الاستبداد ومعركة الوعي
خالد سعد النجار
رحم الله الكواكبي، فلقد كان بارعا في الجهر بما تخاذل عنه الآخرون، وطرق أبواب تحرج من طرقها الانهزاميون، وسطر هذه الأسطر بمداد بصيرته، ومبرهنا على أن التاريخ الإسلامي حافل بكثير من الشرفاء
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
من الغريب أن الاستبداد ظلام يستمد وجوده من ظلمة الرعية، لذلك كان للجبابرة حربا ضروسا على الوعي الجماهيري، وهذه «مسلمة سياسية» كان عبد الرحمن الكواكبي من بواكير الكتاب الذين أفاضوا في شرحها وتحليل أبعادها في كتابه الماتع «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»
يقول الكواكبي رحمه الله: ما أشبه المستبد في نسبته إلى رعيته بالوصي الخائن القوي، يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ماداموا ضعافا قاصرين. فكما أنه ليس من صالح الوصي أن يبلغ الأيتام رشدهم، كذلك ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم.
لا يخفى على المستبد، مهما كان غبيا، أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء. فلو كان المستبد طيرا لكان خفاشا يصطاد هوام العوام في ظلام الجهل، ولو كان وحشا لكان ابن آوى يتلقف دواجن الحواضر في غشاء الليل، ولكنه هو الإنسان يصيد عالمه جاهله.
المستبد لا يخشى علوم اللغة إذا لم يكن وراء اللسان حكمة حماس تعقد الألوية، أو سحر بيان يحل عقد الجيوش
وكذلك لا يخاف المستبد من العلوم الدينية المتعلقة بالمعاد، المختصة ما بين الإنسان وربه، لا عتقاده أنها لا ترفع غباوة ولا تزيل غشاوة، وإنما يتلهى بها المتهوسون للعلم ... على أنه إذا نبغ منهم البعض ونالوا حرمة بين العوام لا يعدم المستبد وسيلة لاستخدامهم في تأييد أمره ومجاراة هواه في مقابلة أنه يضحك عليهم بشيء من التعظيم ويسد أفواههم بلقيمات من فتات مائدة الاستبداد.
وكذلك لا يخاف من العلوم الصناعية محضا.. ولا يخاف من الماديين لأن أكثرهم مبتلون بإيثار النفس، ولا من الرياضيين لأن غالبهم قصار النظر.
ترتعد فرائص المستبد من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس وتوسع العقول وتعرف الإنسان ما حقوقه، وكم هو مغبون وكيف الطلب، وكيف النوال وكيف الحفظ.
وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة، وهم المعبر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: { {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} } [الأنبياء:105] وفي قوله { {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} } [هود:117] وإن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد، كما حولوا معنى مادة الفساد والإفساد من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين.
كما يبغض المستبد العلم لنتائجه يبغضه أيضا لذاته، لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان، فلابد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما.
ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوقه فكرا، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق. وعلى هذه القناعة بنى ابن خلدون قوله «فاز المتملقون» وهذه طبيعة كل المتكبرين بل في غالب الناس، وعليها مبنى ثنائهم على من يكون مسكينا خاملا لا يرجى لخير ولا لشر.
وينتج مما تقدم أن بين الاستبداد والعلم حربا دائمة وطرادا مستمرا: يسعى العلماء في تنوير العقول، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان يتجاذبان العوام. ومن هم العوام؟ هم أولئك الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا، كما أنهم هم الذين متى علموا قالوا ومتى قالوا فعلوا.
العوام هم قوة المستبد وقوته، بهم وعليهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريما، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعدونه رحيما، ويسوقهم إلى خطر الموت فيطيعونه حذر التوبيخ، وإن نقم عليهم منهم بعض الأباة قاتلوهم كأنهم بغاة
والقول الحق أن الصدق لا يدخل قصور الملوك، بناء عليه لا يستفيد المستبد قط من رأي غيره، بل يعيش في ضلال وتردد وعذاب وخوف وكفى بذلك انتقاما منه على استعباد الناس وقد خلقهم ربهم أحرارا.
إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، وخوفهم ناشيء عن جهل، وخوفه عن عجز حقيقي فيه، وخوفهم عن توهم التخاذل فقط، وخوفه على فقد حياته وسلطانه، وخوفهم على لقيمات من النبات وعلى وطن يألفون غيره في أيام، وخوفه على كل شيء تحت السماء ملكه، وخوفهم على حياة تعيسة فقط
رحم الله الكواكبي، فلقد كان بارعا في الجهر بما تخاذل عنه الآخرون، وطرق أبواب تحرج من طرقها الانهزاميون، وسطر هذه الأسطر بمداد بصيرته، ومبرهنا على أن التاريخ الإسلامي حافل بكثير من الشرفاء الذين قاوموا الطغيان وبذلوا في ذلك الغالي والرخيص، وكانوا مصابيح دجى عم نورها الآفاق واستعصت على الانطفاء رغم محاولات المداهنين والأفاقين في كل زمان ومكان على تغييب سيرتهم وتجهيل الأمة بكفاحهم وجهادهم