المرأة وسيماء النفس والصورة - (3) جمالية الأمومة
للأمومة جمالية خاصة في الإسلام، تتحقق على المستوى التربوي في تنشئة الفتاة، وإعدادها النفسي؛ لتملأ الوجدان الاجتماعي كله بالحب والحنان؛ مما يرسي نوعا من التوازن السيكولوجي في الأجيال، ويقوي النسيج الاجتماعي للأمة.
الأمومة في الإسلام مفهوم خاص، وكذلك سائر مفاهيم الأسرة، كالأبوة، والبنوة، والعمومة والخؤولة ... إلخ.
يخطئ من يظن أن تلك المصطلحات كما وردت في النصوص الشرعية، من كتاب وسنة؛ هي بالمعنى البيولوجي التناسلي فقط! كلا! إنها مفاهيم تعبدية! فالأبوة بالمعنى الجنسي، أو الأمومة بالمعنى التناسلي؛ كلاهما مفهوم بيولوجي له دلالة جنسية، يشترك فيها بالتساوي الإنسان مع سائر البهائم، والحيوانات الأهلية والوحشية!
إن المفاهيم الأسرية في الإسلام لها دلالة متفرعة عن مفهوم (الرَّحِم) بمعناه الإسلامي. و (الرحم) مصطلح قرآني أصيل، مشتق من (الرحمة)، يدل على معنى ديني مقدس في الإسلام. وهو الرابطة التعبدية التي تربط الناس فيما بينهم؛ بعلاقات تناسلية مبنية على مبادئ الشريعة. فلا يدخلها من الفروع والأصول إلا من كان نتاج عقد شرعي كامل!
ومن هنا فقَدَ الزاني مفهومَ (الأبوة) لما وُلِدَ له في الحرام؛ فلم يكن (أبا) بهذا الاعتبار! ولذلك لم يَجُزْ أن يلحق ابن الزنى بأبيه البيولوجي في أي شيء؛ نسبا وإرثا! لأن الأب في الإسلام إنما هو من كان له ولد شرعي من عقد شرعي.
والأصل في ذلك أن الله تعالى جعل الرحم، التي هي رابطة الأسرة في الإسلام؛ مَعْنىً تعبديا، لا يجوز انتهاكه بتغيير أو تبديل، ولا بقطع صلة؛ أي قطع العلاقات بين الفروع والأصول، عموديا أو أفقيا. بل جعل صلتها عملا تعبديا كسائر العبادات الأخروية المقرِّبة من الله تعالى. وجعل رتبتها التعبدية مقرونة في القرآن بتقوى الله ذاته جل وعلا. وذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه من الحديث القدسي: (قال الله تعالى: أنا خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته، ومن بتَّهَا بتَتُّه!)
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ من الرحمن. قال الله: من وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته»
والشُّجْنَةُ هنا: القرابة المشتبكة كاشتباك العروق والأغصان.
وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله» فتجاوز مفهوم (الرحم) أن يكون مجرد غشاء من اللحم في بطن المرأة لحمل الجنين، بل تعدى هذا المفهوم للدلالة على العلاقة التعبدية بين أفراد الأسرة من الأصول والفروع عموديا وأفقيا. وهذا سر القوة والصمود في بقاء الأسرة -بالمعنى الإسلامي- عبر التاريخ، رغم كل أشكال التذويب الثقافي، الذي تعرض له المسلمون في كل مكان!
إن الرحم نفسها بالمعنى البيولوجي، أي الغشاء الجنيني، هي راجعة في الاشتقاق اللغوي إلى معنى (الرحمة)؛ لما تتسم به الأم من هذا المعنى العظيم كلما حملت؛ فكانت لذلك مورد العطف والحنان! وإنما الرحمة من الله الرحمن الرحيم. هو جل وعلا يخلق ما يشاء كما يشاء.
وللدكتور عبد الوهاب المسيري تحليل دقيق للحركة النسوية في العالم العربي، يرجع به في نهاية المطاف إلى فضح الرغبة الغربية في تدمير نظام الأسرة الإسلامي؛ لما ذكرنا من اعتبارات. يقول: (والعالم الغربي الذي ساند الدولة الصهيونية -التي تحاول تفكيك العالم العربي والإسلامي سياسيا وحضاريا- يساند بنفس القوة حركات التمركز حول الأنثى في بلادنا (...) فالعالم الغربي الذي أخفق في عملية المواجهة العسكرية المباشرة مع العالم الثالث، اكتشف أن هذه المواجهة مكلفة وطويلة، ولا طاقة له بها؛ ومن ثم فالتفكيك هو البديل العملي الوحيد. كما أدرك العالم الغربي أن نجاح مجتمعات العالم الثالث في مقاومته يعود إلى تماسكها، الذي يعود بدوره إلى وجود بناء أسري قوي، لا يزال قادرا على توصيل المنظومات القيمية، والخصوصيات القومية إلى أبناء المجتمع؛ ومن ثم يمكنهم الاحتفاظ بذاكرتهم التاريخية، وبوعيهم بثقافتهم وهويتهم وقيمهم (...) وإذا كانت الأسرة هي اللبنة الأساسية في المجتمع؛ فإن الأم هي اللبنة الأساسية في الأسرة؛ ومن هنا تركيز النظام العالمي الجديد على قضايا الأنثى! فالخطاب المتمركز حول الأنثى هو خطاب تفكيكي (...) وهو خطاب يهدف إلى توليد القلق، والضيق والملل، وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها! بحيث لا يمكن أن تتحقق هويتُها إلا خارج إطار الأسرة! وإذا انسحبت
المرأة من الأسرة تآكلت الأسرة وتهاوت! وتهاوى معها أهم الحصون ضد التغلغل الاستعماري والهيمنة الغربية!
ومن ثَمَّ حازت الأم في الشبكة الأسرية موقعا مركزيا، لا يدانيها فيه أحد. ولذلك قال الله تبارك وتعالى في القرآن العظيم: {وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14].
فهو وإن وصى الإنسان بوالديه معا؛ إلا أنه خص الأم بذكر وظيفتها البيولوجية والنفسية والتربوية؛ فكان لها بذلك خصوص تمييز، لا يلحقه الأب. وهو صريح قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أمك. قال: ثم من؟ قال: ثم أبوك».
ومن هنا كان للأمومة جمالية خاصة في الإسلام، تتحقق على المستوى التربوي في تنشئة الفتاة، وإعدادها النفسي؛ لتملأ الوجدان الاجتماعي كله بالحب والحنان؛ مما يرسي نوعا من التوازن السيكولوجي في الأجيال، ويقوي النسيج الاجتماعي للأمة.
- التصنيف:
- المصدر: