الخلفية الإصلاحية لكتاب "الرسالة المحمدية" المقال الأول

منذ 2019-07-13

وفي غياب الأجزاء التفصيلية لحياة عيسى الإنجيلي، والاضطراب في مضامين وتاريخية الأحداث إبان دعوته، على الرغم من قرب زمانه بالإسلام، وتطور الأبحاث الأركيولوجية -

 

الخلفية الإصلاحية لكتاب "الرسالة المحمدية"، للشيخ سليمان الندوي رحمه الله - المقال الأول-
بنداود رضواني.

هذا المقال والذي يليه، يأتيان استكمالا لأربع مقالات سابقة على صفحات الموقع المتميز" طريق الإسلام"، حملت عنوان " نظرات في كتاب الرسالة المحمدية " للشيخ سليمان الندوي رحمه الله. و التي اهتمت بتقريب هذا الكتاب للمسلمين عموما، وللدعاة بوجه خاص.
هذا الكتاب "الرسالة المحمدية" للندوي رحمه الله، الفريد في مباحثه، غزير في استنباطاته وخلاصاته، جدير كذلك بمطالعته ومدارسته، يكشف عن جغرافية عجيبة للنفس الإنسانية، و يبشر ببوصلة الحق، بوصلة العبودية لله تعالى، من خلال مشروع إصلاحي متكامل إسمه "السيرة المحمدية".
جغرافية تبسط بين يدي العلماء والدعاة معا، تضاريس هذه النفس، بجبالها وسهولها، بوديانها وبراكينها....، مع ما تمنحهم -كذلك- من وعي بالمعالم الفطرية والتشكلات الغرائزية، والتي تعنى بسنن العلاقات الإنسانية، بشتى صنوفها وتقاطعاتها....هذا من جانب، ومن جانب آخر يضع الكتاب كذلك شارات السير الحضاري أمام علماء الأمة ودعاتها، لتدلهم على الوجهة الموصلة إلى المجتمع الرسالي، مجتمع يتسلح بأسلحة الحب والعدل والإخاء....، ويحتمي بحصن العبودية لله تعالى، كل ذلك عبر التزكية المستمرة لنفوسهم، والسمو الدؤوب بأخلاقهم، حتى يصير لحديثهم عبق النبوة الخاتمة، ولحركتهم أريج السيرة المحمدية.
وما هذا المقال والذي يتبعه، إلا محاولة متواضعة لتجلية هذه المقاصد والمعاني، عسى الله ان ينفع بها كل داعية إلى الله، و كل مرشد إلى الخير.
وإني لأغبط الشيخ سليمان الندوي رحمه على مقدار الحب الذي يكنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم -نحسبه كذلك-، يجلي ذلك صبره وتفانيه في خدمة النبوة الخاتمة، كتابة ونشرا، وتعليما وتدريسا، في زمن طوقت العالم الإسلامي الأخطار من كل اتجاه، و شاع الاختلاف والتدابر والتقاتل في الداخل.
فالله أسال جل جلاله أن يكرمنا وإياه والقائمين على هذا الموقع بلذة النظر الى وجه الله الكريم، و بجاور النبي الأمين صلى الله عليه وسلم، يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى الله بقلب سليم.

توطئة:
أصدق الشهادات التي قيلت عن جهود علماء الهند في العناية وخدمة الحديث والسيرة النبوية الشريفين، ما ذكره الشيخ رشيد رضا في مقدمة كتابه "كنوز السنة"؛ إذ يقول : " لولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر؛ لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق؛ فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز؛ منذ القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل القرن الرابع عشر الهجري."، ومنها شهادة عبد الفتاح أبو غدة كذلك؛ في مقدمة كتابه "قواعد علوم الحديث"؛ حين قال: "آثار إخواننا علماء الهند والباكستان في هذا العلم الشريف-علوم الحديث-؛ تجد لديهم الجديد؛ والمفيد؛ والنادر؛ والفريد".

ومؤكد أن هذه الشهادات وغيرها، ناطقة بما قدمته المدرسة الإسلامية الهندية للمكتبة الإنسانية، من كتابات وتآليف تعرف بالمبادئ والعقائد والشخصيات الإسلامية، ولعل أبرزها ما تعلق بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم خاصة، أمثال : كتاب "رحمة للعالمين"؛ للقاضي محمد سليمان المنصورفوري؛ و"محمد رسول الله"، لمحمد علي اللاهوري؛ و"أمير السير في حال خير البشر"؛ لمحمد بهادر علي خان الدهلوي؛ و"الطريق إلى المدينة"؛ و" السيرة النبوية"؛ لأبي الحسن الندوي، و"الرحيق المختوم"، للمباركفوري الأعظمي، و"سيرة النبي صلى الله عليه وسلم"؛ في سبع مجلدات، من تأليف العلامة الشبلي النعماني و سليمان الندوي، و"الرسالة المحمدية" -موضوع هذه المقالات-؛ لسيمان الندوي كذلك، وغيرها.....، مما خطه علماء المسلمين في شبه الجزيرة الهندية، حول حياة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، حتى اشتد طلب الباحثين إلى حصر هذه التآليف الهندية، والإحاطة بها جميعا، لوفرتها وغزارتها، لدرجة أن لغة هذه المؤلفات-اللغة الأوردية-؛ أضحت ثاني اللغات خدمة؛ وتأليفا؛ ونشرا لمسيرة النبوة المحمدية

"الرسالة المحمدية" في مواجهة التنصير:
كتاب "الرسالة المحمدية"؛ أو ما يعرف كذلك ب "محاضرات مدراس في السيرة النبوية"، للعالم سليمان الندوي رحمه الله، و سميت بذلك تبعا لمحل إلقائها وهو "جامعة مدراس". كان ذلك في سنة 1925م. و"مدراس" هي إحدى أكبر مدن الجنوب الهندي.

وقد تبدو هذه المحاضرات- للبعض- خطبا حماسية؛ تدغدغ مشاعر الحاضرين، أو عروضا إخبارية؛ تحكي أطرافا من حياته عليه الصلاة والسلام، مجردة عن الهموم التي يكابدها الإنسان الهندي؛ وبعيدة عن المشاكل التي تطوقه من كل جانب، بفعل الإنحرافات العقدية والأخلاقية، والمخططات الإستعمارية. والواقع أن محاضرات "مدراس" لا تحمل مشروعا إصلاحيا خاصا فقط بالهنود، بقدر ما تقدم تجربة إنسانية فريدة عز نظيرها، لعموم الناس دون استثناء، كما أنها توفر أدوية للأدواء: النفسية، والفكرية؛ والإجتماعية؛ والسياسية، والأخلاقية... ، التي تفتك بالحضارة الإنسانية، وفي نفس الآن تجيب بمسلك ضمني عن أسئلة الخلاص من براثن التبعية والإستعمار، انطلاقا من سيرة محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، ورسالته الخالدة.

ويشهد تاريخ شبه الجزيرة الهندية أوائل القرن التاسع عشر الميلادي- أي قبيل الإحتلال البريطاني بسنوات قليلة- على الحملات التنصيرية المحمومة التي استهدفت الهنود المسلمين أكثر من غيرهم، بزعامة كل من مبعوث المعهد التنصيري السويسري إلى بلاد الهند؛ هنري مارتين (ت1812م)، وخلفه كارل فاندر الألماني (ت 1865م) ، وقد عانت هذه الحملات من مقاومة شديدة لعلماء المسلمين، أمثال: الشيخ آل حسن بن وحيد الدين، والسيد محمد هادي اللكنهوي، وعميدهم رحمة الله الهندي صاحب الكتاب المعلمة " إظهار الحق".

ويبدو أن سليمان الندوي قد اغترف من التجارب العملية لهؤلاء العلماء وغيرهم، و نهل من معين تصنيفاتهم العلمية الناطقة بالأوردية في باب التوحيد، ومباحث الملل والنحل، كما اهتم بأمهات الكتب العربية في علم مقارنة الأديان، بحكم عنايته الواسعة بلغة الضاد، أضف لذلك اطلاعه على مختلف الدارسات الغربية المهتمة بنقد الكتاب المقدس. كل ذلك مكنه من سبر أغوار اليهودية والمسيحية بوجه خاص، وكشف عيوبهما، وتجلية مثالبهما ونقائصهما.

ففي المحاضرة الثانية، وإثر حديثه عن شرط التاريخية- كشرط من شروط الأسوة المثالية -، يبرز الشيخ سليمان أن أحوال عيسى مسجلة في الأناجيل- وفق رواية الكنيسة -، لكن الأناجيل كثيرة، أي حين أن الكنيسة لم تعترف إلا بأربعة منها!!، كما أن كتاب الأناجيل لم يلتقوا بعيسى، ولا تصح نسبة الأناجيل إليهم. ناهيك عن الإضطراب في تاريخ ولغة كتابتها، لذا ينتصر المحاضر لرأي المجلة الأمريكية الشهيرة في زمانه"روبن كورت"، القائل بضعف الواقعية التاريخية لعيسى الإنجيلي، وهذا الرأي خلاصة شهر كامل من النقاش والحوار على صفحات المجلة حول ( وجود المسيح هل هو حقيقي، أم أسطورة وخيال؟).

وفي غياب الأجزاء التفصيلية لحياة عيسى الإنجيلي، والاضطراب في مضامين وتاريخية الأحداث إبان دعوته، على الرغم من قرب زمانه بالإسلام، وتطور الأبحاث الأركيولوجية - كل ذلك ولد استغراب الباحثين بداية دراستهم لحياة المسيح، ثم أورثهم الفشل في الوقوف على حياة عيسى وأحواله في النهاية! كما حصل مع الفيلسوف الفرنسي أرنست رينان في كتابه "حياة المسيح"، والشواهد كثيرة ومثيرة في هذا الباب.

لقد استند الإمام سليمان حين الحديث عن زعيمي الكتاب المقدس إلى منهج التحليل والتركيب، أولا تحليل ودراسة نماذج نصية من الكتاب المقدس داخليا وخارجيا، متنا وسندا، لاستخلاص مواطن العيب ومراكز النقص في سيرة الزعيمين، ثم ثانيا الانتقال إلى تركيب الصورة الواجب أن تكون عليها السيرة النموذجية، والقدوة الإنسانية، من خلال وضع شروط أربعة: الواقعية، التاريخية، مواصفات الكمال البشري، واجب الإحاطة والشمول، وأخيرا ضرورة الترجمة العملية للقضايا العقدية والأخلاقية على أرض الواقع. ليخلص الشيخ بالحاضرين إلى الإنسان الأنموذج الذي تنزه عن جميع معايب ونقائص الزعماء الدينيين الآخرين، وحضي بشروط الأسوة المثالية والسيرة النموذجية، والمتجسدة في صاحب الرسالة الإسلامية، محمد صلى الله عليه وسلم.

ولعل من بين أهم الخلفيات التي يستبطنها المحاضر في بيانه هذا: - هدم الأساس الديني الذي قامت عليه المسيحية في مشروعها التنصيري من القواعد، إذ كيف يستقيم أن ينهض المنصرون بالدعوة لعالمية الإنجيل تلبية لنداء الكنيسة، وإنجيلهم يذكر على لسان عيسى أن دعوته خاصة بخراف بني إسرائيل الضالة!!، وثانيا : فتكمن في بث روح الإعتزاز بالدين الإسلامي، والإقتناع به مشروعا متكاملا لجميع مناحي الحياة، وأما الخلفية الثالثة؛ فمد الحاضرين بأدوات وآليات الجدل والحوار مع المنصرين، خصوصا وأن غالبية من يصغي إليه هم من الطلبة والمثقفين المسلمين.

"الرسالة المحمدية" وتدوين السنة، شبهات وردود:

من بين المسلمات التي أنتجتها الأبحاث والدراسات الإستغرابية - في مقابل الدراسات الإستشراقية -، أثناء تفكيكها لمفردات الغرب الحضارية؛ التلازم القائم بين ثلاثي السيطرة والخداع: التنصير، الإستشراق؛ والإستعمار، لذا من ضروب المحال أن نعثر على مشروع استعماري يستهدف الدول الإسلامية، دون أن يتكأ على هذه المتلازمة الثلاثية: بطش الآلة الحربية، وشبهات الإستشراق الفكرية، ومغالطات التنصير الدينية.

وكما تكشف محاضرات "الرسالة المحمدية" عن عورة الكتاب المقدس، وتعري لاهوت التنصير أمام الحاضرين، فإنها كذلك تغيت إبطال مزاعم المستشرقين، ودفع شبهاتهم، والوقوف أمام محاولاتهم الهدامة التي تستهدف الأسس والأركان التي قامت عليها السنة النبوية، جمعا وتدوينا، تحقيقا وضبطا.

ولقد جابه المحاضر رحمه الله هذه المزاعم والشبهات، بحكمة بالغة، وبصيرة نافذة، ومكنته-بضم الميم- من تفاصيل وجزئيات سنة محمد صلى الله عليه وسلم، يبدو ذلك عيانا في محاضرته الثالثة " الجانب التاريخي للسيرة النبوية "، إذ لم يهتم فيها بكرنولوجيا الإستشراق، ولا بجرد كتب المستشرقين، أو الترجمة لأسماء قادتهم وأساتذتهم، باستثناء حديثه العارض عن هؤلاء الثلاثة، الألماني "لويس شبر نغر، ت1893م"، والأسكتلندي"وليم موير، ت 1905م"، و"جولد تسيهر، ت1921م"، بقدر ما كان حريصا على تعزيز وثاق المسلمين الهنود بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وتبصير الطوائف الغيرية- من البوذيين، والبرهمانيين، والعلمانيين، وغيرهم.... ، بالطرق العلمية التي سلكها المسلمون في جمع وتوثيق كلام نبيهم عليه الصلاة والسلام، كل هذا في سبيل نسف أوهام وأباطيل الفكر الإستشراقي، ممسكا من أجل ذلك -رحمه الله- بالوقائع التاريخية لمسيرة الرسالة المحمدية، ومتسلحا في ذات الوقت بمنهجي الإستقراء والإستنباط لبلوغ الهدف من هذه المحاضرات، والغاية من عرضها.

لقد اتجهت سهام الإستشراق المسمومة منذ نشأته الأولى، نحو تدوين الحديث وكتابته، والقصد من ذلك هو الطعن في موثوقية الأحاديث وصحتها، وبالتالي نزع القداسة عن القرآن جملة وتفصيلا، نظرا للارتباط الوثيق بين كلام الله، و كلام رسوله عليه الصلاة والسلام.

ولإبطال فاعلية سهام التشكيك والتكذيب هذه، أثبت المحاضر البراهين النصية والأدلة العقلية التي تجاهلها المستشرقون، وكشف منهجهم القائم على الإنتقائية النصية، والإنتهازية الفكرية، فأورد لهذا الغرض القول الصحيح، في تاريخ بدء تدوين السنة في الصحائف والكتب، وأزال الأراجيف، التي تدعي بهتانا وزورا، بأن السنة لم تكتب إلا في القرن الثاني الهجري، معززا رأيه هذا بالجهود المبكرة لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه في تدوين السنة النبوية، بل ومستشهدا بروايات كثيرة رافقت البدايات الأولى للتدوين زمن النبي صلى الله عليه وسلم، من أبرزها الكتب والرسائل التي بعث بها إلى الملوك والسلاطين، وإذنه لكثير من الصحابة رضي الله عنهم بتدوين كلامه، كما الحال يوم فتح مكة، عندما استأذنه أبو شاه رضي الله عنه في كتابة خطبة الفتح، فأذن له. وأما روايات منعه صلى الله عليه وسلم للصحابة من كتابة الأحاديث، فمرد الأمر فيها -حسب المحاضر- إلى ثلاثة أمور:
1- الخوف من أن يلتبس القرآن بغيره على عامة المسلمين في بداية الإسلام وتنزل الوحي، 2- الخشية من عدم اهتمام الناس بحفظ الأحاديث، واعتمادهم على التدوين والكتابة فقط، 3- وهو ما تواطأ عليه العرب من أن قوة الذاكرة، ميزة الحفظ من مواصفات الشخصية العربية، وأما تدوين الأخبار، وكتابة الوقائع، فعندهم في درجة أدنى من الأولى وأقل.

يتبع...

  • 1
  • 0
  • 6,032

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً