فوائد من كتاب أعلام الموقعين (3-3)
قال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
فوائد من كتاب أعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم
الحذر من المكر والخداع والاحتيال:
حقيق بمن اتقى الله وخاف نكاله أن يحذر استحلال محارم الله بأنواع المكر والحيل, وأن يعلم أنه لا يخلصه من الله ما أظهره مكراً وخديعة من الأقوال والأفعال, وأن يعلم أن لله يوماً تكِعُّ فيه الرجال, وتُنسف فيه الجبال, وتترادف فيه الأهوال, وتشهد فيه الجوارح والأوصال, وتُبلي فيه السرائر, وتظهر فيه الضمائر, ويصير الباطن فيه ظاهراً, والسرّ علانية, والمستور مكشوفاً, والمجهول معروفاً, ويُحصل ويبدو ما في الصدور, كما يُبعثر ويخرج ما في القبور, وتجرى أحكام الرب جلَّ جلاله هنالك على القصود والنيات, كما جرت أحكامه في هذه الدار على ظواهر الأقوال والحركات, يوم تبيض وجوه بما في قلوب أصحابها من النصيحة لله ورسوله وكتابه وما فيها من البرّ والصدق والإخلاص للكبير المتعال, وتسود وجوه بما في قلوب أصحابها من الخديعة والغشّ والكذب والمكر والاحتيال, هناك يعلم المخادعون أنهم لأنفسهم كانوا يخدعون, وبدينهم كانوا يلعبون, وما يمكرون إلا بأنفسهم وما يشعرون.
العلم والحلم:
قال بعض السلف: ما قرن شيء إلى شيء أحسن من علم إلى حلم.
فالحلم زينة العلم وبهاؤه وجماله. وضده الطيش والعجلة والحدة والتسرع وعدم الثبات. فالحليم لا يستفزه البدوات, ولا يستخفه الذين لا يعلمون, ولا يُقلقله أهل الطيش والخفة والجهل, بل هو وقور ثابت ذو أناة يملك نفسه عند ورد أوائل الأمور عليه, ولا تملكه أوائلها, وملاحظته للعواقب تمنعه من أن تستخفه دواعي الغضب والشهوة, فبالعلم تنكشف له مواقع الخير والشر والصلاح والفساد, وبالحلم يتمكن من تثبيت نفسه عند الخير فيؤثره..وعند الشر فيصبر عنه.
السكينة:
السكينة فعلية من السكون, وهو طمأنينة القلب واستقراره, وأصلها في القلب, ويظهر أثرها على الجوارح.
وثمرة هذه السكينة: الطمأنينة للخير تصديقاً وإيقاناً, وللأمر تسليماً وإذعاناً, فلا تدع شبهةً تعارض الخير, ولا إرادةً تعارض الأمر. بل لا تمر معارضات السوء بالقلب إلا وهي مجتازة مرور الوساوس الشيطانية التي يبتلى بها العبد, ليقوى إيمانه, ويعلو عند الله ميزانه, بمدافعتها وردّها وعدم السكون إليها, فلا يظن المؤمن أنها لنقص درجته عند الله.
وأسبابها الجالبة لها...استيلاء مراقبة العبد لربه عز وجل حتى كأنه يراه, وكلما اشتدت هذه المراقبة أوجبت له من الحياء, والسكينة, والمحبة, والخضوع, والخشوع, والخوف والرجاء ما لا يحصل بدونها, فالمراقبة أساس الأعمال القلبية كلِّها, وعمودُها الذي قيامها به.
أصناف المتألون:
أصل خراب الدنيا والدين إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه.
والمتأولون أصنف عديدة, بحسب الباعث لهم على التأويل, وبحسب قصور أفهامهم ووفورها, وأعظمهم توغُّلاً في التأويل الباطل من فسد قصده وفهمُه, فكلَّما ساء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشدَّ انحرافاً, فمنهم من يكون تأويله لنوع هوى من غير شبة, بل يكون على بصيرة من الحق. ومنهم من يكون تأويله لنوع شبهةٍ عرضت له أخفت عليه الحق, ومنهم من يجتمع له الأمران: الهوى في القصد, والشبهة في العلم.
من أقوى أساب الإصابة في الفتوى دعاء المفتى عند الإفتاء:
حقيق بالمفتى أن يُكثر الدعاء بالحديث الصحيح: ( اللهم ربَّ جبريل وميكائيل وإسرافيل...الحديث) وكان شيخنا كثير الدعاء بذلك وكان إذا أشكلت عليه المسائل يقول: "يا معلم إبراهيم " ويكثر الاستعانة بذلك...وكان بعض السلف يقول عند الإفتاء: ) سُبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم[ [البقرة:32] وكان مكحول يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
وكان مالك يقول: ما شاء الله, لا قوة إلا بالله
وكان بعضهم يقول: )ربّ اشرح لي صدري *ويسر لي أمري *واحلل عُقدة من لساني * يفقهوا قولي[ [طه:25-28]وكان بعضهم يقول: اللهم وفقني, واهدني, وسددني, واجمع لي بين الصواب والثواب, وأعذني من الخطأ والحرمان.
وكان بعضهم يقرأ الفاتحة وجرَّبنا نحن ذلك فرأيناه من أقوى أسباب الإصابة.
فوائد متفرقة:
* كلُّ من له مُسكة من عقل يعلم أن فساد العالم وخرابه إنما نشأ من تقديم الرأي على الوحي, والهوى على العقل, وما استحكم هذان الفاسدان في قلب إلا استحكم هلاكه, ولا في أمة إلا وفسد أمرها أتم فساد.
* شريعته سبحانه منَّزهة أن تنهى عن شيء لمفسدةٍ فيه, ثم تُبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة أو مثلها أو أزيد منها. فمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها, ولا قدرها حق قدرها.
* تصرف كثير من أسباب الشر بالتوكل والدعاء والصدقة والذكر والاستغفار والعتق والصلة.
* الكاذب من أمهن الناس وأجبنهم وأكثرهم تلوناً وأقلهم ثباتاً
* ما مثل من وقف مع الظواهر والألفاظ ولم يراعِ المقاصد والمعاني إلا كمثل رجلٍ قيل له: لا تسلِّم على صاحب بدعه, فقبَّل يده ورجله, ولم يسلِّم عليه.
* وهذا مما حصلته عن شيخ الإسلام – قدس الله روحه – وقت القراءة عليه, وهذه كانت طريقته, وإنما يقرر أن القياس الصحيح هو ما دل عليه النص, وأن من خالف النص للقياس فقد وقع في مخالفة القياس والنص معاً, وبالله التوفيق.
* من المستحيل أن يشرع الله ورسوله من الحيل ما يسقط به ما أوجبه, أو يبيح ما حرمه ولعن فاعله, وآذنه بحربه وحرب رسوله, وشدَّد فيه الوعيد, لما تضمنه من المفسدة في الدنيا والدين. ثم بعد ذلك يسوغ التحيل عليه بأدنى حيلة.
* قد جرت عادة الله التي لا تبدل وسنته التي لا تحول أن يُلبس المخلص من المهابة والنور والمحبة في قلوب الخلق وإقبال قلوبهم إليه ما هو بحسب إخلاصه ونيته ومعاملته لربه, ويُلبس المرائي اللابس ثوبي الزور من المقت والمهانة والبغضة ما هو اللائق به. فالمخلص له المهابة والمحبة, وللآخر المقت والبغضاء.
* كلما قرب القلب من الله زالت عنه معارضات السوء, وكان نور كشفه للحقِّ أتمَّ وأقوى, وكلما بعد من الله كثرت عليه المعارضات, وضعُف نورُ كشفه للصواب, فإن العلم نور يقذفه الله في القلب, يفرق به العبد بين الخطأ والصواب.
* الناس بزمانهم أشبه منهم بآبائهم, ولكل زمان دولة ورجال.
* كم من باطل يُخرجه الرجل بحسن لفظة وتنميقه وإبرازه في صورة حقٍّ ! وكم من حقٍّ يُخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل ! ومن له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك..وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل, وباطنها مكر وخداع وظلم ! فالغِرُّ ينظر إلى ظاهرها, ويقضى بجوازه, وذو البصيرة ينفد مقصدها وباطنها.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: