شرح صحيح البخاري - (37) معاملة النبي ﷺ للأعراب
إذا كنت شيخاً وسع من صدرك للغرباء، أكثر من أهل الدار؛ لأن أهل الدار يكونون معك باستمرار، بخلاف الرجل الغريب، فإنه قد لا يعود مرة أخرى.
في الحديث الذي تعرفونه، حديث أبي هريرة وحديث أنس (أن رجلاً أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والصحابة جلوس فقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم أحداً معنا).
كان على هذا الإنسان لو كان عنده شيء من الأدب أن يقول: اللهم ارحمني ومحمداً والجلوس، ولا ترحم الذين خارج المسجد.
طالما لم يسمعوا، لكن الذي يسمع مثل هذا! ماذا تريد؟ أتريد أن تدخله جهنم وبئس المصير؟ وهو يسمع بأذنه، لكن هو أعرابي يتصرف على تربيته، وهذا الأعرابي كان يخالط الدواب والأنعام والأرض الصلبة، فحياته كلها هكذا، ليس فيها مراعاة لشعور الناس.
فقال عليه الصلاة والسلام: «لقد حجرت واسعاً» أي: ضيقت ما وسعه الله، وكان السبب في مقولة الأعرابي أنه دخل ذات يوم مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبال في ناحية منه، فهم الصحابة به -لو أن رجلاً دخل هذا المسجد بنعله سيقتلونه ضرباً، بينما ذلك بال في المسجد فهموا به- قال: «لا تزرموه، دعوه» -لا تقطعوا عليه بوله -لأن علاج المسألة سهل- «وأريقوا على بوله ذنوباً من ماء» لأن الأرض تشرب الماء كما تشرب البول: (إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث) الأرض أصبحت طاهرة وانتهى الأمر، لكن هذا رجل أعرابي ربما لا يأتي بعد ذلك قط، تظل الذكرى الطيبة الحسنة هذه عنده، وهي المعاملة الحسنة من النبي صلى الله عليه وسلم.
وأنا أحكي لكم حكاية: مرة شخص من أطراف الأردن سمع بالشيخ الألباني، وقرأ بعض كتبه فانبهر بكتب الشيخ، والشيخ رحمه الله آتاه الله عز وجل حسن التصنيف، فيعرضها عرضاً متكاملاً وسليماً، حتى لو أنه تبنى قضية من القضايا وكانت خطأً في نفس الأمر تقتنع بها، وذلك من حسن عرضه، فلما قرأ ذلك الرجل كتبه انبهر بهذا الأداء الذي قل نظيره في هذا الزمان، قال: أنا لا أعرف أحداً قط من أهل العصر له مثل ما للشيخ الألباني من حسن التصنيف، إلا الشيخ محمد بن صالح العثيمين حفظه الله، عنده أيضاً حسن عرض المعلومة.
فلما قرأ وانبهر قال: أين هذا الشيخ؟ قالوا: هو في الأردن، فتعجب الرجل: أيكون في الأردن وأنا لا أدري؟! المهم: سأل عنه ورحل إليه، وكان الشيخ يصلي الجمعة في مسجد صلاح الدين، ومن ثم يخرج وينتظر بجانب السيارة حتى تأتي زوجته، أول ما تأتي الزوجة يركب ويمشي مباشرةً فكان طلبته كلهم يلتفون حوله، هذا يسأل سؤالاً وهذا يسأل سؤالاً.
المهم هذا الطالب عندما رأى الشيخ انبهر، والشيخ حفظه الله عليه نظرة أهل الحديث، على وجهه نور، فظل يملي عينيه منه، ويظن أن الوصول إليه سهل ويسير، فلما وصل إلى الشيخ كانت قد وصلت زوجة الشيخ، والشيخ يفتح باب السيارة لكي يركب، فقال له ذلك الرجل: يا شيخ! أنا أتيتك من بلاد بعيدة، وجئت أطلب العلم.
فلم يرد عليه، وأغلق الباب وانطلق! المسألة هذه حولت هذا الطالب مائة وثمانين درجة إلى الوراء، وقعد يقول لنفسه: هل هذا من أخلاق العلماء؟ ولم يعذره، لماذا يا جماعة؟ لأنه ما تعلم الأدب، صحيح أنه قرأ وحصل علماً، لكن ليس عنده أدب، فأخذ هذه الصورة، وطفق كلما ذكر عنده الألباني يذكر له الواقعة هذه.
لأجل هذا إذا كنت شيخاً وسع من صدرك للغرباء، أكثر من أهل الدار؛ لأن أهل الدار يكونون معك باستمرار، بخلاف الرجل الغريب، فإنه قد لا يعود مرة أخرى.
فهذا الأعرابي جاء للنبي صلى الله عليه وسلم ورأى معاملة النبي صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه: «لا تزرموه، دعوه، وأريقوا على بوله ذنوباً من ماء» في حديث ابن عباس -الذي في مسند أبي يعلى في هذا الحديث (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: ما حملك على أن بلت في مسجدنا؟ أولست برجل مسلم؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما ظننته وهذه الصعدات إلا شيئاً واحداً) أنا أظن أن الأرض كلها سواء، فما ظننت أن للمسجد أحكاماً تباين أحكام الصعدات، فهذا الرجل لما خالف لم يخالف عامداً إنما خالف جاهلاً.
إخواننا الذين ينكرون على الجاهل أشد الإنكار، كما لو كان الرجل عالماً فخالف عن علم.
لماذا الناس تنكر بهذه الشدة وبهذا الحماس؟ هذا رجل جاهل، إذاً علِّمه؛ فلذلك النبي عليه الصلاة والسلام كانت سيرته مع الأعراب تباين سيرته مع أصحابه الملازمين له
- التصنيف:
- المصدر: