(4) مشروعية ستر الوجه
محمد ناصر الدين الألباني
يستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع محمود، وإن كان لا يجب ذلك عليها، بل من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج.
- التصنيفات: فقه الملبس والزينة والترفيه -
هذا؛ ثم إن كثيراً من المشايخ اليوم يذهبون إلى أن وجه المرأة عورة لا يجوز لها كشفه، بل يحرم، وفيما تقدم في هذا البحث كفاية في الرد عليهم، ويقابل هؤلاء طائفة أخرى، يرون أن ستره بدعة وتنطع في الدين! كما قد بلغنا عن بعض من يتمسك بما ثبت في السنَّة في بعض البلاد اللبنانية، فإلى هؤلاء الإخوان وغيرهم نسوق الكلمة التالية:
ليعلم أن ستر الوجه والكفين له أصل في السنة، وقد كان ذلك معهوداً في زمنه - صلى الله عليه وسلم - كما يشير إليه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» رواه البخاري.
والقفاز ما تلبسه المرأة في يديها فيغطي أصابعها وكفيها ليحفظها من البرد ونحوه.
والنقاب الخمار الذي يُشَدُ على الأنف أو تحت المحاجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في ((تفسير سورة النور)):
(وهذا مما يدل على أن النقاب والقفازين كانا معروفين في النساء اللاتي لم يحرمن، وذلك يقتضي ستر وجوههن وأيديهن).
والنصوص متضافرة عن أن نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - كن يحتجبن حتى في وجوههن، وإليك بعض الأحاديث والآثار التي تؤيد ما نقول:
1ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(خرجت سودة بعدما ضُربَ الحجابُ لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر بن الخطاب، فقال: يا سودة! أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيتي، وإنه ليتعشى وفي يده عَرْق (هو العظم إذا أخذ منه معظم اللحم)، فدخلت عليه، فقالت: يا رسول الله! إني خرجت لبعض حاجتي فقال لي عمر: كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه وإنَّ العَرْق في يده ما وضعه، فقال: إنه أُذن لكنَّ أن تخرجن لحاجتكن) رواه البخاري ومسلم.
وقول عائشة بعدما ضرب الحجاب تعني حجاب أشخاص نسائه - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن} وهذه الآية مما وافق تنزيلها قول عمر - رضي الله عنه - كما روى البخاري وغيره عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال عمر - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله! يدخل عليك البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب، فأنزل الله آية الحجاب
وفي الحديث دلالة على أن عمر - رضي الله عنه - إنما عرف سودة من جسمها، فدل على أنها كانت مستورة الوجه، وقد ذكرت عائشة أنها كانت رضي الله عنها تعرف بجسمتها، فلذلك رغب عمر - رضي الله عنه - أن لا تعرف من شخصها، وذلك بأن لا تخرج من بيتها، ولكن الشارع الحكيم لم يوافقه هذه المرة لما في ذلك من الحرج.
قال الحافظ رحمه الله في شرحه للحديث المذكور:
(إن عمر - رضي الله عنه - وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام: (احجب نسائك)، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب، ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلاً ولو كن مستترات، فبالغ في ذلك، فمنع منه، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن؛ دفعاً للمشقة ورفعاً للحرج).
وقال القاضي عياض:
((فرض الحجاب مما اختصصن به (أي أمهات المؤمنين)، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها ولا إظهار شخوصهن، وإن كن مستترات؛ إلا ما دعت إليه ضرورة من براز.
2ـ وعنها أيضاً في حديث قصة الإفك قالت:
(( ... فبينا أنا جالسة في منزلي، غلبتني عيني، فنمت، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فأري سواد إنسان نائم، فأتاني، فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت (وفي رواية: فسترت) وجهي عنه بجلبابي ... )) رواه البخاري ومسلم.
3ـ عن عائشة رضي الله عنها قالت:
(كان الركبان يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات، فإذا حاذوا بنا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه) رواه أحمد وأبو داود والبيهقي وسنده حسن في الشواهد، ومن شواهده الحديث الذي بعده.
4ـ عن اسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وعن أبيها قالت:
((كنَّا نغطي وجوهنا من الرجال، وكنَّا نمتشط قبل ذلك في الإحرام)) رواه الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي وإنما هو على شرط مسلم وحده.
والمراد بقولها (نغطي) أي نسدل كما في الحديث الذي قبله.
5ـ عن صفية بنت شيبة قالت:
((رأيتُ عائشةَ طافت بالبيت وهي منتقبة)) رواه ابن سعد وعبد الرزاق في المصنف ورجاله ثقات.
ففي هذه الأحاديث دلالة ظاهرة على أن حجاب الوجه قد كان معروفاً في عهده - صلى الله عليه وسلم -، وأن نساءه كنَّ يفعلن ذلك، وقد استنَّ بهن فضليات النساء بعدهن، وإليك مثالين على ذلك:
1ـ عن عاصم الأحول قال:
((كنا ندخل على حفصة بنت سيرين وقد جعلت الجلباب هكذا: وتنقبت به، فنقول لها:
رحمك الله! قال الله تعالى: {والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً فليس عليهن جناح أن يضعن ثيابهن غير متبرجات بزينة} ـ وهو الجلباب ـ قال: فتقول لنا: أي شيء بعد ذلك؟ فنقول: {وأن يستعففن خير لهن}، فنقول: هو إثبات الحجاب) رواه البيهقي وإسناده صحيح.
2 ـ عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن موسى القاضي قال:
حضرتُ مجلس موسى بن إسحاق القاضي بالري سنة ست وثمانين ومائتين، وتقدمت امرأة، فادَّعى وليُّها على زوجها خمسمائة دينار مهراً، فأنكر، فقال القاضي:
شهودك. قال:
قد أحضرتهم. فاستدعى بعض الشهود أن ينظر إلى المرأة ليشير إليها في شهادته، فقام الشاهد وقال للمرأة: قومي. فقال الزوج: تفعلون ماذا؟ قال الوكيل:
ينظرون إلى امرأتك وهي مسفرة، لتصح عندهم معرفتها. فقال الزوج:
وإني أشهد القاضي أن لها عليَّ هذا المهر الذي تدَّعيه ولا تسفر عن وجهها. فردت المرأة ـ وأخبرت بما كان من زوجها ـ فقالت:
فإني أشهد القاضي: أنْ قد وهبت له هذا المهر، وأبرأته منه في الدنيا والآخرة.
فقال القاضي:
ُيكتبُ هذا في مكارم الأخلاق. أخرجه الخطيب في تاريخ بغداد.
فييستفاد مما ذكرنا أن ستر المرأة لوجهها ببرقع أو نحوه مما هو معروف اليوم عند النساء المحصنات أمر مشروع محمود، وإن كان لا يجب ذلك عليها، بل من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج.
ومما تقدم بيانه يتضح ثبوت الشرط الأول في لباس المرأة إذا خرجت، ألا وهو أن يستر جميع بدنها إلا وجهها وكفيها.