كي لا ننسى الإبادة الجماعية لمسلمي بلدة سربرنيتسا
سهام عبيد
دخلت القوات الصربية بقيادة المجرم (ملاديتش) إلى سربرنيتسا في الحادي عشر من يوليو 1995، وأبادت كل سكان البلدة. وعندما دخل المجرم ملاديتش إلى البلدة صرّح قائلًا: "الوقت قد حان أخيرًا للانتقام من الأتراك"!
- التصنيفات: أحداث عالمية وقضايا سياسية -
كي لا ننسى.. الإبادة الجماعية لمسلمي بلدة سربرنيتسا (البوسنة والهرسك)
الحادي عشر من يوليو عام 1995 (11/7/1995)
تبدأ الحكاية (باختصار) عندما تفككت يوغسلافيا واستقلت بعض الدول عنها، وقامت البوسنة والهرسك بإقامة جمهورية مستقلة وعمل استفتاء صوت فيه الناخبون بنسبة 98% لصالح الاستقلال عن يوغسلافيا. لكن صرب البوسنة لم يعجبهم ذلك الأمر وقرروا بدء الحرب لإبادة المسلمين من البوشناق. وكانَ ذلكَ بدايةً لعمليةِ التطهير العرقي الممنهجة التي شملت عمليات الترحيل، والإبادة، وما يسمى بـ"إعادة التوطين الإنساني"، بالإضافة إلى قتل غير الصرب، وكلُ ذلك بهدفِ إنشاء مناطق صربية عرقية خالصة، لتصبحَ في نهايةِ المطاف جزءًا من "صربيا الكبرى" المتخيلة.
بدأت الحرب في البوسنة عام 1992، واستُهدِفت بلدة سربرنيتسا الصغيرة ذات الأغلبية المسلمة والواقعة في شرق البوسنة منذ بداية الحرب. وفي الثامنِ عشر من أبريل عام 1992 (ألفٍ وتسعمائة واثنينِ وتسعين)، استولى جيشُ الصرب على بلدةِ سربرنيتسا لفترةٍ وجيزة قبل أن تستعيدها القواتُ الموالية للبوسنة في الثامن من مايو من نفس العام. وبعد ذلك، أصبحت سربرنيتسا واحدة من الأراضي القليلة التي لم تخضع أبدًا لسيطرة جيش صرب البوسنة. وخلال ذلك العام، نزح الكثير من المسلمين من المناطق المجاورة إلى بلدة سربرنيتسا؛ تلك البلدة الصغيرة الأبية التي لم تخضع لسيطرة الصرب.
طوّق الصرب البلدة بالكامل، ومنعوا دخول قوافل المساعدة إليها، وباتت البلدة الصغيرة تئن تحت الحصار والقصف المتكرر. وفي عام 1993، قام مجلس الأمن بإعلان بلدة سربرنيتسا (منطقة آمنة) تابعة للأمم المتحدة وأرسل إليها كتائب (لحمايتها)! وقام مسلمي البوشناق في البلدة بتسليم أسلحتهم (مع الأسف) إلى قوة الحماية الدولية التابعة لمجلس الأمن والأمم المتحدة. ورغم خضوعها رسميًا للحماية الدولية (المزعومة)، إلا إنها كانت تتعرض للقصف المستمر من قِبل الصرب. وكان اللاجئون والسكان المحليون يعيشون دون أي غذاءٍ أو دواءٍ تقريبًا.
واستمر الحال على هذا النهج، حتى بدأت المأساة في يوليو عام 1995، عندما شن جيش الصرب هجومًا شاملًا على البلدة المعزولة والمُطوقة. لم يصمد المدافعون طويلًا أمام هذا الهجوم الشامل بعد أن سلموا كل أسلحتهم للأمم المتحدة من قبل. ولم تفعل الأمم المتحدة شيئًا لوقف الهجوم على البلدة الصغيرة التابعة لحمايتها، ولم تحرك الكتيبة الهولندية المكلفة بحماية البلدة ساكنًا، بل إنها انسحبت من مواقعها إلى مقر القيادة في البلدة المجاورة بعد أن قُوبلت جميع طلباتها للدعم الجوي بالرفض. وبعد ذلك رفضت استقبال الهاربين من القصف في مقر القاعدة وطردتهم.
دخلت القوات الصربية بقيادة المجرم (ملاديتش) إلى سربرنيتسا في الحادي عشر من يوليو 1995، وأبادت كل سكان البلدة. وعندما دخل المجرم ملاديتش إلى البلدة صرّح قائلًا: "الوقت قد حان أخيرًا للانتقام من الأتراك"! في إشارة منه إلى حدثٍ تاريخي كان قد وقع قبل مائتي عام من تلك الواقعة في بلغراد!
وفي أعقاب سقوط سربرنيتسا، حاول آلاف الأشخاص الفرار عبر الغابات، كانوا عددهم يقارب 15 ألف شخص معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، لكنهم تعرضوا لقصف متواصل ولم ينج منهم سوى 6 آلاف فقط. وسُميت هذه المسيرة للهروب بـ(مسيرة الموت). وقد استسلم آلاف الأشخاص، ومع ذلك تم اقتيادهم إلى ملعب كرة القدم وإلى المزارع وإلى أماكن أخرى متفرقة وتمت إبادتهم جميعًا، ودفنوا في مقابر جماعية.
وبحلول نهاية يوم الثالث عشر من يوليو، لم يعد هناك تقريبًا أي شخصٍ من مسلمي البوشناق على قيد الحياةِ في سربرنيتسا. كانت عملياتُ القتلِ ممنهجة ومخططةً بدقةٍ وسريعة، ولم تكن هناك أي فرصة لقواتِ مسلمي البوسنة منزوعة السلاح لإبداء أي مقاومة؛ لكن لم تكن هناك أيضًا أي استجابة من المجتمع الدولي وبالأخصِ من الكتيبةِ الهولنديةِ التي كانت موكلةً بحمايةِ منطقة سربرنيتسا المعزولة. وعلى الرغمِ من أن المجتمعَ الدولي كان على علمٍ بالأحداثِ التي وقعت في سربرنيتسا وقتَ حدوثها، إلا إنه لم يُحرك ساكنًا، ولم تتمكن قواتُ حلف الناتو من إرسالِ الدعم الجوي الذي وعدت به.
توقفت الحرب بعد ذلك بوقتٍ قصير بعد توقيع اتفاقيات دايتون للسلام، وأصبحت بلدة سربرنيتسا جزءًا من جمهورية صرب البوسنة، لكن المأساة لم تنتهِ عند ذلك الحد. حاول جيش صرب البوسنة إخفاء آثار تلك الجريمة عن طريق نبش المقابرِ الجماعية، وقام الجيش وأفراد الشعب من الصرب بحفر المقابر الجماعية وتحريك رفات القتلى ونقلها إلى أماكن أخرى أبعد لكي يطمسوا آثار تلك الإبادة. وكشفتِ التحقيقات اللاحقة وتحليلات الحمض النووي أنه خلال صيف وخريف عام 1995، استُخرِجَت جثث الرجال والنساء الذين أُبيدوا من المقابر الجماعية الأساسية ونُقلت إلى مواقعَ أخرى مجهولة. أدى نقلُ الجثثِ واستخدام الجرافات في ذلك إلى حقيقةِ أن الهياكلَ العظميةَ التي عُثر عليها كانت غير مكتملةٍ في الغالب. وهناك حالة لجثة واحدة وُجدت بقاياها في خمسةِ مواقع مختلفة، وكانت المسافة بين القبر الرئيس والموقع الأخير حوالي 30 (ثلاثين) كيلومترًا!
تم البحث بعد ذلك عن جثث القتلى، وبلغ العدد الرسمي لضحايا الإبادة الجماعية في سربرنيتسا 8372 شخصًا حتى الآن. ولا تزال عمليات البحث وتحديد هوية الجثث مستمرة حتى يومنا هذا؛ فالعدد أكبر من ذلك بكثير. فخلال الحرب في البوسنة والهرسك اعتُبِر حوالي 31 (واحد وثلاثون) ألف شخص في عداد المفقودين.
تم افتتاح مركز (بوتوشاري) التذكاري في عام 2003 لدفن ضحايا تلك الإبادة الجماعية، وفي الحادي عشر من يوليو من كل عام، تُقام مراسم تشييع جنازة كل من تم تحديد هوياتهم خلال العام السابق. وتقام مراسم التشييع عند المقبرة التي هي جزء من مركز بوتوشاري التذكاري.
وتمامًا كما فعل العالمُ بالوقوف متفرجًا بكلِ هدوءٍ وسكينة دون أن يحرك ساكنًا بينما كان يُذبح ثمانية آلاف شخصٍ من سربرنيتسا، يقف اليوم أيضًا متفرجًا بلامبالاة على بعض الجرائم الأخرى. وأمة الإسلام لا بواكي لها!