(19) وفاة الرسول
علي بن محمد الصلابي
إن الأرواح الشفافة الصافية لتدرك بعض ما يكون مخبوءاً وراء حجب الغيب بقدرة الله تعالى، والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدث صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان، والعقول الذكية المستنيرة بنور الإيمان لتدرك ما وراء الألفاظ والأحداث من إشارات وتلميحات..
- التصنيفات: قصص الصحابة - سير الصحابة -
إن الأرواح الشفافة الصافية لتدرك بعض ما يكون مخبوءاً وراء حجب الغيب بقدرة الله تعالى، والقلوب الطاهرة المطمئنة لتحدث صاحبها بما عسى أن يحدث له فيما يستقبل من الزمان، والعقول الذكية المستنيرة بنور الإيمان لتدرك ما وراء الألفاظ والأحداث من إشارات وتلميحات، ولنبينا محمد من هذه الصفات الحظ الأوفر، وهو منها بالمحل الأرفع الذي لا يسامى ولا يطاول.
ولقد جاءت بعض الآيات القرآنية مؤكدة على حقيقة بشرية النبي، وأنه كغيره من البشر، وسوف يذوق الموت ويعاني سكراته كما ذاقه من قبل إخوانه من الأنبياء، ولقد فهم من بعض الآيات اقتراب أجله، وقد أشار في طائفة من الأحاديث الصحيحة إلى اقتراب وفاته، منها ما هو صريح الدلالة على الوفاة ومنها ما ليس كذلك؛ حيث لم يشعر ذلك منها إلا الآحاد من كبار الصحابة الأجلاء كأبي بكر والعباس ومعاذرضي الله عنهم.
مرض رسول الله وبدء الشكوى:
رجع رسول الله من حجة الوداع في ذي الحجة، فأقام بالمدينة بقيته والمحرم وصفرًا من العام العاشر، فبدأ بتجهيز جيش أسامة وأمَّر عليهم أسامة بن زيد بن حارثة، وأمره أن يتوجه نحو البلقاء وفلسطين، فتجهز الناس وفيهم المهاجرون والأنصار، وكان أسامة بن زيد ابن ثماني عشرة سنة، وتكلم البعض في تأميره وهو مولى وصغير السن على كبار المهاجرين والأنصار، فلم يقبل الرسول طعنهم في إمارة أسامة، فقال: «إن يطعنوا في إمارته فقد طعنوا في إمارة أبيه، وايم الله إن كان لخليقًا للإمارة، وإن كان من أحب الناس إليَّ، وإن ابنه هذا لمن أحب الناس إليَّ بعده».
وبينما الناس يستعدون للجهاد في جيش أسامة ابتدى رسول الله شكواه الذي قُبض فيه، وقد حدثت حوادث ما بين مرضه ووفاته، منها: زيارته قتلى أحد وصلاته عليهم، واستئذانه أن يمرض في بيت عائشة، وشدة المرض الذي نزل به، وأوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب وإجازة الوفد ونهى عن اتخاذ قبره مسجدًا، وأوصي بإحسان الظن بالله وأوصي بالصلاة وما ملكت أيمانكم، وبيَّن بأنه لم يبقَ من مبشرات النبوة إلا الرؤيا، وأوصي بالأنصار خيرًا وخطب في أيام مرضه فقال: «إن الله خيَّر عبدًا بين الدنيا وبين ما عند الله، فاختار ذلك العبد ما عند الله»،
فبكى أبو بكر، فقال أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: فعجبنا لبكائه أن يخبر الرسول عن خير، فكان رسول الله هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا، فقال رسول الله: «إن أمَنَّ الناس عليَّ صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذًا خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر، ولكن أخوة الإسلام ومودته. لا يبقين في المسجد باب إلا باب أبي بكر».
قال الحافظ ابن حجر: وكأن أبو بكر -رضي الله عنه- فَهِم الرمز الذي أشار به النبي من قرينة ذكره ذلك في مرض موته، فاستشعر منه أنه أراد نفسه فلذلك بكى، ولما اشتد المرض بالنبي وحضرته الصلاة فأذَّن بلال قال النبي: «مروا أبا بكر فليصل»، فقيل: إن أبا بكر رجل أسيف، إذا قام مقامك لم يصلِّ بالناس، وأعاد فأعادوا له الثالثة، فقال: «إنكن صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل». فخرج أبو بكر فوجد النبي في نفسه خفة، فخرج يهادي بين رجلين، كأني أنظر إلى رجليه تخطان من الوجع، فأراد أبو بكر أن يتأخر فأومأ إليه النبي أن مكانك، ثم أتي به حتى جلس إلى جنبه.
قيل للأعمش: فكان النبي يصلي بصلاته والناس يصلون بصلاة أبي بكر، فقال برأسه: نعم. واستمر أبو بكر يصلي بالمسلمين، حتى إذا كان يوم الإثنين، وهم صفوف في صلاة الفجر، كشف النبي ستر الحجرة ينظر إلى المسلمين وهم وقوف أمام ربهم، ورأى كيف أثمر غرس دعوته وجهاده، وكيف نشأت أمة تحافظ على الصلاة، وتواظب عليها بحضرة نبيها وغيبته، وقد قرت عينه بهذا المنظر البهيج، وبهذا النجاح الذي لم يقدر لنبي أو داع قبله، واطمأن أن صلة هذه الأمة بهذا الدين وعبادة الله تعالى صلة دائمة لا تقطعها وفاة نبيها، فمليء من السرور ما الله به عليم، واستنار وجهه وهو منير.
يقول الصحابة -رضي الله عنهم-: كشف النبي ستر حجرة عائشة ينظر إلينا وهو قائم، وكأن وجهه ورقة مصحف ثم تبسم يضحك، فهممنا أن نفتتن من الفرح، وظننا أن النبي خارج إلى الصلاة فأشار إلينا أن أتموا صلاتكم، ودخل الحجرة وأرخى الستر، وانصرف بعض الصحابة إلى أعمالهم، ودخل أبو بكر على ابنته عائشة وقال: ما أرى رسول الله إلا قد أقلع عنه الوجع، وهذا يوم بنت خارجة -إحدى زوجتيه- وكانت تسكن بالسُّنح، فركب على فرسه وذهب إلى منزله.
واشتدت سكرات الموت بالنبي، ودخل عليه أسامة بن زيد وقد صمت فلا يقدر على الكلام، فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعها على أسامة، فعرف أنه يدعو له، وأخذت السيدة عائشة رسولَ الله وأوسدته إلى صدرها بين سحرها، ونحرها، فدخل
عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده سواك، فجعل رسول الله ينظر إليه، فقالت عائشة: آخذه لك؟ فأشار برأسه نعم، فأخذته من أخيها ثم مضغته ولينته وناولته إياه، فاستاك به كأحسن ما يكون الاستياك، وكل ذلك وهو لا ينفك عن قوله: «في الرفيق الأعلى» وكان بجانبه ركوة ماء أو علبة فيها ماء، فيمسح بها وجهه ويقول: «لا إله إلا الله... إن للموت سكرات» ثم نصب يده فجعل يقول: «في الرفيق الأعلى»، حتى قبض ومالت يده. وفي لفظ أن النبي كان يقول: «اللهم أعني على سكرات الموت».
وفي رواية: أن عائشة سمعت النبي وأصغت إليه قبل أن يموت وهو مسند الظهر يقول: «اللهم اغفر لي وارحمني، وألحقني بالرفيق الأعلى».
وقد ورد أن فاطمة -رضي الله عنها- قالت: واكرب أباه، فقال لها:«ليس على أبيك كرب بعد اليوم»، فلما مات قالت: يا أبتاه.. أجاب ربًّا دعاه، يا أبتاه.. جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه.. إلى جبريل ننعاه. فلما دفن قالت لأنس: كيف طابت أنفسكم أن تحثوا على رسول الله التراب.
فارق رسول الله الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب، ويرهبه ملوك الدنيا، ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم، وما ترك عند موته دينارًا ولا درهماً، ولا عبدًا، ولا أمة، ولا شيئاً، إلا بغلته البيضاء، وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة.