جوائز رمضان بين الحلال والحرام
منذ 2011-08-07
يلاحظ في السنوات الأخيرة انتشار جوائز المسابقات والجوائز الترويحية، حيث أخذتْ حيزًا كبيرًا في حياة الناس ومعاشهم بشكل لم يُسبق إليه من قبل، لا سيما في مواسم الطاعات والعبادات كما في شهر رمضان المبارك..
الحمدُ لله، والصلاة والسلامُ على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
يلاحظ في السنوات الأخيرة انتشار جوائز المسابقات والجوائز الترويحية، حيث أخذتْ حيزًا كبيرًا في حياة الناس ومعاشهم بشكل لم يُسبق إليه من قبل، لا سيما في مواسم الطاعات والعبادات كما في شهر رمضان المبارك، إلى درجة أنَّ كثيرًا من الناس قد تنشغل قلوبهم بآمال الفوز بإحدى تلك الجوائز والتي قد تكون ذات قيمة كبيرة، في الوقت الذي ينبغي على المسلم أن ينصرف في هذا الموسم إلى الحصاد الأخروي بدلًا من الزائل الدنيوي.
ولما كان الأمر واقعًا في عصرنا الحاضر وجب بيان الحكم الشرعي فيما يتعلق بتلك الجوائز، خاصة مع كثرة تنوع الجوائز وتعدد أشكالها، وأيضًا ما يصاحب ذلك من استفتاءات الناس واستعلامهم عن الحكم الشرعي.
يمكن تصنيف صور الجوائز المعاصرة لا سيما التي تُطرح في شهر رمضان إلى الأنواع التالية:
أولاً: الجوائز العلمية والثقافية:
وهي ما تقوم به المؤسسات العلمية ومراكز الأبحاث والجمعيات الخيرية من إجراء مسابقات علمية وثقافية، ثم تقوم بتوزيع الجوائز على الفائزين، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
جوائز المسابقات القرآنية والعلوم الشرعية:
حيث تقوم كثير من الجمعيات الخيرية ومراكز تحفيظ القرآن الكريم بإجراء مسابقات حفظ القرآن الكريم وتجويده ومعرفة معانيه، كذلك تجري مسابقات في شتى العلوم الشرعية من فقه وتوحيد وتفسير إلى غيرها من العلوم النافعة والمطلوبة.
وهذه المسابقات منتشرة بشكلٍ كبيرٍ، حيث لا توجد جمعية خيرية أو مركز لتحفيظ القرآن أو حتى كثير من الأندية الرياضية إلا تقوم بالإعلان عن مثل هذه المسابقات.
الجوائز الثقافية في الصحف والمجلات:
تنشر معظمُ الصحف والجرائد والمجلات مسابقاتٍ ثقافية وعلمية على صفحاتها، وذلك بالإعلان عن مسابقة ثقافية تتضمن سؤالًا أو عدة أسئلة حول أي موضوع، وتشترط للمشاركة في المسابقة الإجابة عن السؤال في المكان المخصص والذي يُسمى بقسيمة المسابقة، بحيث تكون القسيمة أصلية غير مُصوَّرة، ثم تقوم بجمع القسائم وفرزها، وتُستبعد الإجابات الخاطئة، ثم تقوم باختيار الفائزين عن طريق القرعة.
هذه هي الصورة الغالبة التي تجريها الجرائد والمجلات.
جوائز المسابقات في القنوات الفضائية:
بعدما غزتْنا الفضائياتُ من كل صوبٍ وحدب، وأصبحت تدخل كل بيت ويشاهدها الملايين من البشر، انتشرت معها ما يُسمى بالمسابقات التلفزيونية، حيث تَطرح القناةُ مسابقة ثقافية معينة، سواء اشترطت حضور المتسابقين إلى القناة لإجراء المسابقة بينهم، أو اكتفت بعرض الأسئلة على المشاهدين بشكلٍ عام، وحتى تتم المشاركة في المسابقة تطلب القناة من الراغبين في المشاركة بالاتصال بها أو بإرسال رسالة نصية، كي يجيب المتسابق عن السؤال المطروح، مع الإشارة بأن قيمة الاتصال بالقناة تزيد على التعرفة المعهودة.
ثم أخذت هذه القنوات بالتنافس في إبداع هذه المسابقات وابتكارها لاستقطاب أكبر عدد من المشاهدين[1].
حكم جوائز المسابقات العلمية والثقافية:
إجراء المسابقات العلمية والثقافية مشروع في الجملة، بل قد يقال إنَّ أول من أجرى مسابقة ثقافية هو رسولُنا -صلى الله عليه وسلم، فعن ابن عمر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: « »[2].
وقد بوَّب الإمام البخاري -رحمه الله- لهذا الحديث بابًا بعنوان: (باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم)[3].
قال الإمام النووي -رحمه الله- في شرحه للحديث: "وفي هذا الحديث فوائد منها استحباب إلقاء العالم المسألة على أصحابه ليختبر أفهامهم ويرغِّبهم في الفكر والاعتناء، وفيه ضرب الأمثال والأشباه"[4].
وقد نُقل عن الإمام الشافعي -رحمه الله- أنه كان يُلقي المسألة على ابنه أبي عثمان[5] وتلميذه الحُميدي[6]، ويقول: (مَن أصاب منكم فله دينار)[7].
فالمسابقة العلمية والثقافية من الأمور التي رغَّب فيها الشارع، لما فيها من النفع والخير وتنشيط العقول وإذكاء الهمم.
الحكم الشرعي إذًا هو جواز إقامة المسابقات العلمية والثقافية والتشجيع عليها بالجوائز القيمة، وهو مذهب الحنفية[8] واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم[9]، إلا أنه ينبغي مراعاة الضوابط التالية عند إجراء المسابقات العلمية والمشاركة فيها:
• أن يكون موضوع أسئلة المسابقة من الأمور المفيدة والنافعة، لا أن تكون أسئلةً عن الفن المبتذل كالأفلام الهابطة والأغاني التافهة وغيرها من الموضوعات التي لا تعود بالنفع على الناس.
• من الضوابط المهمة والتي تصلح أن تكون قاعدة في موضوع الجوائز، أنَّ كل مسابقة تكون جوائزها من أموال المتسابقين أنفسهم فهي من القمار المحرَّم، وقد أشكل ذلك على البعض حكم المسابقات التي تجريها الصحف والمجلات، فإنَّ المتسابق يدفع مالًا وذلك عندما يقوم بدفع قيمة الصحيفة أو المجلة حتى يتمكن من المشاركة في المسابقة، فهل يدخل ذلك في القمار؟
وفي المسألة تفصيل:
يُنظر في قصد المشارك في المسابقة عندما اشترى الصحيفة، هل كان قاصدًا الانتفاع بالصحيفة وقراءتها، أو كان قاصدًا المسابقة ذاتها؟
فإن كان قاصدًا الانتفاع بالصحيفة، ويُعرف ذلك بالقرائن كمداومته على شراء الصحيفة يوميًا أو كان لديه اشتراك سنوي مع الصحيفة، فعندئذٍ لا حرج عليه بالمشاركة في المسابقة، وفي حالة فوزه بالجائزة يجوز له أخذها، وأما المال الذي دفعه للصحيفة، فهو في مقابل شيءٍ ذي قيمة وفائدة، إذ ينتفع بما يُنشر في الصحيفة من أخبار ومقالات وإعلانات، فبذلك تزول شبهة القمار.
وأما إن كان قاصدًا بشراء الصحيفة الاشتراك في المسابقة والحصول على الجائزة، فلا شك أنَّ هذا داخل في القمار، والمال الذي دفعه إنما أنفقه في حرام، وإن فاز في المسابقة وحصل على الجائزة، فالجائزة عليه محرمة.
ومن خلال الضابط السابق يمكننا الحكم على المسابقات الثقافية التي تطرحها القنوات الفضائية، فإنهم إن اشترطوا الاتصال للمشاركة في المسابقة، فيُنظر فيما يلي:
إن كان سعر الاتصال هو ما حددته شركة الاتصالات من غير زيادة في التكلفة، وعُلِم أنه لا اتفاقَ بين المنظِّمين للمسابقة وبين شركة الاتصال على أن يكون المال الوارد من المكالمات بينهما، ففي هذه الحالة لا حرج من المشاركة في المسابقة، ويكون المال الذي دَفَعَه من خلال إجراء المكالمة هو كالأجرة التي يدفعها المتسابق لمن يوصله إلى مكان السِّباق.
أما إن زيد في سعر الاتصال وهذا ما يحدث غالبًا، فالحكم أن المسابقة قمارٌ قطعًا وبلا شك، ولا يجوز للمسلم أن يشارك فيها[10].
• من الضوابط كذلك أنه عند إجراء المسابقة الثقافية ينبغي البعد عن طرح الأسئلة الموهمة والصعبة والتي قد تسبب إشكالًا واضطرابًا لدى المتسابقين والمشاهدين، ويُطلِق العلماءُ على مثل هذا بالأغلوطات، وقد ورد النهي عنها، فعن معاوية -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- نهى عن الغَلوطات (وفي رواية الأغلوطات)[11]، ويُفسِّر الإمامُ الأوزاعي -وهو أحد رواة الحديث- الغَلوطات بأنها: شداد المسائل وصعابها[12]، قال الخطَّابي: "أراد المسائلَ التي يُغالَط بها العلـماء ليزلوا فيها، فيهيج بذلك شر وفتنة، وإنما نهى عنها لأنها غير نافعة في الدين ولا تكاد تكون إلا فيما لا يقع"[13].
وقال ابن حجر: "ثبت عن جمع من السلف كراهة تكلف المسائل التي يستحيل وقوعها عادة أو يندر جدًا، وإنما كرهوا ذلك لما فيه من التنطع والقول بالظن"[14].
ثانيًا: جوائز المصارف والبنوك:
حَذَتْ المصارفُ والبنوك حَذْوَ التجار وأصحاب المحلات التجارية وغيرها في طرح الجوائز لاستقطاب الزبائن إليها، فبادرت بتقديم الجوائز لعملائها والمتعاملين معها.
ومع ازدهار البديل الإسلامي للبنوك التقليدية (الربوية) فينبغي التأكيد على أنَّ التعامل مع البنوك غير الإسلامية لا يجوز سواءً فيما يتعلق بموضوع الجوائز أو بكافة التعاملات المصرفية الأخرى، ويكفي في ذلك قوله عزوجل: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2].
وبالتالي فإنَّ البحث سينصب على حكم جوائز المصارف الإسلامية دون التقليدية (الربوية)، وذلك فيما يلي:
الجوائز التي تقدِّمها المصارف الإسلامية قد تكون في الغالب عبارة عن تحمل نفقات حج أو عمرة، أو أحيانًا جوائز نقدية أو عينية أو غيرها.
والفقهاء المعاصرون وخاصة أعضاء لجان الرقابة الشرعية في المصارف الإسلامية لم يتفقوا على جواز إعطاء هذه الجوائز، واختلفوا على رأيين:
الأول: يرى أنه لا مانع من تقديم الجوائز لعملاء البنك، وأنَّ ذلك يُعد تشجيعًا من البنك لاستقطاب أكبر عدد ممكن من العملاء بطريقة لا تفضي إلى محظور شرعي[15].
الثاني: أنَّ تقديم الجوائز والترويج لها من قِبَلِ المصرف الإسلامي يُعد تقليدًا للغرب وللبنوك الربوية، ويؤدي إلى التكاسل عن العمل على أمل الحصول على كسب دون جهد، وهذا مخالف لروح الإسلام الذي يحثُ على الإقبال على العمل والكسب من عمل اليد[16].
ومن خلال القولين أجد أنَّ الرأي الأول القائل بعدم الممانعة من تقديم تلك الجوائز هو الأرجح لعدم وجود ما يمنع من ذلك شرعًا.
ويمكن الرَّدُّ على المانعين أنه ليس كلُ تقليدٍ للغرب ممنوعًا في الشرع، بل إنَّ الاستفادة مما توصلوا إليه في سائر المجالات جائز من حيث الأصل، ما لم يتعارض ذلك بدليل شرعي، ولا يخفى أنَّ الأصل في المعاملات الإباحة[17].
ولا بد للمصارف أن تبتكر مثل هذه الأمور لكي يتزايد إقبال الناس عليها.
كيفية تقديم الجوائز في المصارف الإسلامية:
الجوائز التي تُطرح من قِبَل المصارف الإسلامية -على رأي المجوِّزين- إما أن تكـون على الحسابات أو على استخدام الصراف الآلي، ولكلٍ حكمها فيما يلي:
أولاً: الجوائز على الحسابات:
الحسابات إمَّا أن تكون جارية أو استثمارية، ولمعرفة حكم الجوائز على هذه الحسابات لا بد من معرفة حقيقةِ كلٍ منها:
أ- الحسابات الجارية:
التكييف الشرعي للحسابات الجارية أنها قروض مضمونة يحق للبنك التصرف فيها، ويقوم بردها عند الطلب ولو لم ينص على ذلك[18].
إذاً فالحساب الجاري يُعدُّ قرضًا حسنًا من غير فائدة مقدَّمٌ من المودِع إلى المصرِف.
وعلى ضوء هذا التكييف فإنَّ الجوائز على هذه الحسابات محرَّمة شرعًا، لأنها زيادة على مبلغ القرض إذا كانت مشروطةً في طلب فتح الحساب، أو أعلنها البنك في أثناء وجود الحساب، أو جرتْ عادة البنك بمنح هذه الجوائز[19]، وهذا الحكم مبني على القاعدة الشرعية المجمع عليها أنَّ كل قرض جر نفعًا فهو ربا، قال ابنُ قدامة: "كل قرض شرط فيه أن يزيده فهو حرامٌ بغير خلاف"[20]، وقال ابنُ المنذر: "أجمعوا على أن المُسلِف إذا شَرَط على المستسلف زيادة أو هدية فأسلف على ذلك، أنَّ أخذ الزيادة على ذلك ربا"[21].
وقد يقول قائل إنَّ إعطاء الجوائز على هذه الحسابات من قبيل باب حُسن القضاء في القرض، فإنه يجوز للمستقرض أن يُرجع القرض للمقرِض وأن يزيده على مبلغ القرض من غير شرط، ولكن هذا بعيد، لأنَّ المصارف تعلن مُسبقًا عن هذه الجوائز أو في أثناء وجود الحساب، مما يشجع المودِعين على إبقاء حساباتهم من أجل هذه الجوائز، وهذا هو عين الربا.
ب- الحسابات الاستثمارية:
المراد من الحسابات الاستثمارية هي الودائع التي يقبلها المصرف الإسلامي من المودِعين على أساس أنها مضاربة تخضع للربح والخسارة[22]، فالمصرف هنا يعتبر مضارِبًا، والمودِع يعتبر رب المال؛ وتوزع الأرباح حسب الاتفاق بينهما.
وهذه الحسابات إما أن تكون على صورة حساب توفير بحيث يمكن للمودِع أن يسحب من حسابه ما يشاء في أي وقت شاء، أو على صورة وديعة إلى أجل بحيث لا يمكن للمودِع أن يسحب شيئًا حتى انتهاء الأجل المتفق عليه، وفي كلا الحالين فإنَّ المصرف يستثمر هذه الأموال بما يرى في ضوء أحكام الشريعة الإسلامية.
يتضح مما سبق أنه لو أعطى المصرف الجوائز للمودِعين، فكأنما أعطى المضاربُ الجائزةَ لرب المال، وهذه الصورة لا حرج فيها، لعدم وجود ما يمنع من ذلك شرعاً.
ولكن لا يجوز إخراج تلك الجوائز من الأرباح العامة للمصرف، لأن للمودِعين والمستثمرين الحقَّ في هذه الأموال، إنما تكون من أموال المساهمين في رأس مال المصرف.
وقد أصدرت ندوة البركة قرارًا بهذا الشأن، جاء فيه: "يجوز تقديم البنك جوائز إلى أصحاب حسابات الاستثمار، لأنَّ أرصدة هذه الحسابات مملوكة لأصحابها، والبنك مضارب لهم فيها بحصته من الربح، على ألا يؤدي منح هذه الجوائز إلى ضمان رأسمال المضاربة أو أي جزء منها كما في حالة حدوث خسارة، وذلك لأن ضمان المضارب لرأسمال المضاربة لا يجوز شرعًا، على أن يكون دفع هذه الجوائز من أموال البنك لا من أرباح حسابات الاستثمار، لأن المضارب ليس له التبرع من أموال المضاربة"[23].
ثانيًا: الجوائز على استخدام الصراف الآلي:
تقوم بعض المصارف الإسلامية بتقديم الجوائز للمتعاملين معها من خلال استخدام الصراف الآلي التابع لها بغض النظر عن نوع الحساب الذي بين المصرف وبين العميل.
وحكم هذه الجوائز الإباحة، لأنها تعتبر من باب الترويج والتسويق لهذا المصرف، ولا يوجد ما يمنع منها شرعاً، إلا إذا اشترط المصرف مبلغًا لقاء الحصول على هذه الجوائز، فحينئذٍ تصبح محرَّمة لأن ذلك يُعد من القمار.
وقد ورد حكم الجوائز على استخدام الصراف الآلي ضمن قرارات ندوة البركة الثالثة والعشرين أيضًا حيث توصلوا إلى أنه: لا مانع شرعًا من تقديم جوائز عن طريق السحب العشوائي "القرعة" لبعض المتعاملين مع البنك الذين يسحبون مبالغ محدَّدة من الصراف الآلي خلال مدة معينة وذلك بشرطين:
أولهما: ألا يدفع الداخلون في السحب أو يحسم من حساباتهم أي مبالغ مقابل الاشتراك في السحب، لأن ذلك يعد قمارًا.
ثانيهما: ألا تزيد عمولة السحب خلال المدة التي يتم السحب خلالها عن العمولة العادية[24].
ومما يُلحق بالجوائز المقدَّمة على استخدام الصراف الآلي الجوائز الممنوحة على بطاقات الائتمان[25]، فقد بدأت المصارف الإسلامية بتقديم الجوائز على هذه البطاقات تشجيعًا للناس في اقتنائها، وذلك بإجراء القرعة على أرقام البطاقات الائتمانية المسلَّمة إلى العملاء، ومن ثمَّ اختيار عدد محدد منهم وتقديم الجوائز لهم[26].
والكلام على حكم هذه الجوائز مرتبط بالعلاقة بين المصرف وحامل البطاقة.
وقد تضمنت قرارات ندوة البركة -أيضًا- الحكم على هذه الجوائز، فقد جاء فيها فيما يتعلق بالجوائز على بطاقات الائتمان ما يلي:
"قد تُمنح هذه الجوائز لكل من يستخدم البطاقات الصادرة للمتعاملين مع المؤسسات، وقد تمنح حامل البطاقة جوائز بمقدار مجموع النقاط التي يحصل عليها خلال مدة معينة، وقد تمنح الجوائز بطريقة القرعة بين الذين استخدموا البطاقة في المشتريات بمبلغ معين، وقد تكون الجوائز نقدية أو عينية أو اشتراكات مجانية في بعض الخدمات".
حكم هذه الجوائز يرتبط بالصفة الشرعية للعلاقة بين مصدر البطاقة، فعلى القول بأنها حوالة فإن مصدر البطاقة هو الدائن لحاملها، فتكون الجائزة من المقرِض إلى المقترض، وهذه جائزة، لأنَّ الممنوع هو العكس، وعلى القول بأنها كفالة، فمصدر البطاقة هو الكفيل فتكون الجائزة على هذه الصفة من الكفيل للمكفول ولا حرج في ذلك شرعًا، إذ الممنوع هو العكس"[27].
ثالثًا: جوائز المحلات التجارية:
لا يختلف اثنان في أنَّ الجوائز تلعب دورًا هامًا في تنشيط الأسواق والمحلات التجارية، فما أن تجد محلًا تجاريًا يُروِّج لبضائعه بهذه الجوائز والحوافز إلا تجد إقبال الناس عليه أكثر من غيره.
وقد أصبح موضوع الجوائز والحوافز التسويقية عِلمًا قائمًا بذاته، له فنونه وأساليبه، وقد أُلِّفت كتبٌ ومؤلفاتٌ كثيرة حول فن الترويج والتسويق بالجوائز[28].
لذلك أصبحت هذه الجوائز واقعًا ملموسًا في حياة الناس، الأمر الذي أوجب على العلماء والباحثين أن يبينوا الأحكام الشرعية المتعلقة بها.
وقبل الخوض في ذكر أهم الصور لجوائز المحلات التجارية لا بد من الإشارة إلى موقف العلماء المعاصرين من فكرة جوائز المحلات التجارية ابتداءً، فقد اختلف العلماء في حكمها على قولين:
الأول: يري عدم إباحة هذه الجوائز، وهذا هو رأي الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره[29].
الثاني: يرى التفصيل حسب نوع الجائزة وطريقة إعطائها، وهو رأي جمع من أهل العلم كالشيخ الزرقا وابن عثيمين وغيرهما[30].
وسيأتي تفصيل القول الثاني من حيث ذكر الجوائز المباحة والمحرَّمة عند ذكر صور جوائز المحلات التجارية.
حجة القائلين بالتحريم:
يقول الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله- : "قد لُوحظ قيام بعض المؤسسات والمحلات التجارية بنشر إعلانات في الصحف وغيرها في تقديم جوائز لمن يشتري من بضائعهم، مما يغري بعض الناس على الشراء من هذا المحل دون غيره، أو يشتري سلعًا ليس له فيها حاجة طمعًا في الحصول على إحدى هذه الجوائز، وهو نوع من القمار المحرَّم شرعًا والمؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، ولما فيه من الإغراء والتسبب في ترويج سلعته وإكساد سلع الآخرين المماثلة ممن لم يقامر مثل مقامرته، فالجائزة التي تحصل من طريقه محرَّمة، لكونها من الميسر المحرَّم شرعًا، وهو القمار"[31].
وقد مال الدكتور القرضاوي إلى هذا الرأي وإن لم يجزم بالتحريم، حيث قال: "لا أحب للمؤسسات الإسلامية أن تتبع هذا الأسلوب الغربي في تشجيع العملاء أو الزبائن عن طريق الجوائز التي جنَّ بها كثير من التجار في عصرنا، لأنَّ هذه المبالغ التي تدفع لبعض المشترين تحسب في النهاية من تكاليف السلعة، ويتحملها المستهلك، فكأن المشتري المحظوظ بالجائزة يأخذ قيمتها عند التحليل النهائي من عامة المستهلكين، فهذا يجعل في الأمر بعض الشبهة في نظري، وقد يبرر ذلك بعض التجار بأنه يقتطع ذلك من الربح، وهذا يحتاج إلى نقاش" [32].
من خلال النقلين السابقين نستطيع أن نُبرِز أهم النقاط التي أشكلت على الشيخين ابن باز والقرضاوي في الذهاب إلى تحريم جوائز المحلات التجارية -كما هو رأي ابن باز- أو عدم التشجيع عليها -كما هو رأي القرضاوي-:
أولًا: أنها نوع من القمار:
الجواب: أنَّ جوائز المحلات التجارية كثيرة ومتعددة ولها صور مختلفة عن بعضها البعض، فكثير منها لا تدخل في صورة القمار كما سنرى أمثلة على ذلك.
فالتعميم أنها من القمار ليس بصحيح، بل ينبغي النظر في صورة الجائزة المعروضة وكيفية تقديمها ثم يحكم عليها بالجواز أو الحرمة.
ثم إنه لا يجوز اعتبار كل شيء دخله الحظ أنه من القمار، لأنَّ القمار له حقيقة في الفقه الإسلامي وهي التردد بين الغنم والغرم، فإذا انطبقت هذه الحقيقة على صورة الحصول على الجائزة فحينئذٍ تُعد من القمار، ويحكم عليها بالحرمة.
ثانياً: أنَّ فيها تقليدًا للغرب:
الجواب: أنَّ الاستفادة من الغرب فيما توصلوا إليه من أمور المعاملات وغيرها لا بأس به، فإذا كانت فكرة جوائز المحلات التجارية فكرة غربية ولا يوجد فيها ما يعارض أحكام شريعتنا فلا يظهر بأس بالأخذ بها.
ثالثًا: أنها تؤدي إلى ترويج سلعة تاجرٍ على آخر، فبالتالي يؤدي ذلك إلى كساد سِلَع الآخرين:
الجواب: أنَّ التجارة تتطلب خبرةً وفنًا ونشاطًا، فلو استطاع تاجرٌ أن يُروِّج لبضاعته بطريقةٍ مباحة فلا حرج عليه ولو تسبب ذلك في كساد بضاعة غيره، فلو فُرِضَ أنَّ تاجرًا قام بإنفاق مبالغ كبيرة من أجل تحسين واجهة محله التجاري، والمحل الذي بجواره تقاعس عن تطوير محله ولم ينفق عليه درهمًا واحدًا، ثم أصبح الناس يفضِّلون ذاك المحل على هذا الذي لم ينفق، فهل يحق لأحد أن ينكر على التاجر الأول بأنه تسبب في كساد بضاعة جاره؟
الجواب: بالطبع لا، فالجوائز الترويجية للمحلات التجارية من هذا القبيل -والله أعلم.
رابعًا: أنها تدفع الناس إلى شراء ما لا حاجة لهم فيه طمعًا في الحصول على إحدى هذه الجوائز:
الجواب: أنَّ هذا الأمر يرجع إلى نيات الناس ولا يمكن التحكم فيه، فلو فرض أنَّ هناك من يشتري ما لا حاجة له فيه طمعًا في الجائزة فإنه حينئذٍ يقع في القمار، أما من يشتري حاجاته الأساسية ثم يحالفه الحظ ويفوز بجائزة معينة فما المانع من ذلك.
خامسًا: أنَّ قيمة هذه الجوائز تكون في النهاية من تكاليف السلعة والتي يتحملها المستهلك، مما يجعل في هذا الأمر شبهة قمار:
الجواب: أنَّ السلع وأرباحها إنما هي ملك للتاجر ومن حقه، فلو أراد التبرع بجوائز من ماله الخاص لم يُمنع من ذلك، وليس في هذا الأمر شبهة قمار، لأنه من طرف واحد، والمستهلك إنما دفع المال مقابل السلعة لا لأجل الجائزة.
لكن إذا عُلِم أنَّ التاجر يزيد في سعر بضائعه في مقابل تلك الجوائز، ففي هذا الحال يمكن القول بأنَّ عملية الحصول على الجائزة فيها قمار، فتحرم الجائزة أخذًا وعطاءً.
الترجيح:
من خلال ما سبق من مناقشة استشكالات المانعين لجوائز المحلات التجارية يتضح لدى الباحث أنَّ القول بتحريم جوائز المحلات التجارية مطلقًا فيه نظر، وذلك لأنَّ ما ذكر من أدلة لا يكفي للقول بالتحريم، فتبقى هذه الجوائز على الإباحة والحل حتى يقوم دليلٌ يمنع منها أو من بعض صورها.
وفيما يلي أهم الصور لتلك الجوائز مع بيان أحكامها الشرعية:
الصورة الأولى: جوائز لكل مشترٍ:
حيث إنَّ كل من يشتري من هذا المحل التجاري سيحصل على جائزة معينة، وهذه الجوائز قد تأخذ صورًا متعددة، فهي إما أن تكون معلومة أو مجهولة وإما أن تكون مربوطة بالسلعة أو منفصلة عنها.
فأما إن كانت الجائزة معلومة، كأن يُعطى للمشتري سلعة إضافية أو طقمًا من حاجيات المنزل أو أي شيء آخر، فهذا لا حرج فيه حتى لو زيد في ثمن السلعة، وحتى لو كان المشتري قاصدًا لهذه الجائزة بالإضافة إلى السلعة، لأنَّ السلعة وما يتبعها من جوائز معلومة لدى المشتري.
وأما إن كانت الجائزة مجهولة، كأن يخبأ في بعض السلع بعض الجوائز بحيث تكون غير معلومة، وقد تكون جوائز ذا قيمة أو جوائز رمزية، ففي هذه الصورة إن كان ثمن السلعة لا زيادة فيه، وكان قصد المشتري السلعة لا الجائزة، فلا مانع من أخذ هذه الجائزة لأنها تعتبر هبة وتبرعًا من البائع، والتبرعات مبناها على التسامح، ولا حرج من كون الجائزة مجهولة.
وقد ذهبت لجنة الإفتاء المصرية إلى جواز هذه الجوائز لأنها تبرع، ولا يشترط العلم بالهدية، وذلك إذا لم يقم البائع بزيادة ثمن السلعة[33].
وأما كون الجائزة مربوطة بالسلعة أو منفصلة عنها فلا يؤثر ذلك في الحكم، إنما يرجع ذلك إلى التنويع في طريقة توزيع تلك الجوائز وتقديمها.
الصورة الثانية: جوائز لمن يشتري بمبلغ معين:
تختلف هذه الصورة عن سابقتها في اشتراط الشراء بمبلغ معين، فمثلًا: يقول البائع: من يشتري سلعًا بمبلغ عشرة دنانير فله جائزة.
فهذه الصورة اختلف الفقهاءُ المعاصرون في حكمها على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن هذه الجوائز محرَّمة، لكون الطريقة التي تم الحصولُ عليها من الميسِر المحرَّم شرعًا، وهذا هو رأي الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره[34].
القول الثاني: لا بأس في الحصول على هذه الجوائز إذا كانت السلع تباع بقيمة المثل في الأسواق، واختار هذا القول الشيخ محمد الصالح العثيمين، حيث قال: "إذا كانت السلع التي يبيعها هذا التاجر الذي جعل جائزة لمن تجاوزت قيمة مشترياته كذا وكذا تباع بقيمة المثل في الأسواق، فإن هذا لا بأس به"[35]، ورجّح هذا القول كذلك الدكتور محمد عثمان شبير[36].
وحجة هذا القول أنَّ الأصل في المعاملات الحل والإباحة ما لم يقم دليل على التحريم، ولا دليل هنا يعتمد عليه في منع هذه الصورة[37].
القول الثالث: التفريق بين الجوائز البسيطة والجوائز ذات القيمة الكبيرة، فالجوائز البسيطة مباحة لأنها من عادة التجار وعُرْفهم، أما ذات القيمة الكبيرة فتُمنع لأنها ذريعة إلى المقامرة، وذهب إلى هذا التفريق الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله-، وأنقل نصَّ كلامه للوقوف على أدلته، حيث قال: "إنَّ رأيي في هذه المسألة هو التمييز بين الهدايا البسيطة التي هي من عادة التجار وعرفهم (أنَّ من يشتري كمية كبيرة من البضائع عندهم يقدِّمون إليه هدية بسيطة تقديرية وترغيبية له، كسيارة لعبة أولاد أو قطعة أو قطعتين زيادة عما اشتراه)، وبين الهدايا ذات القيمة الكبيرة التي يجري عليها سحب بطريقة السحب على اليانصيب بالأرقام، فيفوز بها أحد حاملي هذه البطاقات (الكوبونات) من الزبائن.
فتلك الهدايا البسيطة المعتادة بين جميع التجار لمن يشتري كمية كبيرة أو مجموعة من الأصناف هي حلال، لأنها تقدمة تعبيرية عن تقديرات التاجر لذلك الزبون.
أما هذا النوع من الهدايا ذات القيمة الكبيرة كالسيارة والثلاجة، مما يجري عليه سحب بحسب أرقام القسائم التي يعطونها لمن يشتري ما لا يقل عن مُعين من المشتريات، ثم يسحب دوريًا على القسائم لاستحقاق تلك الثمينة، والتي أصبح المشترون يشترون من عند هذا التاجر لأخذ هذه القسائم، فلا أراها إلا من قبيل اليانصيب التجاري الذي هو اليوم في نظر علماء الشريعة ضربٌ من المقامرة محرَّم يأثم فيه الطرفان التاجر والزبون، ولا يكون ما يستحقه بهذه الطريقة حلالًا، ولا سيما أنه يضر اقتصاديًا بصغار التجار الذين لا يملكون مثل هذه الوسائل القمارية المغرية، فيصرف عنهم الناس ويخرجه من السوق، وهذا ضررٌ اقتصادي كبير، والله -سبحانه- أعلم "[38].
وقد عقَّب الدكتور القرضاوي على كلام الشيخ الزرقا قائلًا: "أنا أؤيد هذا النظر الفقهي العميق، وأرى -إضافةً إلى ذلك- أنَّ هذا الأسلوب هو في النهاية إغلاء لقيمة السلعة على حساب عموم المستهلكين، وهو يعبِّر عن النمط الغربي الذي يغري الناس بكثرة الاستهلاك للسلع، وإن لم يكن بهم حاجة إليها، على خلاف المنهج الإسلامي الذي يحث على الاعتدال أبدًا"[39].
ولعل بعد ذكر هذه الأقوال الثلاثة يتضح جليًا أنَّ الحكم في هذه المسألة يرجع إلى وجهات نظر مختلفة، فمنهم من اقتصر في نظرته على طريقة تقديم الجوائز ومن ثمَّ أصدر حكمًا عليها، ومنهم من نظر نظرة شمولية بعيدة المدى أو بعبارة أدق نظر إلى مآل هذا الفعل وما يترتب عليه ثم حَكَمَ عليه بما توصل إليه.
وفي رأي الباحث بعد التأمل والنظر أنَّ القول الثالث له وجهة نظرٍ قوية، وذلك لأنَّ الجوائز اليسيرة لا تُغري الناس كثيرًا بحيث يشترون ما لا حاجة لهم فيه من أجلها، وأما إن كانت الجوائز ذات قيمة كبيرة فلا يُستبعد أن يسعى الناس في الحصول عليها وذلك بشراء سلع فوق حاجاتهم حتى يصلوا إلى المبلغ الذي يؤهلهم للحصول على الجائزة.
ولا يخفى أنه إذا قَصَدَ المشتري بشرائه للسلع الحصول على الجائزة، فإنَّ ذلك يدخله في دائرة القمار أو شبهته.
فحتى يتم التخلص من إشكالية شراء الناس فوق حاجاتهم والإسراف في ذلك من أجل الحصول على الجوائز الأمر الذي يوقعهم في القمار المحرَّم، ينبغي التفريق بين الجوائز اليسيرة والجوائز ذات القيمة الكبيرة، فالجوائز اليسيرة مباحة ولا بأس بها، والجوائز ذات القيمة الكبيرة ذريعة إلى القمار ينبغي تجنبها، والله أعلم.
الصورة الثالثة: جوائز معلقة بشرط مستقبلي:
وهذه الصورة شبيهة بالصورة السابقة، إلا أنها تفارقها في أنَّ هذه الصورة فيها إغراء أكبر للمشتري.
وصورتها الواقعة كالتالي: توزع رسائل عبر الإنترنت من خلال البريد الإلكتروني أو بالرسائل النصية على الجوالات أو حتى على المنازل على أناس معينين، ومكتوب في هذه الرسالة: مبروك[40] لقد كسبت جائزة قيِّمة بمبلغ كذا وكذا، وحتى تستلم هذه الجائزة لا بد من أن تشتري من المحل أي شيء يبلغ قيمة كذا، فيذهب صاحبُ الرسالة بسبب الإغراء في هذه الطريقة ويشتري أي شيء مما لا يحتاجه لكي يستلم الجائزة.
وهذه الصورة لا شك في حرمتها، وتُعتبر حيلة إلى القمار[41].
الصورة الرابعة: جوائز عن طريق السحب لمن يشتري بمبلغ معين:
وهذه هي عين الصورة الثانية، ولكن توزيع الجوائز يكون بالسحب عن طريق إجراء القرعة.
وصورتها أن يشتري المشتري بمبلغ معين يخوله الدخول في السحب عن طريق كوبونات تُعطَى له.
وحكم هذه الصورة لا يختلف عن حكم الصورة الثانية إلا في ما يتعلق في مسألة السحب على الجوائز عن طريق القرعة.
والصحيح أنَّ القرعة وسيلة ترجيح مشروعة لمعرفة الفائز، ولها أصل في الشريعة، فقد روى البخاري عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سَفَرًا أقرع بين نسائه، فأيَّتهن خرج سهمها خرج بها معه[42].
قال ابن حجر في شرحه للحديث: "فيه مشروعية القرعة والرد على من منع منها"[43].
وقد ذهب بعض المعاصرين كالشيخ الزرقا والدكتور القرضاوي إلى جواز استعمال القرعة في تحديد الفائز في جوائز المحلات التجارية[44].
فإجراء القرعة من أجل معرفة الفائز بالجائزة جائزٌ ولا يُعَدُّ من القمار، لأنَّ القمار هو أنَّ يتعرض الداخل فيه للربح أو الخسارة، وفي صورة مسألتنا من لم تصبه القرعة لم يخسر في حقيقة الأمر، لأنَّ المال الذي دفعه إنما هو في مقابل البضائع التي اشتراها، إلا إذا كان قصده بالشراء الدخول في القرعة أو زاد التاجر في أسعار بضائعه من أجل الجوائز، ففي هذا الحال تصبح صورة المسألة محرَّمة لاشتمالها على القمار.
الصورة الخامسة: جوائز لمن يجمع أجزاء مفرقة في سلع من صنف معين:
وفي هذه الصورة تشترط بعض المحلات التجارية للحصول على الجائزة أن يجمع المشتري أجزاءً أو قطعًا معينة موجودة في صنف معين من السلع، وقد تأخذ صورتين:
الأولى: أن يُكمل جمع عدد معين من الأجزاء فيحصل على جائزة معينة على قدر عدد الأجزاء التي تم جمعها، ومثالها: أَغطية المشروبات الغازية، فإنَّ شركات المشروبات الغازية تضع جوائز متفاوتة، كل جائزة يُشترط لها عدد معين من الأغطية.
الثانية: جوائز ذات قيمة كبيرة، كسيارة أو مكيف أو ثلاجة وما شابهها، وطريقة الحصول على هذه الجوائز أنه يُوضع في بعض السلع جزءٌ من شكل معين يتكون من جزئين، فإذا أتم إكمال الجزئين فإنه يفوز بتلك الجائزة القيمة.
حكم الصورتين:
الصورة الأولى لا يختلف حكمها عن صورة (جوائز لكل مشتري) والتي سبق الحديث عنها، خصوصًا وأنَّ جوائزها في الغالب يسيرة كمسجل صغير أو نظارة شمسية وهكذا، فحكمها أنه لا حرج فيها ما دام المشتري لم يقصد بالشراء جمع هذه الأجزاء للحصول على الجائزة.
وقد أجاب المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث عن سؤال مضمونه ما يلي: بعض الشركات تضع بعض الصور داخل منتجاتها، وعندما يقوم الشخص بتجميع بعض هذه الصور ويرسلها للشركة يمكن أن يحصل على جائزة رصدتها الشركة لهذا الغرض، فما الموقف من هذا؟
الجواب: بالنسبة لهذه الجوائز المذكورة لا حرج على المسلم في أخذها، وذلك لأنها تتم من طرف واحد وهي الشركة المانحة لها دون اشتراط زيادة في سعر السلعة، وإنما هو من باب الترويج لبضائعها ولا يتحمل الطرف الثاني المشتري أي خسارة ولا زيادة على ثمن السلعة مما يدخلها في أحكام القمار المحرَّم شرعاً، والممنوع فقط في هذه المسألة أن يشتري المسلم هذه السلع لغرض الحصول على هذه الجوائز، فهذا يدخله في القمار المحرَّم شرعًا[45].
أما الصورة الثانية فالإشكال في الجوائز المرصودة لها، فإنها ذات قيمة كبيرة، والطريقة التي تجرى من أجل نيل هذه الجوائز فيها شيء من إثارة روح المقامرة، لأنها تُفضي إلى حمل الناس على شراء كميات كبيرة من نوع معين من السلع رجاء الحصول على الجزء المكمل للجزء الذي تم الحصول عليه.
يقول الشيح ابن عثيمين -رحمه الله-: "جَعْلُ صورة سيارة نصفها في كارت ونصفه الثاني في كارت آخر مثلاً، ولا تدري عن هذا النصف الآخر هل هو موجود، أو غير موجود؟ وعلى فرض أنه موجود فهو حرام بلا شك، لأنَّ الإنسان إذا اشتري كرتونًا يكفيه وعائلته، ووجد فيه كارت السيارة، فإنه سوف يشتري عشرات الكراتين أو مئات الكراتين رجاء أن يحصل نصف الثاني، ليحصل على السيارة، فيخسر مئات الدراهم، والنهاية أنه لا شيء، فقد تحصل لغيره، فيكون في هذا إضاعة مال وخطر، فلا يجوز استعمال هذه الأساليب" [46].
فالأقرب أنَّ حكم هذه الصورة الحرمة، لما تفضي إليه من محذورات شرعية، والله أعلم.
هذه هي أبرز الصور الموجودة في الأسواق والمحلات التجارية، وهناك صور جديدة تخرج بين الفينة والأخرى، يمكن الحكم عليها من خلال التأمل في الصور السابقة، واستخراج أحكامها من خلالها.
رابعًا: جوائز اليانصيب:
مفهوم اليانصيب:
كلمة اليانصيب من الكلمات المستحدثة والتي لا وجود لها في معاجم اللغة العربية فضلًا عن الكتب الفقهية.
وهي كلمة مركبة من جزءين، الياء: وهي حرف نداء، ونصيب ومعناها: الحظ[47].
ففي الكلمة مجتمعة معنى الاستنجاد بالحظ والصدفة، مما تُوحي بالاعتماد على الحظ في كسب المال وترك العمل والجد والأسباب التي وضعها الله -سبحانه وتعالى- لتحصيل الرزق.
فيظهر مما سبق أنَّ في كلمة (اليانصيب) معنىً مذمومًا وهو كذلك.
وصورة اليانصيب المعروفة هي عبارة عن بطاقات أو قصاصات من الورق ليس لها قيمة في ذاتها، وعليها أرقام معينة، فتباع هذه البطاقات بأعداد كبيرة، ثم يُجرَى سحبٌ على هذه البطاقات، فتخرج أرقام محدودة يكون أصحابها هم الفائزين بالجوائز المرصودة، في حين يخسر الآلاف.
فاليانصيب إذن لون من ألوان القمار المحرَّم شرعًا، والذي نزلتْ في تحريمه آياتٌ تُتلَى إلى يوم القيامة، حيث قال عز وجل: { يَا أَيُّهَا الذِّينَ آمنُوا إِنما الخمرُ وَالميسرُ وَالأنصابُ وَالأزلامُ رِجسٌ مِن عَمَلِ الشَّيطَانِ فَاجتَنبُوه لَعلكُم تُفلِحُون. إنما يُريدُ الشَّيطَانُ أَن يُوقعَ بَينكُم العَداوةَ وَالبَغضاءَ في الخمرِ وَالميسِرِ وَيصدكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَعَن الصَّلاةِ فَهل أنتُم مُنتهُون} [المائدة: 90-91]، رُوي عن ابن عباس -رضي الله عنه- أنه قال: "الميسر هو القِمار" [48].
ولا يشك عاقل في الحكمة من تحريم القمار، واليانصيب منه، وقد ذكر العلماء من وراء هذا التحريم حِكَمًا كثيرة، من ذلك ما ذكره الدكتور القرضاوي، حيث قال: "للإسلام من وراء هذا التحريم الجازم حِكَمٌ بالغة، وأهداف جليلة":
أنه يريد من المسلم أن يتبع سنن الله في اكتساب المال، وأن يطلب النتائج من مقدِّماتها، ويأتي البيوت من أبوابها، وينتظر المسببات من أسبابها، والقمار -ومنه اليانصيب- يجعل الإنسان يعتمد على الحظ والصدفة والأماني الفارغة، لا على العمل والجد واحترام الأسباب التي وضعها الله، وأمر باتخاذها.
الإسلام يجعل لمال الإنسان حُرْمة فلا يجوز أخذه منه، إلا عن طريق مبادلة شرعية أو عن طيب نفس منه بهبة أو صدقة، أما أخذه بالقمار فهو من أكل المال بالباطل.
أنه يورث العداوة والبغضاء بين اللاعبين المتقامرين، وإن أظهروا بألسنتهم أنهم راضون، فإنهم دائمًا بين غالب ومغلوب، وغابن ومغبون، والمغلوب إذا سكت، سكت على غيظ وحنق، غيظ من خاب أمله، وحنق من خسرت صفقته، وإن خاصم خاصم فيما التزمه بنفسه، واقتحم فيه بعضده.
والخيبة تدفع المغلوب إلى المعاودة عسى أن يعوِّض في الثانية ما خسر في الأولى، والغالب تدفعه لذة الغلبة إلى التكرار، ويدعو قليله إلى كثيرة، ولا يدعه حرصه ليقلع، وعما قليل تكون الدائرة عليه وينتقل من نشوة الظفر إلى غم الإخفاق، وهكذا دواليك مما يربط كليهما بمنضدة اللعب فلا يكادان يفارقانها، وهذا هو السر في كارثة الإدمان في لاعبي الميسر.
من أجل ذلك كانت هذه الهواية خطرًا شديدًا على المجتمع، كما هي خطرٌ على الفرد، إنها هواية تلتهم الوقت والجهد، وتجعل من المقامرين أناسًا عاطلين، يأخذون من الحياة ولا يعطون، ويستهلكون ولا ينتجون، والمقامر مشغول دائمًا بقماره عن واجبه نحو ربه، وواجبه نحو نفسه، وواجبه نحو أسرته، وواجبه نحو أمته "[49].
صور معاصرة لليانصيب:
الصورة الأولى: تذاكر اليانصيب (اليانصيب التجاري):
وقد أُشير إليها في بداية هذا المبحث، وهي المقصودة غالبًا عند إطلاق اليانصيب، وتعتمد أساسًا على طرح تذاكر للبيع من خلال أكشاك منتشرة في الأسواق والمطارات وتجمعات الناس، وتعلن عن جوائز خيالية لمـن يكـون سـعيد الحـظ ويظـهر اسمـه في السحـب.
وهذه الصورة لا خلاف في تحريمها لأنها من القِمار، وذلك لأنَّ الداخل فيها يدفع مالًا من غير مقابل، ويعلِّق آماله بالأماني الزائفة، وقد حذَّر سيِّدُنا علي -رضي الله عنه- ابنَه الحسن -رضي الله عنه- من ذلك في وصيةٍ له -فيما يُروى عنه، حيث قال له: "وإياك والاتكالَ على المُنى، فإنها بضـائع النَّوْكَى"[50].
الصورة الثانية: اليانصيب الخيري:
تقوم بعض الجهات الخيرية بإقامة ما يُسمَّى باليانصيب الخيري، حيث تُعلِن عن عزمها إقامة مستشفيات أو ملاجئ أو حتى مساجد، وذلك بطريقة تشبه اليانصيب التجاري، حيث تصدر أوراقًا وتقوم ببيعها لكي يتم الحصول على الأموال اللازمة، وتُغري الجماهير بالإعلان عن جوائز سخية لمن يحالفه الحظ ويفوز في السحب.
وهذه الصورة تختلف عن الصورة السابقة من حيث وجود الإغراء فيها من جانبين، جانب الجوائز القيمة المعلن عنها، والجانب الخيري الإنساني الذي يزعمه القائمون على اليانصيب.
فالحكم الشرعي لهذا النوع من اليانصيب لا يختلف عن حكم اليانصيب التجاري، فكلاهما محرَّم لكونهما من القمار.
والعجيب أنَّ بعض الباحثين يدافعون عن هذا الضرب من اليانصيب، لكون الغاية منه إقامة المشروعات الخيرية التي تسد حاجات الفقراء والمساكين، وخاصة أننا في زمان قلَّ فيه من يتبرع لهذه المشروعات[51]، حيث يقول أحدهم: "اليانصيب ظاهرة معناها أنَّ مَعين الأخلاق المنبثق عن الإيمان قد نضب من القلوب، وأنَّ الناس أصبحوا ماديين لا يهتمون إلا بالمادة والربح والإغراء به، ولا بد من إغرائهم بالربح حتى نأخذ منهم لعمل خيري، فاليانصيب مبني إذن على فكرة نضوب مَعين الأخلاق الطيبة من القلب، وعلى أنَّ الخير لم يعد ينبثق من العاطفة والنفس في شكل تضحية، بل لا بد من دافع الإغراء "[52].
وقد رد على هذه الشبهة التي تُجوِّز اليانصيب الخيري الشيخ مصطفى الزرقا -رحمه الله- حيث قال في إجابة له عن إحدى الأسئلة: "قد يتبادر إلى الذهن أنه ما دام الغرض من فتح اليانصيب خيريًا بالنظر الإسلامي، وفيه فكرة المعاونة من مشتري التذاكر على هدف يحبذه الإسلام أو يوجبه، فلتقاصر الهمم عن القيام بالواجبات الكفائية، ومنها مثلًا إمداد المنكوبين بكارثة في بعض البلاد الإسلامية، يكون في أسلوب اليانصيب (حيث يأمل كثير من الناس أن يحالفهم الحظ فيربحوا الجائزة) حافز لهم على شراء التذاكر، لا يتوافر حين يطلب منهم التبرع للغرض الخيري فقط دون هذا الحافز من الأمل.
هذه الفكرة قد ترد ولا شك إلى الذهن فرقًا بين اليانصيب الخيري واليانصيب التجاري الذي هو قمار محض لا شبهة فيه.
ولكنني بعد طول تفكير ترجَّح عندي أنَّ هذه الفكرة غير مقبولة في النظر الإسلامي، فإنَّ فيها سلوك الواسطة الحرام للوصول إلى الهدف المشروع.
وإنَّ الإسلام لا يقبل فيه مبدأ الغاية تبرر الواسطة[53]، فإنَّ هذا المبدأ الذي يعتمده اليهود والشيوعيون يفتح أبواباً من الوسائط الإجرامية لا حدود لها، فيجب في الإسلام أن تكون الغاية والواسطة كلتاهما مشروعتين… وقد كان الميسر في جاهلية العرب ذا غاية نبيلة وخيِّرة، حيث كان الخاسر فيه يذبح جزورًا يأكل منه اللاعبون وسواهم من فقراء القبيلة، ومع ذلك حرَّمه الإسلام بنص القرآن، لأنَّ وسيلته غير سليمة، وهي الاعتماد على الحظ، وما يجرُّه اللعب من آفات أشار إليها القرآن العظيم بقوله: {إِنما يُريدُ الشَّيطَانُ أن يُوقِعَ بَينكُم العَداوةَ وَالبغضاءَ في الخمرِ وَالميسرِ وَيصدكُم عَن ذِكرِ اللهِ وَعَن الصَّلاة فهل أنتُم مُنتهُون } [المائدة: 91].
هذا إلى أنَّ من يشتري تذكرة اليانصيب، حينما يكون رِبْح الفائز مغريًا ضخمًا كسيارة مثلًا، لا يتجه برغبته إلى بذل المعونة لأجل الهدف الخيري لليانصيب، وإنما كل همه الأمل في ربح السيارة بأيسر سبيل وأرخص ثمن هو شراء التذكرة، وهذا هو الأمل الفاسد الذي يقود صاحبه إلى الفشل، ويُقعده عن العمل الجدي المجدي الذي هو الوسيلة الصحيحة للاكتساب" [54].
فالخلاصة أنه لا يجوز إقامة اليانصيب الخيري مهما كانت الأسباب والدوافع، والجوائز التي تُعطَى فيها محرَّمة لا يجوز أخذها.
ومما يشبه هذه الصورة ما تقيمه بعض المؤسسات الخيرية من إقامة سوق خيري تباع فيه بعض الأطعمة وبعض الأعمال اليدوية، وتُعطِي المشترين قسائم ذات أرقام، ثم بعد الانتهاء من السوق تجري السحب على الأرقام، ومن ثمَّ تعطي الفائزين بعض الهدايا والجوائز، مع العلم أنَّ الأرباح الناتجة من السوق تخصص لأعمال الخير والبر.
فحكم هذه الصورة يرجع إلى قصد ونية المشاركين في السوق، فإن كانت نيتهم المساهمة في أعمال الخير ومساعدة الفقراء والمساكين من خلال شراء منتوجاتهم ومعروضاتهم فلا حرج في أخذ الجائزة في حالة الفوز بها.
وأما إن كانت النية متجهة للحصول على الجائزة فالحكم أنَّ ذلك يدخل في دائرة القمار، وبالتالي تحرم الجوائز على الفائز بها بهذه النية.
الصورة الثالثة: يانصيب مسابقات الخيول:
سبق الحديثُ عن المسابقات التي حرَّض الشارعُ عليها لما فيها من الإعداد للجهاد وتقوية شأن الدين، ومن تلك مسابـقات الخيـول، فقـد انعقد الإجمـاع على مشروعيـة مسابقات الخيول ووضع الجوائز فيها، وقد نقل الإجماع على ذلك غير واحد من أهل العلم[55].
إلا أنَّ القصد من هذه المسابقات لم يعد موجودًا في عصرنا، فهي تقام من أجل الربح المالي فقط، أو من أجل التحدي بين فئات من الناس، وفي الغالب يكونون من علية القوم وكبرائهم.
ومما زاد الطين بلة أن ظهرت أوراقُ يانصيب مرتبطة بسباق الخيل، فيتقامر الناس على الخيول نفسها، فأي خيل تفوز تكون الجوائز من نصيب أصحاب البطاقات التي رشحت هذه الخيل[56].
فلا صلة لهذا السباق ببث روح الجهاد والفروسية، فضلًا عن وجود القمار فيه، فأصبحت الصورة بأكملها كقول القائل: حشفًا وسوء كيل.
فالحكم الشرعي ظاهر من أنَّ هذا اليانصيب محرَّم ولا يجوز المشاركة فيه.
الصورة الرابعة: اليانصيب الرياضي:
وهذا اليانصيب لا يختلف عن اليانصيب التجاري إلا في الاسم وبعض الأمور الشكلية التي لا تغير في الحكم الشرعي.
حيث إنها تُعرَض بطاقات للبيع، وعلى هذه البطاقات مكان مخصص للمسح، فيمسح المشتري هذه البطاقة، فإذا ظهرت له علامة تدل على فوزه، يحصل على إحدى الجوائز، وإلا يخسر ما دفعه.
فهذه الصورة ظاهرة التحريم لكونها لا تخرج عن صورة القمار.
وهناك صورة أخرى وهي أنهم يقومون ببيع تذاكر لدخول الملاعب الرياضية لمشاهدة المباريات، وفي نفس الوقت تُجرَى سحوبات على هذه التذاكر، ومن خلالها تُعطَى جوائز للفائزين.
فحكم هذه الصورة يُلحَق بالقصد والنية كما سبق في صور كثيرة سابقة[57]، فإن كان قصدُ مشتري هذه التذكرة الدخول إلى الملعب ومشاهدة المباراة فلا حرج عليه في أخذه للجائزة في حال الحصول عليها، لأنَّ الجائزة جاءت تبعاً وليست قصدًا.
وأما إن كان قاصدًا الجائزة ذاتها فحكمه أنه مُقَامِر، وتحرم عليه الجائزة حينئذ.
الصورة الخامسة: اليانصيب الهاتفي:
ويُطلِق عليه بعض الباحثين بالميسر الهاتفي أو القمار الهاتفي، وهي أحدث صورة للقمار في عصرنا الحالي، حيث يُعلَن عنه في الفضائيات والجرائد وكل وسيلة تخاطب الناس، بحيث يمكن القول أنَّ القمار في هذا العصر أصبح يُعلَن عنه جهاراً في كل بيت مسلم بأيسر صورة وإلى الله المشتكى، حيث إنه بمجرد رفع سماعة الهاتف والاتصال بالجهات التي تُروِّج لهذا الميسر، يصبح الإنسان مقامرًا.
وحقيقة اليانصيب الهاتفي هو أن يتم الاتصال برقم معين هو رقم الجهة المُعلِنة للجوائز[58]، بحيث تحسب عليه أجرة الاتصال أضعاف الأجرة العادية، ومن خلال هذا الاتصال تُطرَح بعضُ الأسئلة التافهة على المتصلين للإجابة عنها[59]، ثم تُعطَى الجوائز للفائزين إما من خلال السحب أو من خلال من يأتي بالإجابة الصحيحة.
فيظهر مما سبق أنَّ الفرق بين اليانصيب الهاتفي واليانصيب التجاري صوري وشكلي، لأنَّ الأجرة الزائدة للاتصال التي يدفعها المشارك إنما هي بمثابة كوبون اليانصيب، ولكن في صورة جديدة[60].
فالنتيجة أنَّ حكم اليانصيب الهاتفي حرام، وينبغي على المسلم أن يحذر هذه الحيل التي أخذت بالانتشار، وأن يُنكِر على مُروِّجيها حسب استطاعته، والله أعلم.
هذه أبرز صور الجوائز المعاصرة والتي تطل علينا في شهر رمضان وفي غير رمضان، فينبغي للمسلم الحرص على عدم الوقوع في الصور المحرمة، والاكتفاء بما هو مباح، وإن كان الأفضل أن ينصرف عن ذلك كله ويقبل على الله بالطاعة والعبادة لكي ينال الجائزة العظمى وهي رضوان الله تعالى.
وختامًا:
ما جاء في هذا البحث صوابًا وموافقًا للحق فهو من محض توفيق الله تعالى، وما جاء مجانبًا للحق فهو من تقصير النفس وزيغ الشيطان، والمسلم مرآة أخيه.
وصلَّ الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
______________
[1] ولعل من أشهر هذه المسابقات هي مسابقة من سيربح المليون، حيث لاقت رواجًا بين المشاهدين في كل الدول العربية، بل إن بعض الدول الأجنبية أخذت فكرة هذا البرنامج وأجرتها باللغة التي تتحدث بها، ولكن ثمة محاذير شرعية تشتمل عليها هذه المسابقة، حيث إنها تعتمد على مضاعفة أسعار المكالمات التلفونية التي يجريها الجمهور مع إدارة البرنامج، فكأن كل واحد من المتصلين اشترى بطاقة يانصيب للدخول في القرعة التي يتم بموجبها اختيار المرشح للمسابقة الذي يكون واحدًا أو آحادًا معدودين من بين آلاف أو ملايين المتصلين الذين يخسرون ما دفعوه، ومن ثمَّ تربح هذه المحطة التلفزيونية التي تذيع هذه المسابقة وشركة الاتصال التي اتفقت معها بهذا الشأن، وهذه المسابقة وما شابهها لا شك في حرمتها كونها صورة مستحدثة من صور القمار.
[2] أخرجه البخاري، صحيح البخاري، كتاب العلم، باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم، برقم (62)، (1/34)، ومسلم، صحيح مسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب مثل المؤمن مثل النخلة، برقم (1/28)، (4/2164).
[3] انظر: صحيح البخاري، (1/34).
[4] النووي، شرح النووي على صحيح مسلم، (17/154).
[5] أبو عثمان هو: محمد الكبير، قاضي حلب وبلاد الجزيرة، توفي سنة 234 أو بعد 240هـ. انظر: الرازي، أبو محمد عبد الرحمن، آداب الشافعي ومناقبه، تحقيق: عبد الغني عبد الخالق، ص97.
[6] الحميدي هو: عبد الله بن الزبير القرشي، شيخ البخاري، توفي سنة 219 أو 220هـ. انظر: ابن قاضي شهبة، أبو بكر بن أحمد، طبقات الشافعية، (2/66).
[7] انظر: الرازي، آداب الشافعي ومناقبه، ص97.
[8] انظر: الزيلعي، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق، (6/228)، شيخي زاده، عبد الرحمن بن محمد، مجمع الأنهر في شرح ملتقى الأبحر، (2/549).
[9] انظر: ابن تيمية، مجموع الفتاوى، (32/227)، و ابن القيم، الفروسية، ص 318.
[10] وسيأتي مزيد تفصيل عند الحديث عن اليانصيب الهاتفي.
[11] أخرجه أحمد، المسند، (5/435)، وأبو داود، سنن أبي داود، (2656)، قال الألباني: "سنده ضعيف، فيه عبد الله بن سعد وهو مجهول كما قال الذهبي"، انظر: مشكاة المصابيح للتبريزي، تخريج: محمد ناصر الدين الألباني، (1/81).
[12] انظر: مسند الإمام أحمد بن حنبل، (5/435).
[13] نقلًا عن: آبادي، عون المعبود شرح سنن أبي داود، (10/64).
[14] ابن حجر، فتح الباري، (10/407).
[15] انظر: فتوى الرقابة الشرعية للبنك الإسلامي الأردني، نقلًا عن: شبير، محمد عثمان، أحكام المسابقات المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي، (بحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي، جدة، الدورة الرابعة عشر، 11/1-16/1/2003م)، فتوى بعنوان: (حكم جوائز البنوك الإسلامية)، برقم (3720) من مركز الفتوى بإشراف: د.عبد الله الفقيه، الشبكة الإسلامية (موقع الكتروني)، WWW.ISLAMWEB.COM.
[16] انظر: فتوى لجنة الرقابة الشرعية لمصرف قطر الإسلامي المكوَّنة من: د.يوسف القرضاوي، د. علي المحمدي، د.علي السالوس، د. عبد القادر العماري، الشيخ وليد بن هادي، نقلًا عن: شبير، أحكام المسابقات المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي ص31.
[17] انظر: شبير، أحكام المسابقات المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي ص30.
[18] انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (2/837).
[19] انظر: فتوى المستشار الشرعي للبنك الإسلامي الأردني، وجاء ضمن الفتوى: "أما توزيع الجوائز على أصحاب الحسابات الجارية فقد أُرجئ البت فيه لوجود شبهة قرض جر نفعًا"، نقلًا عن: شبير، أحكام المسابقات المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي ص31.
[20] ابن قدامة، المغني (6/436).
[21] ابن المنذر، أبو بكر محمد بن إبراهيم، الإجماع، تحقيق: د. فؤاد عبد المنعم (1/95).
[22] انظر: شبير، المعاملات المالية المعاصرة في الفقه الإسلامي ص266.
[23] من قرارات وتوصيات ندوة البركة الثالثة والعشرين المنعقدة في مكة المكرمة، من 29 شعبان إلى 2 رمضان 1424هـ الموافق 25-27 أكتوبر 2003م. انظر: مجلة الاقتصاد الإسلامي التي يصدرها بنك دبي الإسلامي، العدد (272) ص28.
[24] المصدر السابق.
[25] عرَّف مجمعُ الفقه الإسلامي بطاقات الائتمان على أنها: "مستند يُعطيه مصدره لشخص طبيعي أو اعتباري بناء على عقد بينهما يمكنه من شراء السلع أو الخدمات ممن يعتمد المستند دون دفع الثمن حالًا، لتضمنه التزام المصدر بالدفع، ومن أنواع هذا المستند ما يمكّن من سحب النقود من المصارف على حساب المصدر". انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (7/559).
[26] انظر: زعتري، الخدمات المصرفية وموقف الشريعة الإسلامية منها ص589، وحمَّاد، حقيقة بطاقة الائتمان وتكييفها الفقهي، بحث مقدم إلى مجمع الفقه الإسلامي، الدورة الثانية عشرة، عام 1421هـ-2000م، انظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي (13/499).
[27] من قرارات وتوصيات ندوة البركة الثالثة والعشرين، مصدر سابق.
[28] انظر على سبيل المثال: عباس، د.بشير وربابعة، أ.علي، الترويج والإعلان التجاري، وناصر، د.حمد، الأصول التسويقية في إدارة المحلات والمؤسسات التجارية، والشباني، د. محمد عبد الله، الجوائز والترويج السلعي من المنظور الإسلامي، مجلة البيان، العدد (105).
[29] انظر: فتاوى علماء البلد الحرام ص404 ،441.
[30] انظر: فتاوى مصطفى الزرقا، اعتني بها: مجد مكي، فتوى بعنوان : (حكم الجوائز التي يعطيها التجار للمشترين) ص513، وفتاوى التجار ورجال الأعمال، فتوى لابن عثيمين ص38.
[31] انظر: فتاوى علماء البلد الحرام ص 456.
[32] القرضاوي، فتاوى معاصرة (2/419).
[33] انظر: الفتاوى الإسلامية من دار الإفتاء المصرية (7/2501)، نشر المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، مصر، عام 1982م.
[34] انظر: فتاوى علماء البلد الحرام ص 404، 441.
[35] انظر: فتاوى التجار ورجال الأعمال، فتوى لابن عيثمين ص38.
[36] انظر: شبير، أحكام المسابقات المعاصرة في ضوء الفقه الإسلامي ص30.
[37] انظر: المصدر السابق.
[38] انظر: فتاوى مصطفى الزرقا، فتوى بعنوان: (حكم الجوائز التي يعطيها التجار للمشترين) ص513.
[39] المصدر السابق ص514.
[40] هذه الكلمة من الأخطاء اللغوية الشائعة، والصحيح أن يُقال: مبارك.
[41] وقد سُئل الدكتور علي محيي الدين القُرة داغي (رئيس قسم الفقه وأصوله بجامعة قطر) سؤالاً مطابقًا لهذه الصورة، فأجاب بعدم الجواز، الفتوى على شبكة الإنترنت، موقع الإسلام أون لاين، WWW.ISLAMONLINE.NET.
[42] أخرجه البخاري، صحيح البخاري، كتاب الشهادات، باب القرعة في المشكلات، برقم (2542)، (2/955)، ومسلم، صحيح مسلم، كتاب التوبة، باب في حديث الإفك وقبول توبة القاذف، برقم (2770)، (4/2129).
[43] ابن حجر، فتح الباري (8/458).
[44] انظر: فتاوى مصطفى الزرقا ص511، القرضاوي، فتاوى معاصرة (2/42).
[45] من فتاوى المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، رقم الفتوى (8/12)، الدورة الثانية عشرة، دبلن، مأخوذة من شبكة الإنترنت من موقع الدكتور القرضاوي، .www.qaradawi.net
[46] انظر: فتاوى الشيخ محمد الصالح العثيمين (2/780).
[47] انظر: المعجم الوسيط (2/933)، وأبو جيب، القاموس الفقهي لغةً واصطلاحًا ص354، والشرباصي، المعجم الاقتصادي الإسلامي ص462، والموسوعة الفقهية (40/320).
[48] الجصَّاص، أحكام القرآن (2/4).
[49] القرضاوي، الحلال والحرام في الإسلام ص294.
[50] النوكى أي: الحمقى. انظر: القضاعي، أبو عبدالله محمد بن سلامة، دستور معالم الحكم ومأثور مكارم الشيم ص152.
[51] لم أجعل هذا الرأي قولًا فقهيًا في المسألة، حتى لا يظنّ أحد أنَّ في المسألة خلاف وبالتالي يمكن الأخذ بالقول المجوِّز، إنما اعتبرته شبهة وَرَدَتْ على المسألة وتم الرد عليها والحمد لله.
[52] ذكر د. أحمد شلبي بعض القائلين بهذا الرأي في كتابه: الحياة الاجتماعية في التفكير الإسلامي ص385.
[53] وهي مشهورة بلفظ: الغاية تبرر الوسيلة، وهي مخالفة لمبادئ الإسلام.
[54] الزرقا، فتاوى مصطفى الزرقا ص568.
[55] انظر: ابن المنذر، أبو بكر محمد بن إبراهيم، الإجماع (1/61)، وابن حزم، المحلَّـى (1/157)، والقرطبي، تفسير القرطبي (9/146)، وابن عبد البر، التمهيد (14/88)، والنووي، شرح النووي على صحيح مسلم (13/14).
[56] انظر: شلبي، الحياة الاجتماعية في التفكير الإسلامي ص384.
[57] كما في بعض صور جوائز المحلات التجارية وقد سبق التفصيل فيها.
[58] على سبيل المثال: الاتصالات التي تبدأ بالرقم (700)، أو ما تُعرف باسم "إمارات كول" أو "بحرين كول" أو "لبنان كول" وما شابهها.
[59] كمن سيفوز في المباراة الفلانية؟ أو من ترشح لأن تكون ملكة الجمال؟ وغيرها من الأسئلة الهابطة التي لا قيمة لها...
[60] "وقد أكد كثيرون أنَّ فواتير الهواتف الخاصة بهم قد تجاوزت الآلاف من الدنانير في شهر واحد، وصارت نوعًا من الإدمان الذي سماه بعض الباحثين (إدمان الميسر الهاتفي)، ومع هذا الإدمان تأتي المآسي من تضييع للصلوات ممن كان حريصاً عليها، إلى طلاق بعض الزوجات اللاتي أدمنّ على الاتصال بعد انكشاف الأمر مع أول فاتورة وينتهي الأمر بالانفصال، وتتحول حياة الأطفال إلى جحيم". نقلًا عن موقع الإسـلام سؤال وجواب للشيخ محمد صـالح المنجد: www.islam-qa.com
المصدر: د. باسم عامر - خاص بموقع طريق الإسلام
- التصنيف: