المنتقى من روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان (3-4)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه, ويفارق صحبة المتهم في دينه, لأن من صحب قوماً عُرف بهم, ومن عاشر امرئ نُسب إليه, والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله.
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
صحبة الأخيار ومفارقة الأشرار
العاقل يلزم صحبة الأخيار, ويفارق صحبة الأشرار, لأن مودة الأخيار : سريع اتصالها, بطيء انقطاعها, ومودة الأشرار : سريع انقطاعها, بطيء اتصالها.
وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار, ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم, فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب, لئلا يكون مريباً, فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير كذلك صحبة الأشرار تورث الشر..لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار تعقب الضغائن لا يستقيم وده ولا يفي بعهده
والواجب على العاقل أن يستعيذ بالله من صحبة من إذا ذكر الله لم يعنه, وإن نسي لم يُذكره, وإن غفل حرّضه على ترك الذكر.
العاقل لا يصادق المتلون, ولا يواخي المتقلب.
العاقل يجتنب مماشاة المريب في نفسه, ويفارق صحبة المتهم في دينه, لأن من صحب قوماً عُرف بهم, ومن عاشر امرئ نُسب إليه, والرجل لا يصاحب إلا مثله أو شكله.
والواجب على العاقل أن لا يصحب من لا يستفيد منه خيراً...وكل جليس لا تستفيد منه خيراً فلا تجالسه قريباً كان أو بعيداً.
لزوم الحياء
الحياء اسم يشتمل على مجانبة المكروه من الخصال.
والواجب على العاقل لزوم الحياء, لأنه أصل العقل, وبذر الخير, وتركه أصل الجهل, وبذر الشر, والحياء يدل على العقل كما أن عدمه دال على الجهل.
والواجب على العاقل أن يعود نفسه لزوم الحياء من الناس, وإن من أعظم بركته تعويد النفس ركوب الخصال الحميدة, ومجانبتها الخلال المذمومة.
لزوم التواضع ومجانبة الكبر
الواجب على العاقل لزوم التواضع ومجانبة التكبر, ولو لم يكن في التواضع خصلة تُحمد إلا أن المرء كلما كثر تواضعه ازداد بذلك رفعة لكان الواجب عليه أن لا يتزيا بغيره...والتواضع يرفع المرء قدراً, ويعظم له خطراً, ويزيده نبلاً.
والعاقل إذا رأى من هو أكبر سنا منه تواضع له, وقال : سبقني إلى الإسلام, وإذا رأى من هو أصغر سنا تواضع له, وقال : سبقته بالذنوب, وإذا رأى من هو مثله عده أخاً, فكيف يحسن تكبر المرء على أخيه ؟ !
التحبب إلى الناس
الواجب على العاقل أن يتحبب إلى الناس بلزوم حسن الخلق وترك سوء الخلق, لأن حسن الخلق يذيب الخطايا كما تذيب الشمس الجليد, وإن الخلق السيِّئ ليفسد العمل كما يفسد الخل العسل, وقد تكون في الرجل أخلاق كثيرة صالحة كلها وخلق سيء فيسد الخلق السيِّئ الأخلاق الصالحة كلها....ومن أعظم ما يتوسل به إلى الناس ويستجلب به محبتهم البذل لهم مما يملك المرء من حطام هذه الدنيا, واحتماله عنهم ما يكون منهم من الأذى.
مجانبة الغضب
سرعة الغضب من شيم الحمقى, كما أن مجانبته من زي العقلاء, وسرعة الغضب أنكى في العاقل من النار في يبس العوسج, لأن من غضب زايله عقله, فقال ما سولت نفسه, وعمل ما شأنه وأراده....والغضب بذر الندم, فالمرء على تركه قبل أن يغضب أقدر على إصلاح ما أفسده بعد الغضب
مجانبة الحسد على الأحوال كلها
الواجب على العاقل مجانبة الحسد على الأحوال كلها, فإن أهون خصال الحسد هو ترك الرضا بالقضاء, وإرادة ضد حكم الله جل وعلا لعباده, ثم انطواء الضمير على إرادة زوال النعم عن المسلم, والحاسد لا تهدأ روحه, ولا يستريح بدنه إلا عند رؤية زوال النعمة عن أخيه...والحسد من أخلاق اللئام وتركه من أفعال الكرام, ولكل حريق مطفئ, ونار الحسد لا تطفأ.
والعاقل إذا خطر بباله ضرب من الحسد لأخيه أبلغ المجهود في كتمانه, وترك إبداء ما خطر بباله.
بئس الشعار للمرء الحسد, لأنه يورث الكمد, ويورث الحزن, وهو داء لا شفاء له
ترك التجسس عن عيوب الغير
الواجب على العاقل لزوم السلامة بترك التجسس عن عيوب الناس, مع الاشتغال بإصلاح عيوب نفسه, فإن من اشتغل بعيوبه عن عيوب غيره أراح بدنه, ولم يتعب قلبه, فكلما اطلع على عيب لنفسه هان عليه ما يرى مثله من أخيه, وإن من اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه, وتعب بدنه, وتعذر عليه ترك عيوب نفسه, وإن من أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم, وأعجز منه من عابهم بما فيه, ومن عاب الناس عابوه, ولقد أحسن الذي يقول :
إذا أنت عبت الناس عابوا وأكثروا عليك وأبدوا منك ما كان يستر
التجسس من شعب النفاق, كما أن حسن الظن من شعب الإيمان, والعاقل يحسن الظن بإخوانه, وينفرد بغمومه وأحزانه, كما أن الجاهل يسيء الظن بإخوانه, ولا يفكر في جناياته وأشجانه.
ترك الحرص والرغبة في الدنيا
أغنى الأغنياء من لم يكن للحرص أسيراً, وأفقر الفقراء من كان الحرص عليه أميراً...ولو لم يكن في الحرص خصلة تذم إلا طول المناقشة بالحساب يوم القيامة على ما جمع لكان الواجب على العاقل ترك الإفراط في الحرص.
الواجب على العاقل أن لا يكون بالمفرط في الحرص على الدنيا فيكون مذموماً في الدارين, بل يكون قصده لإقامة فرائض الله, ويكون لبغيته نهاية يرجع إليها, لأن من لم يكن لقصده منها نهاية آذى نفسه, وأتعب بدنه, فمن كان بهذا النعت فهو من الحرص الذي يحمد.
ترك الطمع إلى الناس
الواجب على العاقل ترك الطمع إلى الناس كافة...إذ الطمع فيما لا يشك في وجوده فقر حاضر, فكيف بما أنت شاك في وجوده أو عدمه ؟
ومن أحب أن يكون حراً فلا يهوى ما ليس له, لأن الطمع فقر كما أن اليأس غنى, ومن طمع ذل وخضع, كما أن من قنع عف واستغنى.
العاقل لا يسأل الناس شيئاً فيردوه, ولا يلحف في المسألة فيحرموه, ويلزم التعفف والتكرم, ولا يطلب الأمر مدبراً, ولا يتركه مقبلاً, لأن فوت الحاجة خير من طلبها إلى غير أهلها, وإن من سأل غير المستحق حاجة حط لنفسه مرتبتين, ورفع المسئول فوق قدره.
لا يجل للعاقل أن يبذل وجهه لمن يكرم عليه قدره, ويعظم عنده خطره, فكيف بمن يهون عليه رده, ولا يكرم عليه قدره, وأبغض اللقاء الموت, وأشد منه الحاجة إلى الناس دون السؤال, وأشدّ منه التكلف بالسؤال.
الحث على لزوم القناعة
ليس أروح للبدن من الرضا بالقضاء, والثقة بالقسم, ولو لم يكن في القناعة خصلة تحمد إلا الراحة, وعدم الدخول في مواضع السوء لطلب الفضل, لكان الواجب على العاقل ألا يفارق القناعة على حالة من الأحوال
ومن عدم القناعة لم يزده المال غنى, فتمكن المرء بالمال القليل مع قلة الهم أهنأ من الكثير ذي التبعة, والعاقل ينتقم من الحرص بالقنوع كما ينتصر من العدو بالقصاص, لأن السبب المانع رزق العاقل هو السبب الجالب رزق الجاهل.
لزوم التوكل
الواجب على العاقل لزوم التوكل على من تكفل بالأرزاق, إذ التوكل هو نظام الإيمان, وقرين التوحيد, وهو السبب المؤدي إلى نفق الفقر ووجود الراحة, وما توكل أحد على الله جل وعلا من صحة قلبه حتى كان الله جل وعلا بما تضمن من الكفالة أوثق عنده بما حوته يده, إلا لم يكله الله إلى عباده, وآتاه رزقه من حيث لا يحتسب.
لزوم الرضا بالشدائد والصبر عليها
الواجب على العاقل أن يوقن أن الأشياء كلها قد فرغ منها, فمنها ما هو كائن لا محالة, وما لا يكون فلا حيلة للخلق في تكوينه, فإن دفعه الوقت إلى شدة فيجب أن يتزر بإزار له طرفان : أحدهما : الصبر, والآخر : الرضا, ليستوفي كمال الأجر لفعله ذلك, فكم من شدة قد صعبت وتعذر زوالها على العالم بأسره ثم فرج عنها السهل في أقل من لحظة.