لتَجاوزِها والتغلبِ عليها، ودخولُ الجنةِ لا يكونُ إلّا بالصبرِ علَى ابتلاءاتِ الحياةِ {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: 214]، ولهذَا لمّا جاءَ أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم يشكُونَ إليهِ مَا يَجِدونَ منْ أذى كفارِ قريشٍ، حثَّهم علَى الصبرِ كما صَبرَ مَنْ قَبْلَهُمْ فقَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهِ، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، وَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ»، ثمَّ بشَّرَهُمْ بأنَّ العاقبةَ لِهذَا الدِّينِ: «وَاللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرَ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ، لاَ يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ»، ثم قال: «وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ»، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم وهوَ رسولُ اللهِ أوصاهُ اللهُ عز وجل بالصَّبْرِ علَى مَا سَيعرِضُ لهُ منَ المشَاقِّ فَقَال لهُ: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا}.
ولئِنْ كنَّا نحتاجُ إلَى الصَّبرِ في كلِّ شؤونِ حياتِنا، فإنَّ حاجتَنا لهُ في العلاقةِ بيْنَ الزَّوْجَيْنِ أشدُّ، لِما يَحدُثُ في الحياةِ الزوجيةِ مِنْ إِشكالاتٍ ومُنغِّصاتٍ وعوارضَ تُسبِّبُ شيئًا مِنَ الغَضَبِ أوِ الكَدَرِ، فهُنا يُقَالُ لكلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} كي تستقيمَ الحياةُ وتَستمِرَّ. والمُلاحَظُ في الآيةِ الكريمةِ أنَّه مَا قَالَ {فَاصْبِرْ} فَقَطْ، بلْ أكَّدَه {فَاصْبِرْ صَبْرًا} أيْ مُطْلقًا وأيضًا وصَفَه بِقَوْلِه {جَمِيلًا}، أيْ لا تَشَكِّيَ معَهُ، كمَا كَان مِنْ يعقوبَ -عليه السلام- معَ أولادِه في موضِعَينِ: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] و [يوسف: 8]، ومِنَ العجيبِ أنَّه في الموضعِ الثاني قَالَ: {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا}، مَا قَال {بِهِمَا} أيْ يوسف وبنيامينَ فقطْ، بلْ جَمَعَ معَهُما أخاهما الذي بَقِيَ في مصرَ، معَ أنَّه شريكٌ في الخطأِ الأولِ، ومعَ هذا قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85]، فيرُدُّ عليهم بهذا الأسلوبِ الجميلِ: {يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87]، فما شَتَمَهُم ولا سَبَّهُم ولكنْ خاطَبَهم بأفضلِ أسلوبٍ ووجَّهَهُم ورَبَطَهُم بالله عز وجل، فوافقَ فعلُه قولَه: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ}.
بعضُ الأزواجِ قدْ يَصبرُ علَى زوجتِهِ ولكنْ يَظهَرُ علَى وجهِه وتصرفاتِه الغضبُ، قدْ لا يُعاقِبُ زوجتَه ولا يَلومُها بكلمةٍ، لكنَّ حالَه وواقعَه يدلَّانِ علَى أنَّه لمْ يَصبِرْ صبرًا جميلًا، فمَا معنى أنْ يقولَ الرجلُ إنَّني صَبَرْتُ، وهيَ تَشْعُرُ أنَّ حياتَه قدْ تَغيرَتْ بعدَ ما صَدَرَ مِنْها؟ هذَا نوعٌ مِنَ العقابِ قدْ يَكونُ أشدَّ علَيها مِنَ الكلامِ أوِ الضربِ. كذلكَ بعضُ الزوجاتِ تَقُولُ أنا أَصْبِرُ، بينما هِي تَتَشكّى وَتَغضبُ ويَجِدُ زوجُها منْها الجَفاءَ والإعراضَ والصُّدودَ، بلْ حتَّى لوْ أرادَ قضاءَ وَطَرِهِ لَا تستقبلُهُ بنَفْسٍ طَيبةٍ، فليسَ هذا بالصبرِ الجميلِ، الصبرُ الجميلُ كاسمِه، جميلٌ في حقيقتِه، في دَلالتِه، في عواقبِه، كأنَّ شيئًا لمْ يكنْ، وهوَ الذي لا تَشكِّيَ معَهُ، بلْ فيهِ إحسانٌ كمَا فعَلَ يعقوبُ -عليه السلام- معَ أولادِه.
ومِنَ الصبرِ الجميلِ مَا كانَ مِنْ أحدِ طلابِ العلمِ، يقولُ: في يومٍ مِنَ الأيامِ تَصَرَّفَتْ زوجتِي تَصرُّفًا تَسْتَحِقُّ مَعَهُ العِقابَ، فلمْ أَتَكلَّمْ بِكَلِمَةٍ ولمْ أُشْعِرْهَا أنني غَضِبْتُ، وَعزمْتُ عَلَى ألّا أنامَ إلّا أن أكونَ وإيَّاها مِنْ أَسْعدِ النَّاسِ، فَقامَ بَدَلَ العِتابِ والعِقابِ بِتَصَرُّفٍ جميلٍ، يقولُ: فكانتْ تلكَ الليلةُ مِنْ أَسْعَدِ أيَّامِ حياتِنا، وَقدْ فسَّرَ فِعلَه هذا بأنَّه أولًا مِنْ توفيقِ اللهِ تعالى، ثمَّ إنَّه رأَى أنَّه لوْ بَقِيَ الغضبُ في نفسِه وكَتَمَه وَصَبرَ علَى مَضضٍ، فَسَينامُ ليلةً غيرَ هانئةٍ وسَيدْفَعُ الثَّمنَ، سَيَنامُ في كَدَرٍ ويقومُ علَى كَدَرٍ ويذهبُ إلى عملِه في تَوَتُّرٍ، قال: فوجدْتُ أنني لا بدَّ أنْ أَصْبِرَ صَبْرًا جميلًا، وذَكرَ مثلًا عجيبًا وطريفًا، يقولُ: لوْ كنتَ فِي البَرِيَّةِ وَوَضَعْتَ فِراشَك وأرَدْت أنْ تنامَ فَفُوجِئْتَ بحَجَرٍ تَحْتَكَ آلمكَ، هَلْ تَشْتِمُ الحَجَرَ أمْ تَصْبِرُ ثمَّ تُسَوِّي الأرضَ لِتَنام مرتاحًا إنْ لمْ تكنِ الظروفُ مهيأةً للانتقالِ منَ المَكانِ؟ فَكَذَلِكَ الحياةُ الزوجيةُ، لا بدَّ منَ الصَّبْرِ علَى مُكدِّراتِها، ولا بدَّ منَ الصبرِ علَى الزوجةِ صبرًا جميلًا، ثمَّ المبادرةِ للإصلاحِ، لأنَّ المرأةَ في الغالبِ عودتُها قريبةٌ؛ لأنَّها صاحبةُ عاطفةٍ وقلبُها رقيقٌ.
وَمِنَ النساءِ مَنْ تَصْبِرُ علَى زوجِها صبرًا جميلًا وتَضْرِبُ في ذلكَ أمثلةً رائعةً، فَمَهْمَا وَقَعَ مِنْ زوجِها في حقِّها ومهما أَخطَأَ عليها فهيَ لا تُغيِّرُ مِنْ حياتِها وأسلوبِها معَهُ أبدًا، وتَبْقَى تصرفاتُها وخدمتُها لهُ في حالةِ الغَضبِ والرِّضا متقاربةً قدرَ المُسْتطاعِ، وإلّا فإنَّ الإنسانَ لا يستطيعُ أنْ يكتُمَ كلَّ شيءٍ، هذَا لا يَكادُ يكونُ موجودًا.
ومنَ الصبرِ الجميلِ منْ أزواجِ النبيِّ -أمهاتِ المؤمنين رضي الله عنهن- أنَّه لمَّا أحبَّ أنْ يُمَرَّضَ في آخرِ حياتِهِ عندَ عائشةَ تنازلنَ كلُّهنَّ عنْ حقِّهنَّ بطيبِ نَفْسٍ فَبَقِيَ عنْدَها حتَّى مات صلى الله عليه وسلم وهوَ بينَ سَحْرِها ونَحْرِها، معَ أنَّ كلَّ واحدةٍ مِنهنَّ تتمنَى لوْ يكونُ عندَها، ففي الحديثِ أنَّه حِينَ تَزَوَّجَ أُمَّ سَلَمَةَ، فَدَخَلَ عَلَيْهَا، ثمَّ أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ أَخَذَتْ بِثَوْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ شِئْتِ زِدْتُكِ، وَحَاسَبْتُكِ بِهِ، لِلْبِكْرِ سَبْعٌ، وَلِلثَّيِّبِ ثَلَاثٌ»، فزوجاتُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم تُريدُ الواحدةُ لحظةً واحدةً معَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، ومعَ ذلكَ يَتنازلنَ وَيَصْبِرْنَ ابتغاءَ ما عندَ اللهِ تعالى، كمَا حَدَثَ يومَ التَّخييرِ:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29]، فَصَبَرْنَ وَاخْتَرْنَ كلُّهنَّ اللهَ ورسولَه والدارَ الآخِرَةَ.
ومِنْ صورِ الصبرِ الجميلِ في الحياةِ الزوجيةِ، أنَّ عائشةَ رضي الله عنها كانتْ تَغضَبُ منَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وهوَ رسولُ اللهِ -بأبِي هُوَ وأمِّي- لكنَّ هذا لا يُوقِعُها في المحظورِ، ففي الحديثِ أنَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ لها: «إِنِّي لَأَعْلَمُ إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى. قَالَتْ: فَقُلْتُ: مِنْ أَيْنَ تَعْرِفُ ذَلِكَ؟ فَقَالَ: أَمَّا إِذَا كُنْتِ عَنِّي رَاضِيَةً، فَإِنَّكِ تَقُولِينَ: لاَ وَرَبِّ مُحَمَّدٍ، وَإِذَا كُنْتِ عَلَيَّ غَضْبَى، قُلْتِ: لاَ وَرَبِّ إِبْرَاهِيمَ. قَالَتْ: قُلْتُ: أَجَلْ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَهْجُرُ إِلَّا اسْمَكَ»، فكَانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَعرِفُ هذا مِنْ حالِها، لَكِنَّها لمْ تَفعلْ شيئًا آخَرَ.
وفي هذا الحديثِ درسٌ للرجالِ الذينَ يَرَوْنَ أنَّه ليسَ لأزواجِهم حقٌ في الغَضَبِ مِنْ تصرفاتِهِمْ مَهْمَا كانتْ، فهذا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وهُوَ مُنَزَّهٌ عَنِ الظُّلمِ، وَمَعَ ذلكَ تَغْضَبُ منهُ أحبُّ أزواجِه إليْهِ، وهذَا مِنْ مُقْتَضَى بَشَريّتِها وَبَشَرِيَّتِهِ صلى الله عليه وسلم {أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]، ثمَّ إنَّه صلى الله عليه وسلم يَصْبِرُ عليها صبرًا جميلًا، ويَكتَفِي بأنْ يقولَ لها إنَّه يَعلمُ حالَ رضاها وحالَ غضبِها!
وَقدْ كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْبِرُ علَى قومِه وعلَى القريبِ والبعيدِ، يَصبرُ علَى صحابتِه، وَيصْبِرُ علَى أهلِ بيتِه وما يَحْدُثُ مِنْ زوجاتِه، وَيَحْتَمِلُ مَا يكونُ منهنَّ، وأمَّا ما كانَ يَحْدُثُ مِنْ عقابٍ كَهَجْرِهِنَّ شهرًا، فمنْ بابِ التربيةِ والتشريعِ أيضًا؛ لأنَّ حياتَه صلى الله عليه وسلم ليستْ قاصرةً عليهِ وإنَّما هوَ مُشرِّعٌ لغيرِه، وبمجموعِ أفعالِه تَتضِحُ الأمورُ وتتضحُ الصورةُ ولا يَتسلَّلُ الشَّيطانُ لسُوءِ فَهمِ {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} فيَظُنُّ البعضُ أنَّها تَعنِي التساهلَ والتفريطَ، بل الحكمة والحزم وأخذ النفس بما فيه الصلاح.
- المصدر: