اختلاف ويسر لا خلاف وعسر
أيها الدعاة رفقًا بالناس، نحتاج بشدة أن نكون قريبين من قلوبهم، أن نخاطبهم على قدر عقولهم وطاقاتهم، أن نبين لهم حقيقة الإسلام
في زمن ابتعد فيه كثير من الناس عن الدين وكثرت الفتن، ونجحت وسائل الإعلام في تشويه نظرة البعض تجاه الملتزمين، بل وبعض علماء الدين وأئمتهم؛ لابد من وقفة للدعاة ومراجعة أساليبهم للوصول إلى قلوب الناس وجذبهم لدعوتهم، عليهم أن يبشروا ولا ينفروا، أن ييسروا ولا يعسروا، أن يجمعوا ولا يفرقوا بين المسلمين، أن يقبلوا الخلاف السائغ ولا يلوموا أو يبدّعوا من خالفهم مالم يأخذ برأي شاذ، أن ياخذوا بالأيسر والأسهل مالم يكن إثمًا أو مكروهًا.
ولا أقصد هنا تتبع رخص المذاهب الفقهية، فتتبع هذه الرخص أخذًا بالأيسر مطلقًا، دون مرجّح شرعي، ودون تقليد العامي لمن يظنه الأعلم، بل على سبيل التشهي واتباع الهوى منكر لا يجوز، وأما الأخذ بالرخص والتلفيق بين المذاهب اجتهادًا وترجيحًا أو تقليدًا من العامي لمن يعتقده الأعلم والأوثق من العلماء فلا حرج فيه.
والمسائل الخلافية في الأحكام الشرعية كما ورد في معجم لغة الفقهاء هي: "المسائل الفقهية التي لم يتفق عليها من يعتد بخلافه من العلماء".
وقد فرق بعض العلماء بين الخلاف وبين الاختلاف في الاصطلاح، من أربعة وجوه ذكرها أبو البقاء الكفوي في كلياته، وهي أن:
1- (الاختلاف): ما اتحد فيه القصد، واختلف في الوصول إليه، و(الخلاف): يختلف فيه القصد مع الطريق الموصل إليه.
2- (الاختلاف): ما يستند إلى دليل، بينما (الخلاف): لا يستند إلى دليل.
3- (الاختلاف): من آثار الرحمة، بينما (الخلاف): من آثار البدعة.
4- (الاختلاف): لو حكم به القاضي لا يجوز فسخه من غيره، بينما (الخلاف): يجوز فسخه.
وخلاصة قوله: إنه إذا جرى الخلاف فيما يسوغ سمي اختلافاً، وإن جرى فيما لا يسوغ سمي خلافاً.
لقد جاء الإسلام بالتيسير والتبشير؛ يقول تعالى : ﴿ {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ } ﴾ [ سورة البقرة – 185]
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( { ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه } ) [رواه البخاري] .
وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي رواه البخاري: ( «إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين» )، ودعانا إلى الرفق والرحمة ومراعاة حال الناس فهو دين الرحمة، قال الله تعالى: ﴿ {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} ﴾ [الأنعام: 54].
ينظر المفتي في حال المستفتي ويفتيه بما يناسبه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء شاب فقال: يا رسول الله، أقَبِّل وأنا صائم؟ قال: " لا "، فجاء شيخ فقال: أقبل وأنا صائم؟ قال: " نعم " قال: فنظر بعضنا إلى بعض، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قد علمت لم نظر بعضكم إلى بعض، إن الشيخ يملك نفسه» ". رواه أحمد.
وكما يراعي حال المستفتي يراعي حال الزمان والمكان فما يصلح في بلد أو بيئة لا يصلح لغيرها.
قال الشيخ سليمان الرحيلي في دورة فقه المعاملات المالية المعاصرة:
(إن من الأصول المتقررة عند أهل العلم مراعاة حال المستفتي، فحال المستفتي أو الحال تؤثر في النظر إلى القضايا وحال المستفتي قد تكون عامة في البلد وقد تكون خاصة بالمستفتي، فينبغي على المفتي أن يعرف حال من يستفتيه أو حال البلد الذي يستفتى عن واقعة فيه؛ حتى لا يخطأ الحكم أو لا يترتب على فتواه مفسدة متعدية، وينبغي على المستفتي إذا استفتى أحدًا من أهل العلم ليس من البلد أن يبين له الحال وأن يوضح حال البلد أو حال المستفتي) انتهى.
أيضا يراعي مقدار تدين وورع من يحدثه، فما يصلح لأصحاب الهمة العالية لايصلح لغيرهم ممن بعدوا عن الطريق، وانغمسوا في المعاصي، ونفروا من كل ماله علاقة بالدين.
فليس من الحكمة أن أحدث فتاة متبرجة كاسية عارية ترفض الحجاب عن فرضية تغطية الوجه وأتمسك بهذا المذهب، لماذا لا أحببها في الستر وفي الحجاب بشروطه أولًا، ونترك الاختلاف في مسألة الوجه والكفين عندما تكون مستعدة لتقبل ذلك؟
إحتط أنت لدينك وخذ بأشد الأقوال ورعًا إذا أردت ذلك، لكن ارأف بحال الناس ولا تكلفهم ما يشق عليهم.
حكى مطرف عن مالك أنه قال : كان مالك يستعمل في نفسه ما لا يفتي به الناس - يعني العوام - ويقول : لا يكون العالم عالمًا حتى يكون كذلك، وحتى يحتاط لنفسه بما لو تركه لم يكن عليه فيه إثم.
ينشأ الشاب على مذهب معين تبعًا لشيوخه الذي يسير على نهجهم ويطمئن لعلمهم، ومع حماسة الشباب ومن باب الغيرة على الدين نجد تعصبًا شديدًا للمذهب عند البعض، جعلهم يتهمون كل من خالفه بالبدعة والبعد عن نهج السلف وأنه جانب الصواب، نسوا أو تناسوا باقي المذاهب وأئمتهم العظام وآراءهم وما قدموه لخدمة الدين، أنكروا حتى الخلاف السائغ، فكانت النتيجة كارثية بكل المقاييس.
فإذا انتشر في هذا البلد الفتوى على مذهب آخر، ينشأ اختلاف بين فتاوى الفريقين، والاتهام جاهز بين هؤلاء وأولئك مابين تساهل وتفريط من أتباع الفريق الذي يبيح فعلًا معينًا ، وتشدد وتنطع لأتباع الفريق الآخر الذي يحرم ذلك الفعل ، وتُعلن الحرب على كل صعيد - خصوصًا في بعض المواسم - وكل متمسك برأيه يظن أنه صواب وماعداه خطأ.
قد ينفرد إمام جليل من أئمة المذاهب الفقهية ببعض الأحكام أو يوافقه البعض ويخالفه البعض في مسائل منتشرة كحكم تقديم صيام التطوع - كصيام ٦ من شوال - على صيام القضاء، وحكم دفع زكاة الفطر نقدًا وغيرها من المسائل كثير، وتبدأ معركة الرسائل الدعوية على وسائل التواصل الاجتماعي ، وتليها الاتهامات المتبادلة بالتشدد أو الابتداع.
كثيرا ما دخلت في نقاش مع بعض الأخوات غير الملتزمات وكرههن للإلتزام والملتزمين بسبب تشدد الملتزمين والشيوخ، وعدم سماعهن لهم بسبب أنهم يجعلون كل شيء حرامًا وبدعة، وبعد نقاش عرفن أن أغلب هذه المسائل خلافية، وبينت الفرق في آراء المذاهب فكان الذهول، لماذا إذًا لا يقول الشيوخ باقي الآراء ؟
من حق الداعية أن يتمسك بمذهبه وأن يفتي به، لكن نريد أن نخفف عن الناس، أن نحببهم في الالتزام والدين، أن نربيهم على أدب الاختلاف وقبول الرأي الآخر مادام مستندًا إلى رأي شرعي ودليل معتبر، لماذا لا يقول المفتي في مسألة آراء الأئمة كذا والمفتى به عندنا أو ما أراه صوابًا هو كذا ويترك الخيار للآخر للأخذ بالرأي الذي يقتنع بدليله أو يناسب وضعه وظروفه.
نرى مثلا بعض الفتاوى تذهب إلى أن جداول الطاعات بدعة، وأن تسميع القرآن كتابيًا في حلقات القران على وسائل التواصل بدعة، وغيرها من بعض الأمور المستحدثة بهدف التعاون على البر والتقوى والتشجيع على فعل العبادات، يرون أنها بدعة لأن الصحابة لم يفعلوها، إن الصحابة لم يتهاونوا في صلاة ولا عبادة، لم يكونوا بحاجة لمن يحببهم في طاعة أو يشجعهم عليها، لكننا في زمن نحاول بشتى الطرق والوسائل أن نحبب الناس في الطاعة ونيسر لهم الأسباب التي تعينهم على أدائها.
أيها الدعاة رفقًا بالناس، نحتاج بشدة أن نكون قريبين من قلوبهم، أن نخاطبهم على قدر عقولهم وطاقاتهم، أن نبين لهم حقيقة الإسلام ووسطيته ويسره وكونه دين الفطرة، وأن كل ما كان فيه مشقة فليس من الدين، حتى نحببهم في شرع الله وحتى لا يتجهوا إلى من ليس لهم علم فيفتوا على هواهم بعيدًا عن أحكام الشرع.
- التصنيف: