الاستعداد للموت (2-2)

منذ 2019-09-08

فيزهد في دنياه, ويقبل على طاعة مولاه, ويلين قلبه, وتخشع جوارحه

 

ومما يُذكر بالموت : زيارة القبور, فعن أبي هريرة رضي الله عنها, قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «زوروا القبور, فإنها تذكركم الموت » ) [أخرجه مسلم] ذكر الإمام ابن رجب رحمه الله : أن رجلاً أتى قبراً محفوراً, فاطلع في اللحد, فبكى بكاءً شديداً, وقال : والله أنت بيتي حقاً, والله لان استطعت لأعمِّرنَّك.

وقال الإمام القرطبي رحمه الله : قال العلماء رحمه الله عليهم : ليس للقلوب أنفع من زيارة القبور وخاصة إن كانت قاسية.فينبغي لمن عزم على الزيارة أن يتأدب بآدابها ويحضر قلبه في إتيانها.ويقصد بزيارتها وجه الله تعالى وإصلاح قلبه ونفع الميت ثم يعتبر بمن صار تحت التراب, وانقطع عن الأهل والأحباب بعد أن قاد الجيوش والعساكر, ونافس الأصحاب والعشائر, وجمع الأموال والذخائر, فجاء الموت في وقت لم يحتسبه, وهول لم يرتقبه, فليتأمل الزائر حال من مضى من إخوانه, ودرج من أقرانه, الذين بلغوا الآمال, وجمعوا الأموال, كيف انقطعت آمالهم, ولم تغن عنهم أموالهم, ومحا التراب محاسن وجوهم, وافترقت في القبور أجزاؤهم, وترمل بعدهم نسائهم, وشمل ذل اليتم أولادهم..وليتذكر.. ركونهم إلى الصحة والشباب, وليعلم أن ميله إلى اللهو واللعب كميلهم, وغفلته عما بين يديه من الموت الفظيع والهلاك السريع كغفلتهم, وأنه لا بد صائر إلى مصيرهم, وليحضر بقلبه ذكر من كان متردداً في أغراضه, كيف تهدمت رجلاه...وسالت عيناه...وأكل الدود لسانه.. وأبلى التراب أسنانه...وليتحقق أن حاله كحاله, ومآله كمآله, وعند هذا التذكر والاعتبار, يزول عنه جميع الأغيار الدنيوية, ويقبل على الأعمال الأخروية, فيزهد في دنياه, ويقبل على طاعة مولاه, ويلين قلبه, وتخشع جوارحه, والله أعلم.

الإيمان وعمل الصالحات

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لا يستحبُّ للرجل أن يحفر قبره قبل أن يموت فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك هو ولا أصحابه, والعبدُ لا يدري أين يموتُ, وإذا كان مقصود الرجلِ الاستعداد للموت, فهذا يكون بالعمل الصالح

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : الواجبُ على المؤمن الاستعدادُ للموت وما بعده في حال الصحة بالتقوى, والأعمال الصالحة.

وقال العلامة العثيمين رحمه الله : الاستعداد للموت يكون بالإيمان والعمل الصالح.

والإنسان إذا عمل الصالحات واستمر عليها توفي على ذلك, قال الله سبحانه وتعالى :  { ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مُسلمون }  [البقرة/132] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : أي أحسنوا حال الحياة وألزموا هذا ليرزقكم الوفاة عليه, فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه.

وقال سبحانه وتعالى :  {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} [آل عمران:102] قال الحافظ ابن كثير رحمه : وقوله تعالى :{ ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}  أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم لتموتوا عليه, فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه أنه من عاش على شيء مات عليه, ومن مات على شيء بعث عليه.

فعن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( « يبعث كلُّ عبد على مات عليه» )[أخرجه مسلم] وعن ابن عباس رضي الله عنهما, قال : بينما رجل واقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفه إذ وقع من راحلته فذُكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : ( «اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبين ولا تحنطوه ولا تخمروا رأسه فإن الله يبعثهُ يوم القيامة مُلبياً » ) [أخرجه مسلم]

كتابة الوصية

من الأمور التي ينبغي للعبد أن يقوم بها استعداداً للموت أن يخرج من الدنيا وليس عليه حقوق للعباد أو لله عز وجل, فإن لم يتمكن من ذلك لأي سبب, فعليه بالمبادرة بكتابة ذلك والوصية به, حتى يعلم به الورثة, وينفذوها.

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «( ما حق امرئٍ مُسلم له شيء يُوصي فيه يبيتُ ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده » ) [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : وفي الحديث...الندب إلى التأهب للموت, والاحتراز قبل الموت, لأن الإنسان لا يدري متى يفجؤه الموت...وكل واحد بعينه جائز أن يموت في الحال, فينبغي أن يكون متأهباً لذلك فيكتب وصيته.

قال الشيخ صالح عبدالرحمن الأطرم رحمه الله : تتأكد المبادرة في الوصية إذا كان المسلم في حالة خطر كاستقبال سفر, واشتداد مرض, وركوب بحر, ومثله الجو, والمراكب الخطيرة, ودخول المعركة....ويجب على الإنسان أن يوصي بوفاء ما عليه من حقوق, سواء كانت تلك الحقوق للعباد كالديون التي ليس عليها إثبات ولا يعلمها إلا هو, وكذلك ما عنده من الودائع والأمانات, أو كانت لله ككفارات, وحج الفرض, والزكاة التي لم يخرجها....ويستحب أن يوصي المسلم بشيء من ماله لنفسه إذا كان له مال ليجري ثوابه له بعد موته لحديث : ( «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية, أو ولد صالح يدعو له, أو علم ينتفع به» )  

الدعاء بالثبات على الدين

من الاستعداد للموت, أن يأتي الإنسان الموت وهو ثابت على دينه, ومن وسائل الثبات أن يدعو بالدعاء الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يُكثر الدعاء به,  فعن شهر بن حوشب قال: «قلتُ لأمِّ سلمه : يا أم المؤمنين ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك ؟ قالت : كان أكثر دعائه (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) قالت : فقلت : يا رسول الله ما لأكثر دعائك يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ؟ قال: ( يا أمَّ سلمه إنه ليس من آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ) » [أخرجه الترمذي]

ومن استعد للموت في حال صحته ورخائه فليبشر بكل خير من الله الكريم الرحيم, قال عز وجل :  {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون .ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون}[الحشر:18-19] قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : فمن ذكر الله في حال صحته ورخائه, واستعد حينئذ للقاء الله عز وجل بالموت وما بعده, ذكره الله عند هذه الشدائد, فكان  معه فيها, ولطف به, وأعانه, وتولاه, وثبته على التوحيد, فلقيهُ وهو عنه راضٍ, ومن نسي الله في حال صحته ورخائه, ولم يستعد حينئذ للقائه, نسيه الله في هذه الشدائد, بمعنى أعرض عنه, وأهمله, فإذا نزل الموت بالمؤمن المستعد له, أحسن الظن بربه, وجاءته البشرى من الله فأحب لقاء الله, وأحبَّ الله لقاءه, والفاجرُ بعكس ذلك, وحينئذ يفرحُ المؤمنُ, ويستبشر بما قدَّمهُ مما هو قادم عليه, ويندمُ المفرطُ, ويقول : {يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله }[الزمر:56] 

ومن مات فقد قامت قيامته, فهو إما في نعيم أو في عذاب, إلى أن تقوم الساعة, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : الإنسانُ منذُ أن تفارق روحه بدنه هو إما في نعيم وإما في عذاب, فلا يتأخر النعيم والعذاب عن النفوس إلى حين القيامة العامة, وإن كماله حينئذ, ولا تبقى النفوس المفارقة لأبدانها خارجة عن النعيم والعذاب ألوفاً من السنين إلى أن تقوم القيامة الكبرى, ولهذا قال المغيرة بن شعبة : أيها الناس إنكم تقولون : القيامة, القيامة, وإنه من مات فقد قامت قيامته.

اللهم وفقنا للتوبة والإنابة, والاستعداد للموت قبل نزوله, وأحسن خاتمتنا, ولا تكلنا لأنفسنا المقصرة طرفة عين أو أقل من ذلك.

                                        كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 2
  • 0
  • 6,237

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً