حمار جحا في ميدان التحرير

منذ 2011-08-01

في يوم قائظٍ شديدِ الحرِّ من صيف عام أحد عشر وألفين للميلاد، استقلَّ جحا وابنُه حمارَه، وسار في شارع القصر العيني متوجِّها إلى ميدان التحرير، والحمار يمشي متهالكًا يكاد يَنطق فيقول: "ارْحَمني يا جحا، فالجو حارٌّ، والحمل ثقيلٌ" !!


في يوم قائظٍ شديدِ الحرِّ من صيف عام أحد عشر وألفين للميلاد، استقلَّ جحا وابنُه حمارَه، وسار في شارع القصر العيني متوجِّها إلى ميدان التحرير، والحمار يمشي متهالكًا يكاد يَنطق فيقول: "ارْحَمني يا جحا، فالجو حارٌّ، والحمل ثقيلٌ، وهذا كله في كِفَّة، وأن تذهب بي إلى الميدان هذا في كِفَّة أخرى، فأنا لَم أسأَمْ من حياتي بعدُ"!


رَكِب جحا وابنه الحمارَ، حتى وصَل إلى ميدان التحرير، وكان أوَّل مَن قابلَه مجموعة من الليبراليين والعلمانيين، وأعضاء جمعيَّات حقوق الحيوان، فنَظَروا إليهما بحَنَقٍ وغضبٍ شَدِيدَيْن، وقالوا في لهجة استنكارية: "ما هذا يا جحا؟ أليس في قلبك رحمة يا رجل؟ تَركبان الحمار وتُثقلان عليه في هذا الجو شديد الحرارة؟ ألا تُراعيان حقوق الحيوان؟ ألَم تَعْلما أنَّ الأمم المتحدة والدول العُظمى قد ضَمِنت لهذا الحيوان حقَّه في أن يحيا حياةً كريمة، وأنها تُعاقب من يُهمل في حقِّ أيِّ حيوان، أو يتعدَّى عليه بالأذى؟".

بُهِت جحا لهذا الاستنكار غير المتوقَّع، لكنه لَم يَملك ردًّا.

فقال لابنه: "هيَّا يا بُني، سامحني فأنا رجلٌ كبير سأركبُ أنا وتسير أنت ورائي؛ حتى لا يلومَنا أحد".

فردَّ الولد: "كما تحبُّ يا أبي".

رَكِب جحا وسار الولد وراءه، حتى مرَّا بجماعة من حركة 7 أمشير، فنَظَروا إلى جحا مستنكرين ما فعَله.

وقالوا: "ما هذا يا جحا؟ أين حنان الوالد وعَطْفه؟ ما هذا القلب القاسي يا رجل، تَرْكب حمارك وتترك ولَدَك وفَلْذة كبدك يسير وراءَك كالعبد في هذا الحرِّ الشديد؟ ألأنَّك أبوه تستغلُّ حقَّك هذا، وتَحرم هذا الولد من حقِّه في الركوب؟".


فنظَر جحا وولَدُه إلى بعضهما وهزَّا رأْسَيهما، وفي خلال سيرهما جاءَهما رجلٌ يرتدي قُبَّعة رُعاة البقر الأمريكيين، ويظهر من لهجته أنه مصري، وفي يده لِجام من أجْوَد ما يكون الجلد، ووُضِعَت به بعضُ الزينة والأجراس، وكُتِب عليه صُنِع في أمريكا، وقال لجحا: "هذا اللجام هَديَّة لحمارك يا جحا، ودَعْني أُلْبِسه له بنفسي"، حاول أن يُلْبِس الحمار اللِّجامَ، لكن الحمار أبى عليه، ورَفَسه رَفْسَة أرْدَاه بها، نظَر جحا إليه في عدم استعناء، ثم أكْمَل سيره هو وابنه، وقال جحا للولد: "تعالَ يا بُني وارْكَب أنت، فلا أريد أن يَنتقدني أحد وأنا في هذه السنِّ الكبيرة، وسوف أسير أنا وراءَك"، فقال الولد: "لكن يا أبي لا يَصِحُّ أن أرْكَب وأنت تسير"، فقال جحا: "لا بأْسَ يا بُني؛ حتى لا ينتقدنا الناس"، ركِب الولد على الحمار وسار جحا وراءه، حتى مرَّا بمجموعة من الشباب الملتزمين المتدينين فقالوا للولد: "يا فتى، لقد أمَرنا رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بأنْ نُحْسِن إلى آبائنا، وأن نوقِّر كبيرنا، فكيف تركب أنت وتترك أباك يسير خلفك؟ هذا ليس برًّا بأبيك"، فكاد عقلا جحا وابنه يَطيشا، ماذا نفعل لكي نُرضي الناس؟ جلسَا يُفكران، فقال جحا لابنه: "ليس هناك إلاَّ حَلٌّ أخير، وهو أن نَحمل الحمار ونسير به"، أحْضَرا عمودًا وبعض الحِبال، ورَبَطا الحمار من أرْجُله وحَمَلاه وسارَا، ثم مرَّا بمجموعة من عوام الناس، فأخَذ الناس يَتَنَدَّرون عليهما، ويُشيرون إليهما ويَضحكون ويقولون: "ما هؤلاء المجانين؟ بدلاَّ من أن يَحملهما الحمار حَمَلا هما الحمار يا مَجانين".


جلَس جحا وابنه والكآبة تُظِلُّهما من نار الشمس المُحرقة، فنظَر جحا إلى ابنه وقال: "ماذا نفعل يا بُني؟ إننا حاوَلنا أن نُرضي جميع الناس، فلم نستطع، فما العمل في هذا الأمر؟".

فقال له ابنه: "يا أبي، إنك مَهْما حاوَلت فلن تَستطيع أن تُرضي جميع الناس، فالعقول تتفاوت والأفكار تتباين، والأهواء تتضارب".

جحا: "فما العمل يا بُني؟".

ابنه: "يا أبي، الحلُّ هو أن تُرضي الله أولاً، فعَمَلُك مَهْمَا حَسُنَ، فلا بدَّ أن تَجِدَ له معارضين، لكن يا أبي فَكِّر أولاً في رضا الله، وافْعَل ما إذا سألَك الله عنه يوم القيامة وجَدت له جوابًا، وهكذا سيرضى الله عنك، ويُرضي عنك مَن خالَفك؛ كما قال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - واعلم يا أبي أنَّك إن أرْضَيت الغالبية في غير سخط الله، فهذا قمة النجاح، ولا تَسَعَ لإرضاء كلِّ الناس؛ فهذا لن يكون أبدًا، فسِرْ على بركة الله يا أبي، ولا يُقْعِدَنَّك تثبيطُ مَن خالَفك"، فهزَّ الحمار رأْسَه موافقًا، وقال في نفسه: "قول سديد".
 

المصدر: د. أحمد رزق شرف - موقع الألوكة
  • 2
  • 0
  • 2,686

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً