أحاديث فيها نفي القنوط
تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا، وتحسروا على تصديق آيات اللَّه واتباع رسله، قال اللَّه سبحانه وتعالى: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ}
ذكر أحاديث فيها نفي القنوط:
عن أنس بن مالك رضي اللَّه عنه قال: سمعت رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثم استغفرتم اللَّه تعالى لغفر لكم، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء اللَّه عزّ وجلّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون اللَّه فيغفر لهم» (1). عن أبي أيوب الأنصاري رضي اللَّه عنه أنه قال حين حضرته الوفاة: قد كنت كتمت منكم شيئًا سمعته من رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لولا أنكم تذنبون لخلق اللَّه عزّ وجلّ قومًا يذنبون فيغفر لهم» (2).
وقال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو لم تذنبوا لجاء اللَّه تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم» (3)، ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة، فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} إلخ، أي: ارجعوا إلى اللَّه واستسلموا له، {مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} أي: بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة، {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم} وهو القرآن العظيم، {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ} أي: من حيث لا تعلمون ولا تشعرون، ثم قال تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ} أي: يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة، ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين للَّه عز وجل، وقوله تبارك وتعالى: {وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} أي: إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزئ غير موقن مصدق، {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي: تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل. قال ابن عباس: أخبر اللَّه سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه، وعملهم قبل أن يعملوه، وقال تعالى: {وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر: 14]، {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ - أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}،
فأخبر اللَّه عزّ وجلّ أن لو ردوا لما قدروا على الهدى، فقال: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28]، وفي الحديث: «كل أهل النار يرى مقعده من الجنة، فيقول: لو أن اللَّه هداني فتكون عليه حسرة، قال: وكل أهل الجنة يرى مقعده من النار، فيقول: لولا أن هداني قال: فيكون له الشكر» (4).
ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا، وتحسروا على تصديق آيات اللَّه واتباع رسله، قال اللَّه سبحانه وتعالى: {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي: قد جاءتك أيها العبد النادم آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكافرين بها الجاحدين لها (5). انتهى.
فائدة:
قال رسول اللَّه - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له». حسن، رواه ابن ماجه. انظر «صحيح الجامع».
جاء في «مختصر منهاج القاصدين»: (فأما من ارتكب كبيرة، أو أهمل أركان الإسلام، فإنه إن تاب توبة نصوحًا قبل قرب الأجل، التحق بمن لم يرتكب؛ لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والثوب المغسول كالذي لم يتسخ أصلاً).
_________
(1) تفرد به الإمام أحمد من حديث أنس بن مالك.
(2) أخرجه أحمد ورواه مسلم والترمذي. اهـ.
جاء في «تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي» للمباركفوري رحمه اللَّه تعالى (ج9 ص417) ما يلي: («لولا أنكم تذنبون» أي أيها المؤمنون «لخلق اللَّه خلقًا» أي قومًا آخرين من جنسكم أو من غيركم «يذنبون فيغفر لهم». وفي رواية مسلم: «لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون اللَّه فيغفر لهم». قال الطيبي: ليس في الحديث تسلية للمنهمكين في الذنوب كما يتوهمه أهل الغرة باللَّه تعالى، فإن الأنبياء صلوات اللَّه وسلامه عليهم إنما بعثوا ليردعوا الناس من غشيان الذنوب، بل بيان لعفو اللَّه تعالى وتجاوزه عن المذنبين ليرغبوا في التوبة، والمعنى المراد من الحديث هو أن اللَّه كما أحب أن يعطي المحسنين، أحب أن يتجاوز عن المسيئين، وقد دل على ذلك غير واحد من أسمائه الغفار الحليم التواب العفو، أو لم يكن ليجعل العباد شأنًا واحدًا كالملائكة مجبولين على التنزه من الذنوب، بل يخلق فيهم من يكون بطبعه ميالاً إلى الهوى متلبسًا بما يقتضيه، ثم يكلفه التوقي عنه ويحذره عن مداناته ويعرفه التوبة بعد الابتلاء، فإن وفى فأجره على اللَّه، وإن أخطأ الطريق فالتوبة بين يديه، كذا في المرقاة). اهـ. (قل).
(3) تفرد به أحمد. اهـ. صحيح. انظر «صحيح الجامع». (قل).
(4) أخرجه أحمد والنسائي عن أبي هريرة مرفوعًا. اهـ. حسن. انظر «صحيح الجامع». (قل).
(5) «مختصر تفسير ابن كثير» للصابوني (ج2/ 225 - 227) الآيات (53 - 59) من سورة الزمر. (قل).
- التصنيف:
- المصدر: