الانتماءات الجاهلية والروابط العصبية
ألغى الإسلام العصبية الجاهلية، والطبقية الممقوتة، وحرَّمها وحذَّر منها؛ وقرر أن التفاضل بالتقوى والعمل الصالح فقط.
من المعلوم لدينا أن الإسلام دين الفطرة، وتشريعاته لا تلغي الغرائز أو تكبت العواطف والمشاعر الإنسانية، لكن جاء الإسلام بتهذيب الفطر وتكميلها، وضبط الغرائز بضوابط واضحة محددة، حتى لا تتلاعب بها عقول الناس وأهواؤهم.
يقول ابن تيمية: "والرسل صلوات الله عليهم وسلامه بُعثوا بتكميل الفطرة وتقريرها، لا بتحويل الفطرة وتغييرها" مجموع الفتاوى (10/ 466).
فالحب والبغض اللذان هما أصلُ الولاءِ والبراءِ ومنشؤهما- مما جُبِل عليه الخلق، ولا سبيل إلى تجاهلهما، ولا يخلو منهما بشرٌ؛ ولا يخلو منهمامجتمع، أو دولة، أو طائفة، أو حزب.
فالبشرية بجميع أجناسها وكافة أطيافها وتجمعاتها مجبولة على الحب والبغض، لكنهم في الغالب صرفوا هذه العواطف حسب أهوائهم وشهواتهم، والتاريخ الحديث والقديم والواقع ومجرياته كلها شواهد على ذلك، فقد جعل بعضهم المال والربح هو المتحكم في توجيهها، كالمجتمعات الرأسمالية اليوم؛ التي يدور حبهم وبغضهم مع مصالحهم المادية، وكثيرًا ما يتحولون عن مبادئهم في سبيل مصالحهم، بل قد اندلعت الحروب والمعارك في القديم والحديث بينهم لأسبابٍ ماديةٍ بحتةٍ، وإن أظهروا خلاف ذلك!
وفي تاريخ الجاهلية قبل الإسلام نجدُ الولاء المطلق ينصرف للقبيلة، والعشيرة، وأفرادها، وأعرافها وتقاليدها، والبراء والبغض لمن ليس منها، سواءٌ أكانت القبيلة على حق أم على باطل، وكم قامت بينهم حروبٌ داميةٌ دامت سنين طوالًا، وها هي أخبار داحسٍ والغبراءِ، والبسوس، وبُعاثٍ، والفِجار.. شاهدةٌ على هذا، وقد كانت القبيلة تطاع طاعةً عمياء، وأعرافها ملةً متَّبَعة وإله يُعبد من دون الله، كما حكى الله سبحانه وتعالى عنهم قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23].
وكما تعبِّر مقولتهم المشهورة حسب فهمهم الفاسد: (انصر أخاك ظالِمًا ومظلومًا)، وقال شاعرهم دريد بن الصمة:
وَمَا أَنَا إِلا مِنْ غَزِيَّةَ إِنْ غَوَتْ *** غَوَيْتُ وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدُ
وقال قُرَيْط بن أُنَيْف أحد بني العَنْبَر:
لاَ يَسْأَلُونَ أَخَـاهُمْ حِـينَ يَنْدُبُهُمْ *** فِي النَّائِبَاتِ عَلَى ما قَالَ بُرْهَانَا
بل في غزوة أحد هلك عشرة من بني عبد الدار حمية وأنفة، حتى تقدم لهم غلامٌ حبشيٌ صمد باللواء حتى هلك وفاءً للولاء لأسياده بني عبد الدار ونصرة لهم. [سيرة ابن هشام (2/ 128)].
وهذا رجلٌ يردُّ دعوةَ النبي صلى الله عليه وسلم بولائه الأعمى لكذاب خرج من قبيلته، فقد سأل رجل عن مسيلمة.فقالوا: مه رسول الله.
فقال: لا حتى أراه.فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟قال: نعم. قال: من يأتيك؟ قال: رحمن. قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة. فقال: أشهد أنك كذابٌ، وأن محمدًا صادقٌ؛ ولكن كذابَ ربيعة أحبُّ إلينا من صادقِ مضر، فقتل معه يوم عقرباء [تاريخ الرسل والملوك - (3/ 286)].
لكن حين أشرقت للوجود شمس الإسلام حدث اعتدال للفطرة البشرية بفعل شرائعه، حيث سارت في اتجاه ما خلقت له في جوانب الحب والبغض، وبدل أن تبذل المشاعر والولاءات لخدمة فرد أو قبيلة وعشيرة..، أو مصلحة حزب وفئة.. جعلها في خدمة المثل العليا والقيم النبيلة، بل ومصلحة البشرية عمومًا.
لقد ألغى الإسلام كل مظاهر العبودية لغير الله سبحانه وتعالى؛ كتقديس الأشخاص، والأعراف القبلية، وعاداتها، والانسياق معها باطلًا دون تبصُّر، إلا لمجرد الهوى واجتماع الناس عليها وردَّ النَّاس إلى وظيفتهم التي ما خلقهم الله سبحانه وتعالى إلا للقيام بها، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإْنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذّاريَات:56 ].
وغيّر المفهوم الجاهلي لمقولة: (انصر أخاك ظالِمًا ومظلومًا) وبيّن معناها الصحيح في الحديث عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا».
فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قالَ:«تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنَ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ» [البخاري (ح: 6952)].
بل في استيضاح الصحابي من النبي صلى الله عليه وسلم بيان كيف أن الفطر تأبى الظلم، رغم أنه نشأ جزءًا من عمره في مجتمع يغصُّ به؛ لكن لما اهتدى بهدي الإسلام صار غريبًا لديه أن يكون رسوله موصيًا بنصرة الظالم.
كما ألغى الإسلام العصبية الجاهلية، والطبقية الممقوتة، وحرَّمها وحذَّر منها؛ وقرر أن التفاضل بالتقوى والعمل الصالح فقط، قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
ولكم أكَّد النبيُّ صلى الله عليه وسلم على هذا الميزان الإلهي المقدس بأحاديث كثيرة، منها ما جاء عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّصلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ، أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً، فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» [مسلم : ح (1848) ].
وكذلك كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالمرصاد لكل محاولات المنافقين للعودة بالمسلمين إلى رجس الجاهلية ونتن عصبيتها، ومن تلك المحاولات الفاشلة للمنافقين في إذكاء العصبية الجاهلية، وتدمير عقيدة الولاء والبراء، والتي تصدى لها النبي صلى الله عليه وسلم بحسم، وحزم شديدين حفاظًا على عقيدة الولاء والبراء ذلك الموقف الذي جاء خبره عن جابرِ رضي الله عنه، قال : (كُنَّا فِي غَزَاةٍ فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ!،وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَسَمَّعَهَا اللَّهُ سبحانه وتعالى رَسُولَهُ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: مَا هَذَا؟
فَقَالُوا: كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ المُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ: يَا لَلْأَنْصَارِ! وَقَالَ المُهَاجِرِيُّ: يَا لَلْمُهَاجِرِينَ! فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» [البخاري(ح: 40905)، ومسلم(ح: 2584]، فتأمل ماذَا فعل شياطينُ الجنِّ والمنافقون عندما أرادوا القضاء على الإسلام!
لقد علموا أنه لا سبيل لهم إلى القضاء على الإسلام في ظل وَحْدَةِ المسلمين، وأُلْفَتِهم، وأيقنوا أن السبيل الوحيد لذلك هو التفريق بين المسلمين، وإشعال الفتن بينهم.
ولإيقاد الحرب بين المسلمين لم يجدوا أفضل من إذكاء الروابط الباطلة، وإحياء العصبية
الجاهلية التي أماتها الله عز وجل بالإسلام.
وتأمل إلى أين ردهم النبي صلى الله عليه وسلم! ردهم إلى الوَحْدَةِ الإسلامية؛ ووصف صلى الله عليه وسلم الانتماءات الجاهلية، والروابط العصبية بأنها منتنة.
وتأمل سرعة استجابة الصحابة رضي الله عنهم لندائه صلى الله عليه وسلم!
وكان في ضبط التشريع الإلهي لهذه الفطرة نموذج للكمال، حيث كان يدور على رؤية ثابتة وقواعد مستمدة من نصوص الشريعة، ومن رؤيتها العامة تجاه الإنسان والكون والحياة، ولم يترك الأمر للنفس البشرية الضعيفة تستأثر بها، وتوجهها وفق مصالحها الشخصية أو الفئوية أو القومية الضيقة تحب وتكره، وتوالي وتُعادي حسب أهوائها وأمزجتها المتقلبة ونزواتها الطائشة دون أي ضوابط وقيود.
وهذا هو بيت القصيد في المسألة، حيث التشريع الرباني قد ضبط الحب والبغض الغريزي، واستخدمه في سبيل الدعوة إلى الخير، والكفّ عن الشرِّ، وجعله نوعًا من أنواع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ووفق هذه الأطر والضوابط الشرعية فإن عقيدة الولاء والبراء تجاه المسلمين من المبتدعة، أو ممن خلطوا عملًا صالِحًا وآخر سيئًا، وهو ما يعرف بالفاسق الْملِّي، تكون بصورة نسبية، فيُحبُّ، ويُوَالى المبتدع، أو العاصي على قدر إيمانه وتوحيده، واتباعه، ويكره ويُعادى على قدر بدعته، ومخالفته.
وهكذا جاء دين الإسلام العظيم مُنَظِّمًا لهذه الغريزة الفطرية وموجهًا لما فيه مصلحة المجتمع كله، وليس لمصلحة فرد أو طائفة بل لخدمة البشرية كلها.
ومن تدبر تشريعات الإسلام علم كيف أولى الإسلام هذا الجانب عنايته ولم يتركه للأهواء تتقاذفه وتميل به حيث شاءت، ومن أمثال هؤلاء من تناول موضوع الولاء والبراء بإفراط، فانسحب ولاؤه وبراؤه على إخوانه المسلمين في كل بادرة، وصار سيفًا باترا يقطع به رقبة كل عاص، وربما اتهمه في دينه لأقل تقصير، تذرعًا بأن ذلك ما وقع منه إلا استهانة بمولاه الكريم.
وربما استحل من خلاله أموال الناس أو ودائعهم أو أعراضهم بحجة أنهم كفار خارجون عن الملة، وهذا شطط وتضييع للمعاني الإنسانية التي أوجبها الشرع مع المسلم وغير المسلم.
- التصنيف:
- المصدر: