"الثانوية العامة".. تأملات تربوية
ملفات متنوعة
نقطة أخرى يتجاهلها الجميع هي القدرات! أنا لست مثلك وهو ليس مثلك وهي ليست مثلي، لم توضع الإمتحانات ليحصل الجميع على الدرجات النهائية
- التصنيفات: التربية والأسرة المسلمة -
على مدار الرحلة التأملية في ذلك العمر القصير الطويل، وتلك التفاصيل التي تتخلل المواقف على كبرها وصغرها، أضاف لي التأمل الكثير، الأغرب، أنني تأملت حتى في جوهر كلمة التأمل، ومدى تداولها بين الناس وعقولهم ومدى تفسيرهم لها، مشهد واحد تتناوله العيون بكل الأوجه الممكنة، ويترك أثرًا مختلفًا عند كل فرد قد تلقاه.
أذكر يوم أن كنت في الثانوية العامة- بل وقبل الثانوية العامة - وحالات الإغماءات المتكررة والإنتحار والتأجيل قبل اللجنة بدقائق، وكل مظاهر الاحتجاج والإحساس بالظلم، والبكاء والعويل بعد كل إمتحان، والصحافة تكتب وتنشر، والأهالي يدعون على واضع الامتحان والمراقبين والمادة والوزارة بأكملها! كان مشهدًا يستحق التأمل حقًا، وعلى قدر خوف الجميع المنطقي قبل دخول تلك السنة، وخوفي بالطبع، لكني كنت أنتظرها جدًا، لكي أخوض تلك التجربة إلى نهايتها وأخرج منها بنتاج تأملي جيد.
والآن وبعد الانتهاء منها، أرى وبكل وضوح أن الثانوية لم تكن سوى موقف كأي موقف يتعرض له الإنسان في حياته، موقف طويل، وما على المرء سوى الاختيار بين الصواب والخطأ، وفي الحالتين الطريق بيّن، وأيًا كان اختيار السالك فهو على علم تمامًا بما اختاره وبنتاجه، و رد فعله على هذا النتاج مشكلة اختياره لا مشكلة الطريق.
وطريقي الذي اخترته كان التصالح مع النفس، وألا أتواجد في مكان إلا وتركت عبقًا من التفاؤل والأمل، والعلم الذي أتحصله بسهولة أساعد به من لم يتحصله وأضيف لمن تحصله أقل مني ولوبقليل، استطعت بذلك الطريق أن استمتع بتلك السنة بطريقة ستجعلها من أجمل ذكريات حياتي رغم كل ماتعرضت له من ذكريات سيئة بموازاة تلك السنة، بل حقًا أسوأ ما يكون عليّ، أنا ممتنة لكل شئ ولم أكن أستطيع أن أسعد نفسي أكثر من ذلك فأندم الآن وأتمنى العودة!
كنت أشعر بالامتنان الشديد لأساتذتي، مع العلم أنهم يتقاضون أجرًا لذلك، وقد تكون المعاملة الطيبة "جر رجل" مثلما يقولون، لكن في بعض الأوقات لم أكن أشعر أنه من أجل المال! ، لقد اتفقنا على أن يشرح لي منهج ثانوية عامة، لم يتضمن الاتفاق تلك الطاقة الإيجابية التي كانوا يعطوها لنا كلما أُصِبنا بالإحباط، أو يستمعون لنا أحيانًا إذا كنا نمر بمشكلة ما تعيق قدرتنا على التركيز ، وبشكل شخصي، لم يجبرهم أحد على القراءة لي وتشجيعي على مقالاتي بل ومتابعة جديدي أول بأول والإشادة بي ! ، لم أستطع أن أفهم قسوتهم علينا أحيانًا والضغط الشديد الذي كنا فيه سوى أنه حب عظيم!
بعد كل لجنة، كنت أسمع السباب المتواصل والبكاء كما كان يحدث في الجرائد والتليفزيون، على واضع الإمتحان والمراقبين والمادة والوزارة بأكملها كما سبق ذكره، لكن كان ذلك السِباب يحتاج للتأمل من العديد من الجوانب:
أولًا: البعض كان يدعو على المراقب المؤدي لعمله بِـجِد ولا مجال حتى للتهامس في اللجنة، بل ووصل الأمر إلى حوار بصوت عالي جدًا أمام باب المدرسة وصوت زميلتي مقهورة تصرخ : "كان ماسك اللجنة ومعرفناش نغش حاجة، كله خارج مبسوط إلا إحنا!" لم تكن تلك المشكلة، ما صدمني أكثر وأكثر، إجابة والدتها : "يقعدله في عياله يارب" ، فلم أجد ردًا سوى أمين! أتمنى من كل قلبي أن "يقعدهوله في عياله" ويرزقهم بناس تتقي الله فيهم ولا تقبل لهم بما يغضب الله عز وجل.
ثانيًا : أنا كطالبة بالتأكيد وبقدراتي المتوسطة لم أكن أحفظ "من الجلدة للجلدة" ، ولم أكن ضامنة للدرجة النهائية على الرغم من حاجتي لها ومن سعيي لبلوغ تلك الحاجة، لا تمنيها فقط، وعلى مدار الامتحانات خرجت أكثر من مرة مستاءة وغير راضية عن إجاباتي، أواضحُ ما قلت؟ "إجاباتي" ليس "الامتحان"، بل وكنت أتذكر مكان الإجابة في الكتاب وشكل الصفحة ولا أتذكر الإجابة نفسها، مما يعني أن التقصير كان مني ولم يكن السؤال من المريخ! كان من المنهج، وما هو في المنهج لا عيب على واضع الامتحان من وضعه، لذا فلم يكن يستحق السباب والدعاء عليه، لم يخطئ، الخطأ كان مني كطالب لا منه كمسئول، لكننا نتكبر على الشعور بالخطأ وننظر أن جهودنا كانت الأعظم والأكبر وأننا أكثر من نستحق.
نقطة أخرى يتجاهلها الجميع هي القدرات! أنا لست مثلك وهو ليس مثلك وهي ليست مثلي، لم توضع الإمتحانات ليحصل الجميع على الدرجات النهائية، وضعت لنخطئ وليقاس عن طريق أخطائنا مستوانا الذي مهما كان ليس اهانة أبدًا، ويجب التصالح مع ذلك المستوى لأنه لا يدين صاحبه، إنها نعم الله عز وجل يفرقها كما يشاء! وليس لحاملها الفضل في وجودها بل الفضل في استغلالها.
ثالثًا : جملة كتبتها على حائط عندما عدت من أول امتحان : "أنا لست محور الكون" ، أنا لست الشخص الوحيد على الأرض الراغب في التفوق، لست الشخص الوحيد الذي يتمنى له أهله ومحبينه التفوق ويدعون به ليلًا ونهارًا، كنت نسيت سؤالًا صغيرًا بنصف درجة وخرجت مستاءة لأبعد حد لأنه لا يستحق حقًا ! وأختي الصغيرة كانت لتتذكره، لكن وجدت من نسيه معي، ووجدت من تذكره، كانت لتأخذني الغيرة، لولا أن تأملت، يا الله! إن لك حكمة بالطبع، إنها تستحق تلك النصف درجة لتتفوق عليّ، إنها أحق مني بذلك، سهرت أكثر وتعبت أكثر، أو حتى ليس أكثر، لكنك تريد أن تعلمها شيئًا، وتعلمني أيضًا! ، وابتسمت وهنأتها بسعادة بالغة وعدت للمنزل ولم أحمل في قلبي ولو مقدار ضئيل من الشعور بالظلم! وقلتها، سيظل لرب النجاح والناجحين حكمة في تفاصيل صغيرة مبهمة، وابتسمت!
رابعًا : الطاقة السلبية التي يبثها الطلبة لبعضهم البعض، والبكاء والعويل المبالغ فيه كما سبق ذكره، لم ألق شخصًا بعد الإمتحان – إلا النادر – إلا و كان حزينًا باكيًا متشائمًا سيعيد السنة مرة أخرى ولن يحقق حلمه، وبالطبع أبهرنا جميعًا بدرجاته في النهاية! تخيل معي طالب السنة الجديدة وهو يتابع كل ذلك الصراخ والبكاء والانتحار ، تخيل إن كان لا يتحمل ذلك الضغط النفسي المتتابع الذي تسبب في ذلك الانتحار والاغماء لسابقيهم! كيف سيستطيعون البدء؟
أتذكر أستاذي مرة أخبرنا أنه في امتحان بالكلية قام بحل الامتحان وسلم الورقةورحل وعلى وجهه علامات الرضا والعجب من قصر الامتحان ومن المدة التي استغرقها زملاؤه في حله، وبعد خروج الجميع جاء أحد أصدقائه ليسأله عن إجابة سؤال ليتأكد ، فتفاجأ أستاذي وأخبره أين هذا السؤال؟ فعلم أن الامتحان كان "وش وضهر"، ولم ينتبه للجزء التاني من الأسئلة، فما كان منه إلا أن سأله وبماذا أجبتها؟ فأخبره، فابتسم له بثبات وقال: صح، وتعامل مع الموضوع ببساطة شديدة رغم أنه كان على يقين بأنه كان يستحق الامتياز.
خامسًا : النتيجة وموال النتيجة، والمقاطعات بعد سنوات صداقة لمجرد أن احدى الصديقتين لم تكن نتيجتها القليلة لائقة بقرينتها الدكتورة المستقبلية! والتباهي الزائد عن الحد بغرض الإيذاء وإثارة الغيرة، - لا أقصد الفرحة العادية الطبيعية المشروعة - . ومن لم يذاكر بجِدٍ كافي كزملائه ويندب الحظ ويشعر بالظلم الشديد ، مع العلم والإنصاف بأن هناك حقًا من ظٌلِم ظلمًا لا يحتمله أحد واجتهد اجتهادًا بيّنًا للجميع وكان يستحق أكثر من ذلك بكثير لكن شاء الله عز وجل أن يعلمه شيءًا! ، فيسعى لكلية خاصة تكلف أهله فقط للحاق بركب زملائه الذي وضعه المجتمع وأخذ في تمجيده إلى الحد الذي وضع تركيز أحلامه على ما يرغبه المجتمع لا ما ترغبه نفسه، عما يراه المجتمع له مستقبل وما يعمل له المجتمع ألف حساب، لا على من اجتهد سنة كاملة لينال مستقبله باختياره وبكل رضا وحب، وأصبحت إهانة كبيرة وشئ بعيد عن العقل أن يرغب طالب في كلية ذات مجموع قليل وهو من الاوائل!.
لا أتذكر أي امتحان كان، الفيزياء على ما أعتقد، للوهلة الأولى عندما رأيت الإمتحان ووجدت عدد الأسئلة التي تركتها لأفكر فيها في النهاية يتزايد ، وأسئلة أتذكر مكانها في الكتاب وكم سطرًا ولونها ، ولا أتذكر منها حرفًا! للحظة تركت الإمتحان وسرحت قليلًا! ماذا يحدث؟ ووالدتي التي تنتظرني خارج اللجنة! أسأخبرها أن الإمتحان كان صعبًا ولم أجب جيدًا؟ وزميلاتي! ألن أخرج لأطمئنهن وأخبرهن أن كل شئ سيكون على ما يرام وسيجبر الله بخاطرنا جميعًا! سأخرج عابسة! سأكسر بخاطرهن جميعًا من أجل أسئلة لا أتذكرها توترني؟ أنا أفهم، لا أتذكر النص، لكنني أفهم، ومن يفهم لا يخاف، وقدرك مكتوب وستأخذينه شئتي أم أبيتي! لكن هم! يا الله ، ألم أعدك أنه كلما أعطيتني القوة لن أستغلها سوى في جبر الخواطر؟ هل خذلتك يومًا في لحظات المجد ونسيت الوعد؟ أتنساني يا الله وقت الحاجة؟ يارب اجبر بخاطري وذكرني ما نسيت لأسعدهم جميعًا وكن معهم واكتب لهم الخير وارضهم به.
بعدما انتهيت من الأسئلة السهلة وعدت لما تركته، وجدتها أبسط مما رأيتها أول مرة! كانت هناك تفاصيل صغيرة لم ألتفت لها كانت مفتاح الحل، حتى النظري الذي لم أتذكره وكتبته بفهمي كان صحيحًا!
أتمنى اختصارًا لكل ما سبق ذكره، التعامل بتصالح شديد مع تلك السنة لأنها ستمر شئنا أم أبينا لكنها ستترك فينا الكثير، استمتعوا بها على أكمل وجه واستمتعوا بعلومها لأنها ممتعة إلى أقصى حد بكل أقسامها، مهما كان الظرف لا تفوت حصة أبدًا، مهما كان الظرف، كلمة ستسمعها قد تغنيك عن مذاكرة ساعات، واهتم بصحتك أكثر من اهتمامك بمذاكرتك ف الثانية مترتبة على الأولى، كل شئ سيكون بخير .
-منه حازم