من جنايات التكفير على المسلمين
في كل مكانٍ تجربة فاشلة، ولا أحد يريد الدراسة والتقييم. تركوني وحيدًا أنادي بأن الثورات ليست إلا أدوات لتطوير المجتمعات في اتجاه مزيدٍ من التغريب، وأن الحركات المسلحة بوضعها الحالي أدوات في يد الأعداء يخرب بها المجتمعات ويعيد بناءها على قواعده لا على قواعدنا.
كيف انتهى البغدادي سريعًا؟!
السؤال لا ينصرف للبغدادي وحده، بل يتجه لتجربة أخرى مرت من قريب ولم تعط حقها من الدراسة، وهي تجربة الحركة الإسلامية في الجزائر في نهاية القرن العشرين. انتشرت على مساحة واسعة من الأرض الجزائرية ولقيت تأيديًا كبيرًا من عوام المسلمين في شرقها وغربها، ثم انحسرت فجأة، ولم تلق حظها من الدراسة والتحليل. فقط علق عليها اثنان (أبو مصعب السوري، وعطية الله الليبي) وغلب على التعليق سرد الأحداث التي عايشوها والنكير على تصرف الغلاة دون استفاضة في البحث عن الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تشريد الحركة الإسلامية في الجزائر حتى لم تظهر ثانية في الحراك الجماهيري المعاصر. ولو أننا بذلنا جهدًا في فهم التجربة الجزائرية ونشر تفاصيلٍ عن أسبابها. ولو أننا نهتم بدراسة وتحليل مثل هذه الظواهر.. في مرحلة الكمون ومرحلة البناء ومرحلة الديناميكية والفعل، لما تكررت مرة بعد مرة.
الذي قضى على "خلافة" البغدادي هو التكفير، أو بالأدق الإصرار على حسم كل خلاف وإقامة كيان لا خلاف فيه.. كيان غاية في التوحد، حتى في أدق التفاصيل.
عمل مبدأ "التكفير والإصرار على الحسم" كسكين حاد داخل التنظيم، فأدى إلى تفتيته وإيغار صدر من بقي فتفرق شملهم وركبهم عدوهم، ومضوا مثلًا للآخرين. وهنا لابد من إبراز عدد من الحقائق التي تقف بوضوح على ظهر الأحداث منذ الجهاد الأفغاني إلى اليوم:
أولها: وجود فئة غلقة متشنجة لا تقبل الخلاف مطلقًا، فقد كان بين العرب الأفغان من يكفر طالبان نفسها واشتهرت رسالة بعنوان (كشف شبهات المقاتلين تحت راية من أخل بأصل الدين)، ورد على هذه الرسالة أبو مصعب السوري بصوته وقلمه، وورد عليهم- كذلك- أبو قتادة وأبو محمد المقدسي وحدثت مشاجرة فكرية حول تفاصيل لا يهتم بها عوام المسلمين ولا خواصهم، اللهم فئة من الشباب حدثاء الأسنان هم الذين أخرجوها وأصروا على الحسم فيها تبعًا لرؤاهم الشخصية.
ثانيها: أن التكفير ينبع من عند الجاميين وليس فقط من عند القطبيين. فمع أن هؤلاء يظهرون الولاء التام للحكام إلا أن منهجيتهم هي هي بأم عينها منهجية التكفير. نقطة الارتكاز التي يتكئ عليها الجاميون هي عدم قبول الخلاف، أو الإصرار على الحسم، وما يتبع ذلك من تسفيه للمخالف والثورة عليه بما أمكن، فحين لا يكون بأيديهم إلا المنابر الخطابية فإنهم يمطرون من خالفهم، وإن كان منهم، بألسنة حداد؛ وحين يكون بأيديهم سلاح يَقتلون. وقد وُجدوا بين الحركة الجزائرية في التسعينات (فتش عن جمال زيتوني، وخليفته عنتر الزوابري، وهما نقطة الانحراف الرئيسية في التجربة الجزائرية) ووجدوا بين جماعة البغدادي (فتش عن أحمد عمر الحازمي).
ثالثها: أن التكفير استخدم- ويستخدم- كأداة لتبرير الانقضاض على الخصوم. ما يعرف بالتغلب. وهو مبدأ شائع بين الصحويين، ويأخذ درجات متفاوتة حسب ما يتاح في أيديهم من أدوات، فالدعويون حين يختلفون، أو بالأحرى حين يريدون الانفصال والاستقلال عن غيرهم، يبدأ في السب والشتم والغيبة والنميمة وقد يصل الأمر إلى التعدي على الأعراض بدعوى (النهي عن المنكر) وبدعوى (محاربة المبتدعين) (اسقاط اللافتات الكاذبة). والمسلحون يتحدثون عن (كفر بواح) ومن ثم يقاتلون، كما فعلت جماعة البغدادي مع جماعة الجولاني، وكما فعلوا مع جماعة حطاب (مجموعة بداخلهم كانت تكفِّر البغدادي وتهيء لانقلاب عقدي).
رابعها: المطرد في قيام العَصَبيَّات (وليس العصابات) ومن ثم الدول هو التسامح والسعي للتجميع أيًا كانت طبيعة الدولة القائمة. وهو من مبشرات هلاك الموجودين الآن. فلا دولة بلا تسامح وسعي للم الشمل إذ أن الإصرار على الحسم يؤدي إلى تفتيت وانقسام داخلي وكل من يخرج بشجارٍ أو فصلٍ وعزلٍ تنتهي مصالحه ومن ثم مكاسبه وأحلامه فيجلس حولها يرمي عليها أو يتربص بها، ويخاف من بالداخل أن يصيبه ما أصابهم فيحتاط لنفسه. وينتهي في الغالب بصراع داخل الكتلة التي لا تتسامح، أو لاتتبنى إطارًا واسعًا يتناسب مع طبيعة الناس وتنوعهم.. يأكل بعضهم بعضًا.. ينشغلون بالحسم الداخلي وحماية المصالح الشخصية. ثم ينفجر مشهدهم.. أو يتهاوى فجأة كما حدث مع البغدادي ورفاقه.
خامسها: عند التأمل فيما يسمى بالخلاف العقدي نجد أن من أهم أسبابه: التعامل مع النص مباشرة دون سياقه الزماني والمكاني الذي نزل فيه ودون استحضار السياق الزماني والمكاني المعاصر، وبالتالي لا يتم مراعاة الفروق أو الأنسب في الاستحضار من الأحكام للمناط الذي نعالجه. فما يحدث الآن هو محاولة صناعة سياق مشابه لما قد كان في عهد الوحي، والصواب أن الوحي نموذج عملي يستطيع كل منا أن يقتبس منه ما يناسبه، فالرسول أسوة حسنة (قدوة عملية) في كل شيء. وما يحدث هو فئة قليلة تحاول فرض تصورها الخاص على غيرها. أحدهم في بيته أو في كهفه منغلق على نفسه ويظن الكل هكذا. أو أخذ نفسه بالشدة واستعذبها ويريد الكل أن يكون مثله، فيقرأ الشريعة بمنظوره ثم يحاول أن يلزم الجميع بمثل ما هو عليه. ولا يكون، فالضعيف أمير الركب كما جاء في الحديث.
سادسها: من يتأمل قليلًا في السيرة النبوية يعلم أن النبي، صلى الله عليه وسلم، غلب عليه العفو عن المخالفين من الخارج (الكفار) والداخل (المنافقين)- لم يزد الأمر مع المنافقين عن الفضيحة وكشف أفعالهم وبعض أشخاصهم ثم توعدوا بالقتل حين تمادوا-، حتى عوتب في كثرة عفوه وتسامحه. ومن الأمثلة على ذلك: عدم قتل أسارى بدر، والعفو عن بني طيء بلا مقابل، والعفو عن سيد بني حنيفة ثمامة بن آثال وكان غنيًا سيدًا، والعفو عن بني المصطلق، والعفو عن قريش يوم الفتح، والعفو عمن اختلق عذرًا من المنافقين يوم الأحزاب ويوم الحديبية ويوم تبوك ( {عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمۡ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعۡلَمَ ٱلۡكَٰذِبِينَ} ) (التوبة:43). هذا في الجانب العسكري وفي الجانب الاجتماعي كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يسمع الشعر وفيه الغزل العفيف من حسان ومن كعب بن زهير، وينصت للسادة الكرام الصحابة- رضوان الله عليهم- وهم يتذاكرون أيام الجاهلية، وكان يمازح أحدهم بحديثٍ عن (بعيره الشرود)، وكان يَقبل ممن يعتذر ولا يعنفه. إن سياسة مجتمع غير سياسة جندٍ حال القتال، وإنها دعوة إلى الله بالتي هي أحسن يظللها قول الله تعالى: ( {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ} )(الأعراف:199)
سابعها: لقي البغدادي ورفاقه دعمًا من عوام الصحوييين على أمل أن يكون سببًا في خلاصهم من الاستبداد القائم.. على أمل أن يزحف لدولهم ويزيل أنظمة الحكم المستبدة ويقيم دولة بلا مشاكل (طوباوية). ويسكتون عن تقييم التجربة ونقدها، تمامًا كما سكتوا عن تقييم تجربة الجزائر وتجربة القاعدة التي خربت أفغانستان وأعطت مبررًا لتخريب العراق والشام ومزيدٍ من نهب الثورات والتمركز على أرض المسلمين، فالسياق الذي ظهر فيه (الجهاديون) هو سياق غربي استهدف القضاء على السوفيت ومزيدٍ من التمدد شرقًا ومزيدٍ من التمكن من بلاد المسلمين ومحاصرة الصين لوقف تمددها.. ويشتعل (الجهاد) ويخبو بعوامل إقليمية ودولية. يسكتون بدعوى (حتى لا يشمت الأعداء). وهو الجهل، وهو الكسل. وهي الرغبة في نصر عاجل بقفزة واحدة. ولذات السبب أيدوا الهبات الشعبية في 2011م، مع أنها لا تسير وفق قناعاتهم العقدية، ظنوها تفتح الباب للحلم الكبير (الخلافة الإسلامية) حيث لا تعب ولا نصب، والله يقول: ( {وَلَوۡ يَشَآءُ ٱللَّهُ لَٱنتَصَرَ مِنۡهُمۡ وَلَٰكِن لِّيَبۡلُوَاْ بَعۡضَكُم بِبَعۡض} )(محمد:4)، ( {وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡض فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَۗ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرا} ) (الفرقان:20)٠
في كل مكانٍ تجربة فاشلة، ولا أحد يريد الدراسة والتقييم. تركوني وحيدًا أنادي بأن الثورات ليست إلا أدوات لتطوير المجتمعات في اتجاه مزيدٍ من التغريب، وأن الحركات المسلحة بوضعها الحالي أدوات في يد الأعداء يخرب بها المجتمعات ويعيد بناءها على قواعده لا على قواعدنا.
محمد جلال القصاص
غرة ربيع الأول 1441
- التصنيف: