نظرة في الفوائد الربوية
منذ 2004-05-09
قديما كان الفيلسوف أرسطو يؤمن بأن المال إنما هو وسيلة مبادلة و ليس
سبيلا لتحصيل الفوائد. أما أفلاطون فكان يرى في الفوائد استغلالا بينا
يمارسه الأغنياء على الفقراء من أبناء المجتمع.
و قد سادت المعاملات الربوية زمن الإغريق. و كان من حق الدائن أن يبيع مدينه في سوق العبيد إذا عجز هذا عن سداد دينه.. و عند الرومان لم يكن الحال مختلفا.. إلا أن الدولة الرومانية تدخلت لتحديد نسبة الفائدة بما لا يتجاوز 8 1/3 %. ثم خفضت النسبة بعد ذلك إلى 5 % إلى أن حرمت الفائدة تحريما مطلقا.
و جدير هنا لفت الانتباه إلى أن هذا التحريم لم يكن خاضعا لتأثيرات دينية حيث أنه حدث قبل مجيء المسيحية بما يزيد عن ثلاثة قرون. علما بأن الإنجيل قد حرم على أتباعه التعامل بالربا, و هكذا فعلت التوراة من قبل.
كما أنه لا مجال لربط أمر التحريم بأسباب أخلاقية تتعلق بمسألة استرقاق المدين.. فلو كان الأمر كذلك لكان من الأولى القضاء على نظام الرق برمته.. بل إن قانون التحريم الذي صدر في روما حينها لم يشمل مسألة استرقاق المدين. ثم إن للربا مؤيدوه من أصحاب النفوذ و هم بطبيعتهم ماديون لا يقيمون وزنا لاعتبارات أخرى.. إذا و الأمر كذلك, ما الذي يدفع روما إلى إصدار مثل ذاك القانون.
حتى يتسن فهم ذلك, أستأذن القارئ في أن نعبر الزمن في رحلة قصيرة تعود بنا إلى القرن الخامس قبل الميلاد حيث الدولة اليونانية تعاني من أزمة اجتماعية حادة تهددها بالانهيار. و لكي نتمكن من تسليط الضوء على الأوضاع السائدة في اليونان آن ذاك, لا مناص من البدء بالتركيبة الاجتماعية و السياسية للمجتمع اليوناني:
لقد كان المجتمع في أثينا, منذ نشأة نظام الدولة فيها, يتكون من طبقتي العبيد و النبلاء بالإضافة إلى طبقة ثالثة تضم صغار الملاك و الحرفيين و التجار. و لم يكن النبلاء في حاجة للقيام بأي نشاط آخر خارج النشاط السياسي و الفكري فهم ملاك أكبر الأراضي الزراعية و أكثرها خصوبة و لهم عبيدهم الذين يقومون بالأعمال اليدوية نيابة عنهم. أما المزارعين و الحرفيين فكانوا من البسطاء يعملون من أجل سد حاجاتهم اليومية و يعتمدون في ذلك على نظام المقايضة بالدرجة الأولى. سوى أن هذا النظام أخذ يتراجع تدريجيا مع انتشار الوحدات النقدية و تطور وسائل التجارة.
و كنتيجة لهذا التطور الاقتصادي لسكان المدينة برزت من داخل طبقة التجار فئة جديدة من الأثرياء لا يملكون الأرض و لا المكانة الاجتماعية و لكنهم يملكون الثروة النقدية. و لأن النقود صارت هي المقياس الجديد للثراء فإن النبلاء وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه.. فهم بخلاف الأثرياء الجدد يملكون الأرض و المكانة الاجتماعية و لا يملكون المال. يضاف إلى هؤلاء أغلبية ساحقة من الفقراء لا تملك لا هذا و لا ذاك.
و أمام إلحاح الحاجة كانت القروض سبيلا سهلا للوصول إلى المال.. مما أغرى الأثرياء الجدد فلجؤا إلى الربا طمعا في المزيد من الثراء. و قد أقبل النبلاء على الاستدانة غالبا من أجل تغطية نفقاتهم المتزايدة.. كان ذلك قبل أن يكتشف العديد منهم أنهم في ورطة لأنهم عاجزين عن سداد ديونهم المتراكمة.. الشيء الذي أفقدهم هيبتهم.
هذا من ناحية, و من ناحية أخرى فإن تراكم الثروة الجديدة أحدث تناقضا بين أصحاب هذه الثروة و بين النبلاء مما ساهم في تقويض دعائم المجتمع. و بدأ العبيد يجدون دعما من التجار في مواجهة أسيادهم. كما أن المجتمع اليوناني صار يعرف ظاهرة جديدة و هي ظاهرة البطالة بعد أن انضمت أعداد كبيرة من البسطاء و صغار الملاك إلى صفوف العاطلين عن العمل. كل هذا أدى إلى ثورات و مواجهات لم تنتهي إلا و المجتمع اليوناني مفكك و منهار.. مما مهد للغزو الروماني.
و يبدو أن روما كانت تراقب ما يحدث في اليونان منذ زمن, فالرومان الذين بدأت قوتهم في الصعود كانت تراودهم الرغبة في التوسع نحو الشرق على حساب اليونان و هم يعلمون تمام العلم أن إنهاك المجتمع اليوناني و تفكيكه من الداخل سوف يسهل عليهم مهمتهم.. و يبدو أنهم تبنوا تلك الإستراتيجية فعلا.
و بما أن التجربة اليونانية قد سبقت قرينتها الرومانية فهي بالنسبة لروما تمثل دروسا مستفادة. ربما ساهم ذلك في جعل الرومان أقدر على التعامل مع الأحداث و المتغيرات من الإغريق و بالتالي أقدر على حماية مصالحهم.. و ربما ساعدتهم العقلية العسكرية للنظام الحاكم في روما و التي كانت أكثر حسما للأمور.. المهم أن روما كانت بتحريمها للربا عام 342 ق.م تسعى لحماية مصالح الطبقة الحاكمة من الأضرار التي يمكن أن تلحق بها بسبب الربا.. و ما يترتب عن ذلك من زعزعة للاستقرار.. و كأنها محاولة من الرومان لتفادي الأخطاء التي وقع فيها اليونانيون من قبل.
بقي بهذا الشأن أن نضيف أننا من خلال هذا العرض لا ننوي الإجابة على السؤال الذي تقدم و حسب و إنما نقصد الرد على الذين يحلو لهم دائما ربط قضية التحريم بأسباب دينية محضة و كأن الأمر مرتبط بنصوص نظرية لا علاقة لها بالواقع.. من هنا نستطيع أن نبدأ تحليلنا المفصل عن الربا لعلنا بذلك نستطيع أن نضع المسألة في موضعها الصحيح.
الحقيقة أن نظرة البعض للربا فيها الكثير من التبسيط الماكر.. و ربما شيء من السذاجة. فالأمر ليس بهذه البساطة, و أي محاولة جادة لتقييم الممارسات الربوية, و ما يترتب عنها من نتائج, لا يمكن أن تكتسب صفة الموضوعية إلا إذا تناولنا كل ما للمسألة من أبعاد مترابطة اقتصادية و اجتماعية و أخلاقية. تلك هي الأبعاد الحقيقية للمسألة, و هي المنطلق الذي ينبغي على الباحث في هذا المجال أن ينطلق منه موظفا لذلك المعرفة المتراكمة عبر السنين توظيفا نزيها بعيدا عن المغالطات. بحث من هذا النوع ينبغي أن يتناول توضيح الآتي:
. تأثير الإيمان (العقيدة) على النفس البشرية و السلوك.
. لماذا لا ينبغي للمسلم المؤمن أن يمارس الربا.
. انعكاس كل من الثقافة و العقيدة على الوضعين الاجتماعي و الاقتصادي.
. طبيعة التفاعل بين مختلف الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية للمجتمع.
. الوضع الاقتصادي الراهن في ظل المؤسسات الربوية
. تحديد المسؤولية الفردية و المسؤولية الجماعية و مفهوم التضامن الاجتماعي في الإسلام.
ثم و بما أن البحث يتعلق بقضية محددة و هي الربا فلا مناص من وضع تعريف محدد للربا لا يختلف حوله عاقلان. و هنا لابد لنا من مرجعية, و سوف نجد أن الدين و اللغة يشكلان معا أفضل مرجعية. فما معنى الربا, و ما هو الربا الذي جاء تحريمه في الكتب السماوية؟
كلمة ربا في اللغة تعني الزيادة, و هو المعنى المفهوم من الآية: "و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج", في إشارة لزيادة حجم حبات الرمل عندما تختلط بالماء. و لكن ما يعنينا من هذا المعنى تحديدا هو الزيادة الغير مشروعة في رأس المال أي الربا بمعناه الاصطلاحي. و لكي نفهم هذا النوع من الزيادة ينبغي أن نحدد ما معنى الزيادة المشروعة في المال أولا.
إن الزيادة في المال إنما تكون مشروعة بقدر ما كانت منسجمة مع فكرة تحقيق العدالة الاجتماعية.. أي أنها زيادة لا يترتب عنها أكل لأموال الناس بالباطل و إلا كانت سرقة و اعتداء على حقوق الآخرين.. و ليس الربا إلا عملية نهب مقننة. بهذا المفهوم نستطيع أن نفضح حقيقة الممارسات المالية و الاقتصادية السائدة في عالمنا اليوم. و سوف نجد أن الربا و حسب هذا التعريف يتحقق من عمليتين اثنتين: إما عن طريق الإقراض, و هو المعروف في الإسلام بربا النسيئة. و إما عن طريق المبادلة أو البيع, و هو ربا الفضل.
و في البيع أو المبادلة يقوم كل من البائع و الشاري بتسليم شيء و أخذ شيء في المقابل, و هي عملية من المفترض أن تتم في شكل معادلة.. و ما لم يتحقق التعادل بين طرفي المعادلة فإنها تكون مفاضلة.. و منها كلمة الفضل. نخلص من ذلك أن ربا الفضل هو زيادة غير مشروعة في أحد طرفي المعادلة في عملية البيع. و في هذا يقول المولى عز و جل:"و أحل الله البيع و حرم الربا".
أما ربا القروض أو النسيئة, فهو زيادة يطلبها الدائن من مدينه مقابل أجل محدد لسداد الدين (كذلك هي الفوائد المصرفية).. و هو ما يعتبر في الاقتصاد الربوي نوع من الاستثمار. و في ذلك خدعة بينة.. فالاستثمار ليس مرادفا للقرض, كما أن الربا ليس مرادفا للبيع. فالمرء قد يقترض لحاجة ماسة, من أجل توفير مسكن مثلا.. أو سيارة.. و ليس في ذلك أي وجه من وجوه الاستثمار. لدى يجب أن نفرق بين نوعين من القروض:
النوع الأول هو درجة من درجات الصدقة.. و هو ما يعرف في الإسلام بالقرض الحسن. فالمقرض هنا لا ينتظر أجرا و إنما يفعل ذلك لوجه الله. و لعله عمل لا ينبغي أن يندرج ضمن اختصاص المؤسسات المصرفية و الاستثمارية و أن يبقى مقتصرا على الأفراد و المؤسسات الخيرية.
أما النوع الثاني فهو القرض الاستثماري.. حيث أن المقترض يسعى للحصول على رأس المال من أجل توظيفه في تجارة أو استثمار. و القاعدة السليمة هي أن تكون هناك مشاركة في الربح و الخسارة. و لكن و حسب العرف الاقتصادي السائد فإن المقترض وحده هو الذي يتحمل عبأ الخسارة دون صاحب القرض. كما أن سعر الفائدة يدخل في حساب سعر التكلفة, أي أن الزيادة يدفعها المستهلك لتستقر في نهاية الأمر في جيب المرابي دونما عناء منه أو مساهمة حقيقية في عجلة الإنتاج.. و لا يشفع له أنه مالك لرأس المال لأنه يمارس الاحتيال من أجل الحصول على ربح سهل ليس فيه خسارة أبدا.. و في هذا خروجا عن قواعد التجارة و الاستثمار الصحيح.. و سرقة منظمة لأموال الناس. يقول تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون } [سورة البقرة:276-279]. أن لا يظلم الناس بعضهم بعضا, تلك هي العلة في التحريم.
و الملاحظ أن اليهودية و هي تدعو أتباعها للامتناع عن الممارسات الربوية فيما بينهم تشير ضمنا إلى أن الغرض من إباحة هذا النوع من المعاملات مع الغير إنما هو من أجل تمكين اليهود من الهيمنة على الشعوب الأخرى. (راجع الكتاب المقدس: سفر التثنية: إصحاح 15: 1-6 و إصحاح 23: 19-20). و في ذلك تأكيد لثلاثة أمور:
أولا: غطرسة اليهود.
ثانيا: ازدواجية المعايير في عقيدتهم.
ثالثا: اليهودية لا تنفي كون الربا عملا منبوذا بل و محرما على اليهود في معاملاتهم البينية.
فهل بعد ذلك يبقى هنالك شك في قلوب الناس في أن الربا قد حرم لحكمة. و أنه من الحكمة العمل على استبدال النظام الربوي السائد في العالم اليوم بنظام بديل يكفل حقوق الناس جميعا و يضمن الاستقرار الاقتصادي و التوازن الاجتماعي. و لا نذهب بعيدا فمثل هذا النظام البديل موجود أصلا بين أيدينا في انتظار من يقوم بالمبادرة و يحوله إلى واقع ملموس. و ربما كانت المصارف الإسلامية خطوة في هذا الاتجاه شرط أن لا تكون هدفا في حد ذاتها و إنما سبيلا إلى تحقيق اقتصاد إسلامي متكامل.
و قد سادت المعاملات الربوية زمن الإغريق. و كان من حق الدائن أن يبيع مدينه في سوق العبيد إذا عجز هذا عن سداد دينه.. و عند الرومان لم يكن الحال مختلفا.. إلا أن الدولة الرومانية تدخلت لتحديد نسبة الفائدة بما لا يتجاوز 8 1/3 %. ثم خفضت النسبة بعد ذلك إلى 5 % إلى أن حرمت الفائدة تحريما مطلقا.
و جدير هنا لفت الانتباه إلى أن هذا التحريم لم يكن خاضعا لتأثيرات دينية حيث أنه حدث قبل مجيء المسيحية بما يزيد عن ثلاثة قرون. علما بأن الإنجيل قد حرم على أتباعه التعامل بالربا, و هكذا فعلت التوراة من قبل.
كما أنه لا مجال لربط أمر التحريم بأسباب أخلاقية تتعلق بمسألة استرقاق المدين.. فلو كان الأمر كذلك لكان من الأولى القضاء على نظام الرق برمته.. بل إن قانون التحريم الذي صدر في روما حينها لم يشمل مسألة استرقاق المدين. ثم إن للربا مؤيدوه من أصحاب النفوذ و هم بطبيعتهم ماديون لا يقيمون وزنا لاعتبارات أخرى.. إذا و الأمر كذلك, ما الذي يدفع روما إلى إصدار مثل ذاك القانون.
حتى يتسن فهم ذلك, أستأذن القارئ في أن نعبر الزمن في رحلة قصيرة تعود بنا إلى القرن الخامس قبل الميلاد حيث الدولة اليونانية تعاني من أزمة اجتماعية حادة تهددها بالانهيار. و لكي نتمكن من تسليط الضوء على الأوضاع السائدة في اليونان آن ذاك, لا مناص من البدء بالتركيبة الاجتماعية و السياسية للمجتمع اليوناني:
لقد كان المجتمع في أثينا, منذ نشأة نظام الدولة فيها, يتكون من طبقتي العبيد و النبلاء بالإضافة إلى طبقة ثالثة تضم صغار الملاك و الحرفيين و التجار. و لم يكن النبلاء في حاجة للقيام بأي نشاط آخر خارج النشاط السياسي و الفكري فهم ملاك أكبر الأراضي الزراعية و أكثرها خصوبة و لهم عبيدهم الذين يقومون بالأعمال اليدوية نيابة عنهم. أما المزارعين و الحرفيين فكانوا من البسطاء يعملون من أجل سد حاجاتهم اليومية و يعتمدون في ذلك على نظام المقايضة بالدرجة الأولى. سوى أن هذا النظام أخذ يتراجع تدريجيا مع انتشار الوحدات النقدية و تطور وسائل التجارة.
و كنتيجة لهذا التطور الاقتصادي لسكان المدينة برزت من داخل طبقة التجار فئة جديدة من الأثرياء لا يملكون الأرض و لا المكانة الاجتماعية و لكنهم يملكون الثروة النقدية. و لأن النقود صارت هي المقياس الجديد للثراء فإن النبلاء وجدوا أنفسهم في وضع لا يحسدون عليه.. فهم بخلاف الأثرياء الجدد يملكون الأرض و المكانة الاجتماعية و لا يملكون المال. يضاف إلى هؤلاء أغلبية ساحقة من الفقراء لا تملك لا هذا و لا ذاك.
و أمام إلحاح الحاجة كانت القروض سبيلا سهلا للوصول إلى المال.. مما أغرى الأثرياء الجدد فلجؤا إلى الربا طمعا في المزيد من الثراء. و قد أقبل النبلاء على الاستدانة غالبا من أجل تغطية نفقاتهم المتزايدة.. كان ذلك قبل أن يكتشف العديد منهم أنهم في ورطة لأنهم عاجزين عن سداد ديونهم المتراكمة.. الشيء الذي أفقدهم هيبتهم.
هذا من ناحية, و من ناحية أخرى فإن تراكم الثروة الجديدة أحدث تناقضا بين أصحاب هذه الثروة و بين النبلاء مما ساهم في تقويض دعائم المجتمع. و بدأ العبيد يجدون دعما من التجار في مواجهة أسيادهم. كما أن المجتمع اليوناني صار يعرف ظاهرة جديدة و هي ظاهرة البطالة بعد أن انضمت أعداد كبيرة من البسطاء و صغار الملاك إلى صفوف العاطلين عن العمل. كل هذا أدى إلى ثورات و مواجهات لم تنتهي إلا و المجتمع اليوناني مفكك و منهار.. مما مهد للغزو الروماني.
و يبدو أن روما كانت تراقب ما يحدث في اليونان منذ زمن, فالرومان الذين بدأت قوتهم في الصعود كانت تراودهم الرغبة في التوسع نحو الشرق على حساب اليونان و هم يعلمون تمام العلم أن إنهاك المجتمع اليوناني و تفكيكه من الداخل سوف يسهل عليهم مهمتهم.. و يبدو أنهم تبنوا تلك الإستراتيجية فعلا.
و بما أن التجربة اليونانية قد سبقت قرينتها الرومانية فهي بالنسبة لروما تمثل دروسا مستفادة. ربما ساهم ذلك في جعل الرومان أقدر على التعامل مع الأحداث و المتغيرات من الإغريق و بالتالي أقدر على حماية مصالحهم.. و ربما ساعدتهم العقلية العسكرية للنظام الحاكم في روما و التي كانت أكثر حسما للأمور.. المهم أن روما كانت بتحريمها للربا عام 342 ق.م تسعى لحماية مصالح الطبقة الحاكمة من الأضرار التي يمكن أن تلحق بها بسبب الربا.. و ما يترتب عن ذلك من زعزعة للاستقرار.. و كأنها محاولة من الرومان لتفادي الأخطاء التي وقع فيها اليونانيون من قبل.
بقي بهذا الشأن أن نضيف أننا من خلال هذا العرض لا ننوي الإجابة على السؤال الذي تقدم و حسب و إنما نقصد الرد على الذين يحلو لهم دائما ربط قضية التحريم بأسباب دينية محضة و كأن الأمر مرتبط بنصوص نظرية لا علاقة لها بالواقع.. من هنا نستطيع أن نبدأ تحليلنا المفصل عن الربا لعلنا بذلك نستطيع أن نضع المسألة في موضعها الصحيح.
الحقيقة أن نظرة البعض للربا فيها الكثير من التبسيط الماكر.. و ربما شيء من السذاجة. فالأمر ليس بهذه البساطة, و أي محاولة جادة لتقييم الممارسات الربوية, و ما يترتب عنها من نتائج, لا يمكن أن تكتسب صفة الموضوعية إلا إذا تناولنا كل ما للمسألة من أبعاد مترابطة اقتصادية و اجتماعية و أخلاقية. تلك هي الأبعاد الحقيقية للمسألة, و هي المنطلق الذي ينبغي على الباحث في هذا المجال أن ينطلق منه موظفا لذلك المعرفة المتراكمة عبر السنين توظيفا نزيها بعيدا عن المغالطات. بحث من هذا النوع ينبغي أن يتناول توضيح الآتي:
. تأثير الإيمان (العقيدة) على النفس البشرية و السلوك.
. لماذا لا ينبغي للمسلم المؤمن أن يمارس الربا.
. انعكاس كل من الثقافة و العقيدة على الوضعين الاجتماعي و الاقتصادي.
. طبيعة التفاعل بين مختلف الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية للمجتمع.
. الوضع الاقتصادي الراهن في ظل المؤسسات الربوية
. تحديد المسؤولية الفردية و المسؤولية الجماعية و مفهوم التضامن الاجتماعي في الإسلام.
ثم و بما أن البحث يتعلق بقضية محددة و هي الربا فلا مناص من وضع تعريف محدد للربا لا يختلف حوله عاقلان. و هنا لابد لنا من مرجعية, و سوف نجد أن الدين و اللغة يشكلان معا أفضل مرجعية. فما معنى الربا, و ما هو الربا الذي جاء تحريمه في الكتب السماوية؟
كلمة ربا في اللغة تعني الزيادة, و هو المعنى المفهوم من الآية: "و ترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت و ربت و أنبتت من كل زوج بهيج", في إشارة لزيادة حجم حبات الرمل عندما تختلط بالماء. و لكن ما يعنينا من هذا المعنى تحديدا هو الزيادة الغير مشروعة في رأس المال أي الربا بمعناه الاصطلاحي. و لكي نفهم هذا النوع من الزيادة ينبغي أن نحدد ما معنى الزيادة المشروعة في المال أولا.
إن الزيادة في المال إنما تكون مشروعة بقدر ما كانت منسجمة مع فكرة تحقيق العدالة الاجتماعية.. أي أنها زيادة لا يترتب عنها أكل لأموال الناس بالباطل و إلا كانت سرقة و اعتداء على حقوق الآخرين.. و ليس الربا إلا عملية نهب مقننة. بهذا المفهوم نستطيع أن نفضح حقيقة الممارسات المالية و الاقتصادية السائدة في عالمنا اليوم. و سوف نجد أن الربا و حسب هذا التعريف يتحقق من عمليتين اثنتين: إما عن طريق الإقراض, و هو المعروف في الإسلام بربا النسيئة. و إما عن طريق المبادلة أو البيع, و هو ربا الفضل.
و في البيع أو المبادلة يقوم كل من البائع و الشاري بتسليم شيء و أخذ شيء في المقابل, و هي عملية من المفترض أن تتم في شكل معادلة.. و ما لم يتحقق التعادل بين طرفي المعادلة فإنها تكون مفاضلة.. و منها كلمة الفضل. نخلص من ذلك أن ربا الفضل هو زيادة غير مشروعة في أحد طرفي المعادلة في عملية البيع. و في هذا يقول المولى عز و جل:"و أحل الله البيع و حرم الربا".
أما ربا القروض أو النسيئة, فهو زيادة يطلبها الدائن من مدينه مقابل أجل محدد لسداد الدين (كذلك هي الفوائد المصرفية).. و هو ما يعتبر في الاقتصاد الربوي نوع من الاستثمار. و في ذلك خدعة بينة.. فالاستثمار ليس مرادفا للقرض, كما أن الربا ليس مرادفا للبيع. فالمرء قد يقترض لحاجة ماسة, من أجل توفير مسكن مثلا.. أو سيارة.. و ليس في ذلك أي وجه من وجوه الاستثمار. لدى يجب أن نفرق بين نوعين من القروض:
النوع الأول هو درجة من درجات الصدقة.. و هو ما يعرف في الإسلام بالقرض الحسن. فالمقرض هنا لا ينتظر أجرا و إنما يفعل ذلك لوجه الله. و لعله عمل لا ينبغي أن يندرج ضمن اختصاص المؤسسات المصرفية و الاستثمارية و أن يبقى مقتصرا على الأفراد و المؤسسات الخيرية.
أما النوع الثاني فهو القرض الاستثماري.. حيث أن المقترض يسعى للحصول على رأس المال من أجل توظيفه في تجارة أو استثمار. و القاعدة السليمة هي أن تكون هناك مشاركة في الربح و الخسارة. و لكن و حسب العرف الاقتصادي السائد فإن المقترض وحده هو الذي يتحمل عبأ الخسارة دون صاحب القرض. كما أن سعر الفائدة يدخل في حساب سعر التكلفة, أي أن الزيادة يدفعها المستهلك لتستقر في نهاية الأمر في جيب المرابي دونما عناء منه أو مساهمة حقيقية في عجلة الإنتاج.. و لا يشفع له أنه مالك لرأس المال لأنه يمارس الاحتيال من أجل الحصول على ربح سهل ليس فيه خسارة أبدا.. و في هذا خروجا عن قواعد التجارة و الاستثمار الصحيح.. و سرقة منظمة لأموال الناس. يقول تعالى: { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و ذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله و رسوله و إن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون } [سورة البقرة:276-279]. أن لا يظلم الناس بعضهم بعضا, تلك هي العلة في التحريم.
و الملاحظ أن اليهودية و هي تدعو أتباعها للامتناع عن الممارسات الربوية فيما بينهم تشير ضمنا إلى أن الغرض من إباحة هذا النوع من المعاملات مع الغير إنما هو من أجل تمكين اليهود من الهيمنة على الشعوب الأخرى. (راجع الكتاب المقدس: سفر التثنية: إصحاح 15: 1-6 و إصحاح 23: 19-20). و في ذلك تأكيد لثلاثة أمور:
أولا: غطرسة اليهود.
ثانيا: ازدواجية المعايير في عقيدتهم.
ثالثا: اليهودية لا تنفي كون الربا عملا منبوذا بل و محرما على اليهود في معاملاتهم البينية.
فهل بعد ذلك يبقى هنالك شك في قلوب الناس في أن الربا قد حرم لحكمة. و أنه من الحكمة العمل على استبدال النظام الربوي السائد في العالم اليوم بنظام بديل يكفل حقوق الناس جميعا و يضمن الاستقرار الاقتصادي و التوازن الاجتماعي. و لا نذهب بعيدا فمثل هذا النظام البديل موجود أصلا بين أيدينا في انتظار من يقوم بالمبادرة و يحوله إلى واقع ملموس. و ربما كانت المصارف الإسلامية خطوة في هذا الاتجاه شرط أن لا تكون هدفا في حد ذاتها و إنما سبيلا إلى تحقيق اقتصاد إسلامي متكامل.
- التصنيف:
nada
منذبشرى
منذمسلم
منذام ميار
منذرضا
منذنخيل
منذأبوأحمد المصرى
منذمحمد أغا
منذ