فوائد من كتاب أعلام الموقعين (2-3)
الأولى: أن يزول ويخلُفه ضدُّه.الثاني: أن يقلً وإن لم يزل بجملته. الثالث: أن يخلفه ما هو مثله.الرابع: أن يخلفه ما هو شر منه. فالدرجتان الأُوليان مشروعتان, والثالثة موضع اجتهاد, والرابعة محرمة.
فوائد من كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم
تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص:
والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص, وأن منهم من يفهم من الآية حكاً أو حكمين, ومنهم من يفهم عشرة أحكام و أكثر من ذلك, ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ, دون سياقه ودون إيمائه وتنبيه وإشارته واعتباره.
وأخصُّ من هذا وألطف ضمُّه إلى نصٍّ آخر متعلق به, فيفهم من اقترانه به قدراً زائداً على ذلك اللفظ بمفرده. وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا ينتبه له إلا النادر من أهل العلم, فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذه بهذا وتعلُّقه به.
وهذا كما فهم ابن عباس من قوله: {وحملُهُ وفصالُهُ ثلاثون شهراً } [الأحقاف:15] مع قوله: {والوالدات يُرضعن أولادهن حولين كاملين} [البقرة:233] أن المرأة قد تلد لستة أشهر.
العلة في عدم التحدث بالرؤيا التي يكرهها الإنسان:
نهي من رأى رؤيا يكرهها أن يتحدث بها, فإنه ذريعة إلى انتقالها من مرتبة الوجود اللفظي إلى الوجود الخارجي, كما انتقلت من الوجود الذهني إلى اللفظي, وهكذا عامة الأمور تكون في الذهن أولاً ثم تنتقل إلى الذكر ثم تنتقل إلى الحس. وهذا من ألطف سدِّ الذرائع وأنفعها, ومن تأمل عامة الشر رآه متنقلاً في درجات الظهور طبقاً بعد طبقٍ من الذهن إلى اللفظ إلى الخارج.
العلة في النهي أن يقول الإنسان: لو أني فعلت لكان كذا وكذا:
نهي الرجل بعد إصابة ما قُدِّر له أن يقول: لو أني فعلتُ لكان كذا وكذا,...فإنه لا يُجدي عليه إلا الحزن والندم وضيقة الصدر والتسخط على المقدور واعتقاده أنه كان يمكنه دفع المقدور لو فعل ذلك, وذلك يُضعف رضاه وتسليمه وتفويضه وتصديقه بالمقدور وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.
الخروج على الملوك والولاة أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر:
النبي صلى الله عليه وسلم شرع لأمته إيجاباً إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبه الله ورسوله, فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكرُ منه وأبغض إلى الله ورسوله فإنه لا يسوغ إنكاره, وإن كان الله يُبغضه ويمقُت أهله, وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم, فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر, وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها, وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال: «(لا, ما أقاموا الصلاة» ) وقال: ( «من رأى من أميره ما يكرهه فليصبر, ولا ينزعن يداً من طاعته » ) ومن تأمل ما جرى على الإسلام من الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر, فطلب إزالته فتولد منه ما هو أكبر منه, فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغيرها, بل لما فتح مكة وصارت دار إسلام عزم على تغير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم, ومنعه من ذلك – مع قدرته عليه – خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك, لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهدٍ بكفر, ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد, لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وجد سواء.
درجات إنكار المنكر:
إنكار المنكر أربع درجات:
الأولى: أن يزول ويخلُفه ضدُّه.الثاني: أن يقلً وإن لم يزل بجملته.
الثالث: أن يخلفه ما هو مثله.الرابع: أن يخلفه ما هو شر منه.
فالدرجتان الأُوليان مشروعتان, والثالثة موضع اجتهاد, والرابعة محرمة.
يؤخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يترك لخلاف أحد كائناً من كان:
الذي ندين الله به ولا يسعنا غيره...أن الحديث إذا صح عن رسول الله صلى الله عليه ولم يصح عنه حديث آخر ينسخه, أن الفرض علينا وعلى الأمة الأخذ بحديثه, وترك كل ما خالفه, ولا نتركه لخلاف أحد من الناس كائناً من كان, لا راويه ولا غيره, إذ من الممكن أن ينسي الراوي الحديث, أو لا يحضره وقت الفتيا, أو لا يتفطن لدلالته على تلك المسألة, أو يتأول فيه تأويلاً مرجوحاً, أو يقوم في ظنه ما يعارضه ولا يكون معرضاً في نفس الأمر, أو يقلد غيره في فتواه بخلافه لاعتقاده أنه أعلم منه وأنه إنما خالفه لما هو أقوى منه.
ولو قُدِّر انتفاء ذلك كله – ولا سبيل إلى العلم بانتفائه ولا ظنه – لم يكن الراوي معصوماً, ولم توجب مخالفته لما رواه سقوط عدالته حتى تغلب سيئاته حسناته, وبخلاف هذا الحديث الواحد لا يحصل له ذلك.
الإنصاف أفضل حلية تحلَّى بها الرجل:
الله تعالى يحبُّ الإنصاف, بل هو أفضل حلية تحلَّى بها الرجل, خصوصاً من نصب نفسه حكماً بين الأقوال والمذاهب, وقد قال تعالى لرسوله: {وأُمرتُ لأعدل بينكم} [الشورى:15] فورثة الرسول منصبهم العدل بين الطوائف وأن لا يميل أحدهم مع قريبه وذي مذهبه وطائفته ومتبوعه, بل الحق مطلوبه, يسير بسيره وينزل بنزوله, يدين بدين العدل والإنصاف ويُحكِّم الحجة, وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فهو العلم الذي قد شمَّر إليه, ومطلوبه الذي يحوم بطلبه عليه, ولا يثني عِنانَه عنه عذلُ عاذلٍ, ولا تأخذه لومة لائم, ولا يصدُّه عنه قول قائل.
الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد:
الشريعة مبناها وأساسها على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد, وهي عدل كلها, ورحمة كلها, ومصالحُ كلها, وحكمة كلها, فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور, وعن الرحمة إلى ضدها, وعن المصلحة إلى المفسدة, وعن الحكمة إلى العبث, فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل.
فالشريعة عدلُ الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظلُّه في أرضه, وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله أتمّ دلالة وأصدقها, وهي نوره الذي به أبصر المُبصرون, وهداه الذي به اهتدى المهتدون, وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل, وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل. فهي قرة العيون, وحياة القلوب, ولذة الأرواح, فهي لها الحياة والغذاء والدواء والنور والشفاء والعصمة, وكل خير في الوجود فإنما مستفاد منها..وكل نقص في الوجود فسببه من إضاعتها
شريعة مؤتلفة النظام, متعادلة الأقسام, مبرأة من كل نقص, مطهرة من كل دنس, مسلمة لا شية فيها, مؤسسة على العدل والحكمة والمصلحة والرحمة قواعدها ومبانيها..أمرت بكل صلاح ونهت عن كل فساد, وأباحت كل طيب وحرمت كل خبيث فأوامرها غذاء دواء, ونواهيها حمية وصيانة, وظاهرها زينها لباطنها, وباطنها أجمل من ظاهرها, شعارها الصدق, وقوامها الحق, وميزانها العدل وحكمها الفصل.
- التصنيف: