الإسلاميون يجددون روح الثورة
ملفات متنوعة
نجح الإسلاميون بامتياز أمس في تنظيم المليونية الضخمة والمهيبة ، على
مستوى التنظيم وعلى مستوى الأمن وعلى مستوى الرعاية الطبية ، كما
نجحوا في الوفاء بالتزامهم كاملا بعدم المساس بأحد من المعتصمين ، وأن
لا يلجأوا إلى إنهاء اعتصامهم ..
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
في تراث الحكمة العربية يقولون "إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة" ، وهذا ما أستشعره وأنا أكتب الآن معلقا على المشهد المهيب الذي عاشته مصر أمس في ميدان التحرير وميدان القائد إبراهيم بالاسكندرية وميادين أخرى في عموم مصر ، إذ يصعب ـ للأمانة ـ أن تجد العبارة التي تصف بدقة صورة ودلالة هذا الحشد المذهل الذي تجاوز حسب بعض التقديرات أربعة ملايين مواطن مصري ، خرجوا ليؤكدوا ـ قبل أي شعارات أو مطالب ـ أن مصر تموج بالحيوية والقوة ، وأن الشعب المصري عرف طريقه إلى الحرية ، وأن ثورته لن تنطفئ جذوتها قريبا ، بل هي تتفاعل وتزداد قوة وتوهجا ، رغم أن "الزبد" الذي يطفو على سطح المشهد السياسي بفعل تزوير فضائي متعمد ، كان يعطي انطباعات كئيبة ومحبطة وعبثية ، محتها بالكامل أمس مليونية الإرادة الشعبية .
مليونية الأمس كانت للإسلاميين بامتياز ، وقد ساعد على إبراز هذا المعنى انسحاب بعض المجموعات السياسية من الميدان قبل الظهر بدعوى الاعتراض على رفع شعارات "إسلامية" لم يتفق عليها ، ولكن جوهر سبب الانسحاب هو وضوح هامشية تلك القوى ومحدودية تواجدها وسط هذا الطوفان البشري الذي لم تر العين مثيله منذ جمعة الرحيل ، وفي تقديري أن هذه المليونية ـ برغم روحها الإسلامية ، وربما بسبب تلك الروح التي هيمنت عليها ـ ستكون إيجابية للغاية في تجديد روح الثورة المصرية ، وإعادة التوازن والاعتدال إلى قواها السياسية المختلفة ، وتقليل نزق بعض الشباب وتطرفهم ، لأنها كافية وزيادة لإقناع الجميع بأن مصر أكبر من أي فصيل له صخب في بعض الأوقات أو نفوذ في بعض الفضائيات ، وأن صمت بعض القوى الوطنية والشعبية لا يعني أنها غير حاضرة ، وأنه ينبغي احترام صمتها أكثر من احترام غضبها ، وهذا الوعي الجديد الذي أرجو أن يكون قد وصل بوضوح كاف ، هو الذي سيدفع كل تيارات الثورة المصرية إلى إعادة النظر في "شطط" الانفراد بحراك الثورة وقراراتها ، ويلزم الجميع بالعودة إلى الائتلاف والتنسيق وجماعية القرار الثوري .
مليونية الإسلاميين أفزعت قطاعات عديدة من اليساريين والليبراليين ، وهذا مفهوم ، لأن الحشد كان مذهلا والملايين التي تسد عين الشمس أحرجت الجميع ، من تاجروا بالميدان ، ومن تاجروا بالفضائيات ، ومن العيب أن يحاول بعضهم تفسير فزعه بأنها رفعت شعارات إسلامية بدعوى أنها غير توافقية وعليها خلاف ، وهذا كلام خطير للغاية ، فهل هوية مصر العربية الإسلامية أصبحت محل خلاف بين المصريين ، وهل احترام مرجعية الشريعة الإسلامية أصبحت محل خلاف بين المصريين ، إن مثل هذا الكلام يعطي مشروعية كاملة لمخاوف الإسلاميين وإصرارهم على التأكيد على هذه المطالب ، لأنه أمر مقلق جدا أن يتحدث "البعض" عن أن هذه النقاط التي تمثل جوهر مصر وروحها ودينها وحضارتها وتاريخها ، هي محل خلاف وغير توافقية ، فعلى أي أساس روج نفس هؤلاء بأن المادة الثانية للدستور ليست محل خلاف ، وعلى أي أساس "يدجلون" في الفضائيات بأن التيارات الأخرى لا تعترض على هوية مصر بعروبتها وإسلامها .
الإسلاميون أكدوا على مطالب الثورة كاملة ، وفي مقدمتها القصاص لقتلة الثوار ، ومحاكمة مبارك ومنظومة الفساد كلها والتزام المجلس العسكري ببرنامج زمني محدد لنقل السلطة إلى المدنيين من خلال انتخابات حرة ، ولكنهم أضافوا إلى ذلك "نبض قلوبهم" المتعلق بالإسلام كهوية ومرجعية شريعته في شؤون الدولة ، والذين يقولون أن الشعارات الإسلامية غير توافقية ، عليهم أن يسألوا أنفسهم ، هل الآن فقط نتذكر التوافقي وغير التوافقي ، وهل كانت شعارات سب وشتم المجلس العسكري في ميدان التحرير كل جمعة توافقية ، وهل كانت شعارات الدستور أولا توافقية ، وهل كانت مطالب المجلس الرئاسي المدني توافقية ، وهل كانت إملاءات أسماء بعينها لرئاسة الحكومة أو الوزارة توافقية ، وهل كانت المسيرة المجنونة إلى المجلس العسكري توافقية ، وهل كان طرد فارس الثورة الدكتور صفوت حجازي من ميدان التحرير بالتوافق أيضا ، على كل حال ، حسنا أن نتذكر ضرورة التوافق في حراك الثورة ، ولنبدأ من الآن .
نجح الإسلاميون بامتياز أمس في تنظيم المليونية الضخمة والمهيبة ، على مستوى التنظيم وعلى مستوى الأمن وعلى مستوى الرعاية الطبية ، كما نجحوا في الوفاء بالتزامهم كاملا بعدم المساس بأحد من المعتصمين ، وأن لا يلجأوا إلى إنهاء اعتصامهم ويحترموا اختيارهم ، وإن وجهوا لهم الدعوة المخلصة بأن ينهوا الاعتصام الآن انتظارا لما تسفر عنه جهود الحكومة الجديدة ، كما نجحوا في التأكيد على رغبتهم في التكامل والتعاضد مع بقية قوى الثورة المصرية ومختلف التيارات والأحزاب والقوى الوطنية ، وإصرارهم في كل منصاتهم وأحاديثهم على أن تكون المرحلة المقبلة هي مرحلة المشاركة والتوافق وليس المغالبة والإقصاء ، وأن يكون البرلمان المقبل معبرا عن تنوع الخريطة السياسية ولو اقتضى ذلك النزول بقوائم موحدة ، وأن تكون الحكومة المقبلة حكومة ائتلافية لا ينفرد بها تيار دون غيره ، وأن يكون الدستور المقبل معبرا عن روح مصر الجديدة وأشواق كل أبنائها ، ويحمل ضمانات للجميع بسيادة قيم العدالة والمساواة وسيادة القانون والحريات العامة والتعددية .
لم يسعدني كثيرا إفراط المتظاهرين في اللافتات التي تعبر عن حبهم للشريعة وتمسكهم بهوية مصر الإسلامية ، لكني مقدر أن كثرة اللافتات لم تكن تعبيرا عن رغبة في استفزاز أو استعراض عضلات ، كما يحلو للبعض أن يروج ، بقدر ما كانت قلقا زائدا من كثرة الهجوم على الشريعة وعلى الهوية الإسلامية ، خاصة بعد تهميش الإعلام الرسمي والخاص ، صحفا وفضائيات ، للإسلاميين ، وتعمد "الميديا" بالكامل تقريبا تغييب الصوت الإسلامي حتى ظن البعض أنه غير موجود ، فأرادوا إثبات أشواقهم في الشارع والميدان بعد أن حرموا طويلا من إثباتها في الإعلام ، ولكني أتصور أن الرسالة الآن وصلت ، كما أن الشريعة والإسلام ليست في معرض خطر حقيقي في مصر ، لأنهما اختيار وإجماع شعب بكامله وليس تيارا أو حزبا ، وأن الإسلاميين مطالبون في المرحلة المقبلة بالاهتمام والتأكيد على المطالب التي تتعلق بالحرية والكرامة وتفكيك مؤسسات القمع واستقلال القضاء وسيادة القانون وتطهير الجهاز الإداري والأمني وضمانات حياة سليمة وشفافة ، فهذا هو التحدي الحقيقي ، وهنا مكمن الخطر الذي ينبغي أن نكون على يقظة كاملة تجاهه في تلك اللحظة التاريخية .
30-07-2011 م
المصدر: جمال سلطان - جريدة المصريين