أهمية علو الهمّة في حياة المسلم - (2) مراتب الهمم
فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمنٍّ مغرور. وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
الناس متفاوتون في أمرين:
الأمر الأول: مطالبهم وأهدافهم.
والآخر: الهمم الموصلة إلى هذه المطالب والأهداف.
فمن الناس من يطلب المعالي بلسانه وليس له همة في الوصول إليها، فهذا متمنٍّ مغرور. وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
ومن أعظم المغالبات مغالبة النفس لتصبح ذا همة عالية.
ومن الناس من لا يطلب إلا سفاسف الأمور ودناياها، وهم فريقان:
- فريق ذو همة في تحصيل تلك الدنايا، فتجده السبَّاق إلى أماكن اللهو ومغاني الغواني، وهذا إن اهتدى يكن سبّاقاً إلىالمعالي، ذا همة عالية نفسية: (الناس معادن: خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إن فقهوا)
- وفريق لا همة له، فهو معدود من سقط المتاع، وموته وحياته سواء، لا يُفتقد إذا غاب، ولا يُسأل إذا حضر.
إني رأيت من المكارم حسبكم ** أن تلبسوا خَزَّ الثياب وتشبعوا
ومن الناس من تسمو مطالبه إلى ما يحبه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وله همة عظيمة في تحصيل مطالبه وأهدافه فهنيئاً له.
وبين كل هذه الأقسام مراتب كثيرة متفاوتة.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
(لذة كل أحد على حسب قدره وهمته وشرف نفسه، فأشرف الناس نفساً وأعلاهم همة وأرفعهم قدراً من لذتهم في معرفة الله ومحبته، والشوق إلى لقائه، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه)
وقال ابن القيم أيضاً:
(ولله الهمم ما أعجب شأنها وأشد تفاوتها! ، فهمة متعلقة بالعرش، وهمة حائمة حول الأنتان والحُش).
يتفاوت الناس في هممهم فتتفاوت على هذا أعمالهم وحظوظهم ودرجاتهم،
وإذا أردت أن تعرف مراتب الهمم فانظر إلى همة ربيعة بن كعب الأسلمي، رضي الله عنه وقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَلْ».فقال: (أسألك مرافقتك في الجنة).
وكان بعض الناس يسأله ما يملأ بطنه أو يواري جلده.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:«ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألني أصحابك».
قلت: أسألك أن تعلمني مما علمك الله.
فنزع نمرةً كانت على ظهري فبسطها بيني وبينه حتى كأني أنظر إلى النمل يدب عليه فحدثني، حتى إذا استوعبت حديثه قال: (اجمعها فصُرها إليك). فأصبحت لا أسقط حرفاً مما حدثني .
فاكتسب رضي الله عنه بهمته في الطلب مجداً عظيماً، وهو أنه حفظ للناس أحاديث رسولهم صلى الله عليه وسلم، فأصبح حافظ الصحابة بلا منازع، بل أصبح راوية الإسلام.
وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني لغلامه:
(ياغلام: لا يكن همك ما تأكل وما تشرب، وما تلبس وما تنكح، وما تسكن وما تجمع، كل هذا همُّ النفس والطبع فأين همُّ القلب، همك ما أهمك فليكن همك ربك عز وجل وما عنده). وهذه - والله - من أعظم الوصايا للدعاة حتى لا تضعف همتهم أمام المغريات، لا سيما وأن من أهم صفات الداعية مخالطته للناس والتأثير عليهم، فكم من داعية انزلق في بحر هذه المغريات حتى أضحت الدعوة آخر اهتماماته.
وأما أمر ابن عباس رضي الله عنه مع صاحبه الأنصاري فهو دليل على تفاوت الهمم واختلاف مراتبها فقد قال رضي الله عنه:
(لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت لرجل: هلم فلنتعلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنهم كثير.
فقال: العجب - والله - لك يا ابن عباس، أترى الناس يحتاجون إليك وفي الناسمن ترى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فركبت ذلك وأقبلت على المسألة وتَتَبُّع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم،
فإن كنت لآتي الرجل في الحديث يبلغني أنه سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجده قائلاً، فأتوسد ردائي على باب داره تسفي الرياح على وجهي حتى يخرج إليّ، فإذا رآني قال: يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لك؟
قلت: حديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأحببت أنأسمعه منك.
فيقول: هلا أرسلت إليّ فآتيك؟
فأقول: أنا كنت أحق أن آتيك.
وكان ذلك الرجل يراني، فذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد احتاج الناس إلي، فيقول: أنت أعلم مني).
وترى اليوم من تفاوت الهمم أمراً عجباً، فإذا استثنى الناظر في أحوال الناس أمر العامة - واستثناؤهم واجب لأنه قد ماتت هممهم، وقعدت بهم عن تحصيل معالي الأمور- واطلع على أحوال الخاصة وهم: الدعاة، وطلاب العلم، وباقي الملتزمينالحريصين على دينهم، سيصاب بالدهشة لما يراه من فتور الهمّة، وأنها الشأن الغالب على الخصوص الذين ذكرتهم:
فمنهم من إذا اطَّلع ساعة أو ساعتين في اليوم ظن أنه قد أتى بما لم يأتِ به الأوائل،
ومنهم من إذا خرج لزيارة فلان من الناس بقصد الدعوة يظنّ أنه قد قضى ما عليه منحق يوميّ،
ومنهم من تتغلب عليه زوجة وعيال فيقطع عامة وقته في مرضاتهم، ومنهم من اقتصر في تحصيل العلم على سماع بعض الأشرطة وحضور محاضرة أو اثنتين فيالأسبوع أو الشهر، ومنهم من غلب عليه الركون إلى الدنيا والتمتع بمباحاتها تمتعاً
يُفضي به إلى نسيان المعاني العلية، ومنهم من يقضي عامة يومه متتبعاً لسقطات إخوانه، ومطلعاً على ما يزيد علمه رسوخاً في هذا المجال.
وهكذا يندر أن تجد إنساناً استطاع أن يعلو بهمته، ويجمع شمله ويَقْصر من الاعتذارات والشكايات فتصبح حياته مثلاً أعلى يُحتذى به.
ولا أزعم أن جمهور الصحوة قد فات عليه هذا الأمر- أي أمر الهمّة وعلوها- ولكن أقول جازماً بأنه - إلا القليل - لم يستثمروا هممهم حق الاستثمار، ولم يحاولوا أن يرتقوا بأنفسهم حق الارتقاء .يقول الأستاذ المودوديّ رحمه الله تعالى مخاطباً قوماً ممن ذكرناهم آنفاً:
((إنه من الواجب أن تكون في قلوبكم نار متّقدة تكون في ضرامها - على الأقل مثل النار التي تتقد في قلب أحدكم عندما يجد ابناً له مريضاً ولا تدعه حتى تجرّه إلى الطبيب، أو عندما لا يجد في بيته شيئاً يسد به رمق حياة أولاده فتقلقه وتضطره إلى بذل الجهد والسعي.
إنه من الواجب أن تكون في صدوركم عاطفة صادقة تشغلكم في كل حين من أحيانكم بالسعي في سبيل غايتكم، وتعمر قلوبكم بالطمأنينة، وتكسب لعقولكم الإخلاص والتجرد، وتستقطب عليها جهودكم وأفكاركم بحيث إن شؤونكم
الشخصية وقضاياكم العائلية إذا استرعت اهتمامكم فلا تلتفتون إليها إلا مكرهين. وعليكم بالسعي ألا تنفقوا لمصالحكم وشؤونكم الشخصية إلا أقل ما يمكن من أوقاتكم وجهودكم، فتكون معظمها منصرفة لما اتخذتم لأنفسكم من الغاية في الحياة.
وهذه العاطفة ما لم تكن راسخة في أذهانكم، ملتحمة مع أرواحكم ودمائكم، آخذةً عليكم ألبابكم وأفكاركم، فإنكم لا تقدرون أن تحرِّكوا ساكناً بمجرد أقوالكم
. .
الحقيقة أن الإنسان إذا كان قلبه مربوطاً بغايته، وفكره متطلعاً إليها، فإنه لا يحتاج إلى
تحريض أو دفع. . .
واسمحوا لي أن أقول لكم: إنكم إذا خطوتم على طريق هذه الدعوة بعاطفة أبردَ من تلك لعاطفة القلبية التي تجدونها في قلوبكم نحو أزواجكم وأبنائكم وأمهاتكم فإنكم لا بد أن تبوؤوا بالفشل الذريع).
أرأيتم همة الإمام رحمه الله، ولا غرو أن تخرج هذه اللآلىء من رجل تصدى طيلة حياته المباركة لهموم دعوة الخلق إلى الحق، حتى أنه كان يصدر دورية بنفسه لا يشاركه فيها أحد - وكان هذا في مقتبل حياته - فهو الناشر ومدير التحرير والموزِّع، وقد أخبر عن نفسه بأنه كان يبل الخبز اليابس في النهر ثم يأكله، وحياته تصلح أن تكون
تطبيقاً لما أوردته عنه آنفاً، رحمه الله. ويمكن بعد هذا أن نقول:
إن مراتب الهمم متفاوتة فيما يلي:
1- همة لا تسعف صاحبها لقضاء حوائجه الأساسية بل يظل عامة ليله وسحابة نهاره في نوم وتراخ وكسل، وهذه أدنى درجات الهمم - والعياذ بالله - وصاحبها عاجز قاصر يعتمد على الناس اعتماداً كلياً، وهذه المرتبة قليلة في النوع الإنسانيّ، ولله الحمد. ومن أمثلتها في الناس الطفيليون، وطبقة التنابلة المشتهرين في التاريخ بكسلهم وسقوط هممهم.
2 - ومن الهمم همة ترقى بصاحبها إلى قضاء الحوائج والسعي في الأرض وأداء الفروض، ولكن كل هذا يقضيه بقدر بحيث يستصعب معه كثيراً من الأمور، ويعتقد استحالتها وهي أمور ممكنة التحقق عند غيره، وتجده - عند الاستشارة-
كثير الصدّ قريب القصد. وهذه المرتبة من الهمّة يشترك فيها كثير من الناس إن لم نقل أغلبهم.
3 - ومن الناس من يريد الارتفاع بهمته ولكنه لا يعرف سبل استثمارها ولا كيفية الاستفادة التامة منها، فتجده متذبذباً في أموره، فتارة ينجز أموراً عظيمة، وتارة يستصعب الممكن ويستبعده. والغالب على أهل هذه المرتبة أنهم لا يحققون ما يصبون له يتطلعلون إليه.
4 - ومن الناس من تتجاوز به همته واقع الناس بكثير وتتعداه، بل تكاد تستسهل المستحيل ولا تخضع له، وصاحب هذه الهمّة نادر في دنيا البشر، ولكنه موجود معروف، يعرفه الناس ويقتدون به. والغالب على صاحب هذه الهمّة أنه يحقق أهدافه وغايته، بل يحقق أموراً تحتاج في تصور معظم الناس إلى فريق من العاملين لإنجازها. الأرض وأداء الفروض، ولكن كل هذا يقضيه بقدر بحيث يستصعب معه كثيراً من الأمور، ويعتقد استحالتها وهي أمور ممكنة التحقق عند غيره، وتجده - عند الاستشارة- كثير الصدّ قريب القصد. وهذه المرتبة من الهمّة يشترك فيها كثير من الناس إن لم نقل أغلبهم.
3 - ومن الناس من يريد الارتفاع بهمته ولكنه لا يعرف سبل استثمارها ولا كيفية الاستفادة التامة منها، فتجده متذبذباً في أموره، فتارة ينجز أموراً عظيمة، وتارة يستصعب الممكن ويستبعده. والغالب على أهل هذه المرتبة أنهم لا يحققون ما يصبون له يتطلعلون إليه.
4 - ومن الناس من تتجاوز به همته واقع الناس بكثير وتتعداه، بل تكاد تستسهل المستحيل ولا تخضع له، وصاحب هذه الهمّة نادر في دنيا البشر، ولكنه موجود معروف، يعرفه الناس ويقتدون به.والغالب على صاحب هذه الهمّة أنه يحقق أهدافه وغايته، بل يحقق أموراً تحتاج في تصور معظم الناس إلى فريق من العاملين لإنجازها.
- التصنيف:
- المصدر: