فيمنيست تبحث عن ذاتها!
عبد الرحمن ضاحي
يطرح الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه (قضية المرأة)، الذي يتحدث عن استقامة المجتمع الإنساني بعقد شراكة إنسانية/تكاملية بين الرجل والمرأة، تبدأ في إطار الأسرة وتنمو خلالها إلى حدود المجتمع
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
مدخل تاريخي:
مصطلح الحركة النِّسْوِية (Feminism) يتداوله البعض في الآونة الأخيرة؛ وفحوى تلك الحركة هي: الإيمان بالمساواة في الحقوق والفرص بين المرأة والرجل، والنضال في سبيل تحقيق ذلك. ثم تطوَّر التعريف ليصبح (نظرية المساواة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بين الجنسين)؛ وتسبّب هذا المصطلح في مشاكل كبيرة بسبب تصرفات الـ(Feminists) الخارجة عن المألوف لمحاولة المطالبة بالحقوق، ومما زاد الطين بِلّة؛ انتقال تلك الحركة بمفاهيمها للعالم الإسلامي متصادمةً بأحكام الشرع وعادات المجتمع الإسلامي الشرقي!
نشَأت الحركة النِّسْوِية في الغرب ومرت بثلاث مراحل؛ المرحلة الأولى: كانت مهد الحركة في المملكة المتحدة البريطانية في النصف الأول من القرن العشرين، وتركزت أهدافها في المطالبة بالمساواة القانونية بين الجنسين في العقود؛ كـ(الزواج، والملكية الفردية، وحق المرأة في التصويت والاقتراع في الانتخابات، والحقوق الاقتصادية). وأما المرحلة الثانية: فكانت في الستينات حتى الثمانينات من القرن الماضي، وغطَّت معظم بلدان القارة الأوروبية وبعض دول العالمَ، وشملت هذه المرحلة بعض المطالبة بـ(الحقوق) -على حد تسميتهم-؛ لدحض الفوارق الثقافية والسياسية بين الجنسين؛ كالعادات والتقاليد التي تحدد دور المرأة في المجتمع، وقد سعت بجهد لوضع حد لكافة أشكال التمييز على أساس الجنس. وأما المرحلة الثالثة: فقد نشَأت في العقد الأخير من القرن الماضي إلى يومنا هذا، والتي تعتبر أكثر مراحل الحركة نشاطًا، وتنظر النِّسْويات لهذه المرحلة على أنها استكمال للمرحلة السابقة وتقويم لفشلها، واعتمدت على استخدام تفسير جديد مختلف للنوع الاجتماعي، كما تميزت هذه المرحلة بتناولها قضايا الجنس؛ مما شكل تحديًا لطبيعة العلاقة بين الجنسين وتحقيق الذات.
انتقلت تلك العدوى إلى العالم الإسلامي؛ حيث بدأت في مصر عام (1923م)، وقد حضرت رئيسة الاتحاد الدولي للحركة النِّسْوِية في العالم آنذاك إلى مصر للمساعدة في بناء التنظيم ودعمه؛ ونتج عن ذلك إقامة المؤتمر النسائي العربي عام (1944م)، الذي تضمنت توصياته تقييد الأحكام الشرعية المتعلقة بالطلاق، وتعدد الزوجات، والمطالبة بحذف نون النسوة، والجمع بين الجنسين في التعليم الابتدائي.
التمركز حول الأنثى:
من الواضح من ظروف نشأة المصطلح؛ أنه نشأ كرد فعل من ممارسات اضطهاد المرأة في الغرب، وتم توريده إلى العالم الإسلامي كبقية المصطلحات الموردة التي لا تجد لها مبررات واضحة لوجودها في عالمنا الإسلامي إلا لمجرد وجودها في الغرب؛ فكما يقول ابن خلدون: "إن المغلوبَ مُولَعٌ أبدًا بتقليد الغالب"، وظهرت النِّسْوِية في العالم الإسلامي بعدة مطالبات تمركزت في حق المرأة في المشاركة في: السلطة، وحقها في الطلاق، وحضانة الأطفال، ومساواة المرأة والرجل في الأجور وفرص العمل، وأخيرًا دندنت الحركة حول مطلب (تحقيق الذات للمرأة) وهو ما كثر الكلام حوله وكثر اللغط فيه حتى بين أهل الدين!
وتحولت الحركة النِّسْوِية مع الوقت من حركة تطالب بتحقيق (العدالة) للمرأة داخل المجتمع، إلى حركة تعيد صياغة مفهوم المرأة من جديد، بشكل يركز على معنى (إثبات الذات للمرأة)، وهو ما سماه الدكتور عبد الوهاب المسيري "التمركز حول الأنثى" في كتابه (قضية المرأة: بين التحرير والتمركز حول الأنثى) لتدخل مع الرجل في صراع كوني لإثبات ذاتها وإلغاء وصايته عليها، محملةً ابن آدم وزر التاريخ الذكوري الأبوي كله، رغم أنه ليس من صنعه!
وبهذا تحولت الحركة النِّسْوِية إلى حركة تدور حول فكرة الهُوية، بعد أن كانت حركة حقوقية تطالب بعدة حقوق اجتماعية وسياسية، معتنقةً رؤية جديدة للإنسانية من رؤية تشاركية بين الرجل والمرأة، ينمو المجتمع من خلالها إلى مفهوم صراعي للعالم، طَرَفاه الذكر والأنثى، كل منهما يتمركز حول ذاته وتحاول فيه المرأة التحرر من قيود الرجل!
مفهوم تحقيق الذات:
يعرّف المتخصصون (تحقيق الذات) بأنه: "حاجة الفرد للتعبير عن ذاته بصورة مباشرة أو غير مباشرة، والوصول إلى أقصى ما يمكن تحقيقه من إمكانات وقدرات بقصد إشباع حاجاته، وإعادة حالة الاتزان التي تساعده في استخدام تلك الإمكانات والقدرات في خدمة الفرد والمجتمع، والقيام بأدواره ومسئولياته وواجباته المعتادة". [مقال: تحقيق الذات حاجة ضرورية للمجتمع. نشر: مركز النور للدراسات].
جاء (تحقيق الذات) في ترتيب نظرية (هرم ماسلو) للاحتياجات الإنسانية في المقام الخامس -الأخير- للهرم، وقد قدم (أبراهام ماسلو) نظرية في الحاجات الإنسانية؛ يرى فيها أن حاجات الإنسان مرتبة بحسب أهميتها وظهورها، وأوضح فيها أنه لا بد للإنسان أن يشبع حاجاته في المستوى الأدنى أولاً، ثم يبدأ الفرد بالشعور بحاجته إلى إشباع الحاجات الأعلى وصولاً إلى تحقيق الذات.
فتقدير الذات حاجة إنسانية مُلِحة داخل كل إنسان -ذكرًا كان أو أنثى-، ولكن السؤال المِحوري في ذلك العنصر: (لماذا انحصر مفهوم تحقيق الذات عند الفيمنيزم في الوظيفة وامتلاك الأنثى للمادة فقط؟!)؛ فالمرأة العاملة التي تملك ذمة مالية تستطيع بها التحرر من قيود الرجل (القائم عليها) في أي وقت، هي مَن حققت ذاتها، وأن الأنثى التي اختارت تكوين الأسرة وتربية أولادها وخدمة زوجها امرأة جاهلة أفنت عمرها في أمور غير نافعة بعيدة عن تحقيق ذاتها!
وقبل الدخول في تفنيد تلك الشبهة؛ يجب أن نوضح: هل يوجد ارتباط بين الوظيفة وامتلاك العنصر المادي وتحقيق الذات للإنسان، أم يستطيع الإنسان تحقيق ذاته بعيدًا عن امتلاك تلك المقومات؟! فتحقيق الذات له صور عدة؛ منها: الحصول على وظيفة، أو الحصول على مؤهل علمي، أو بناء أسرة، وهناك من الناس مَن يبلغ طموحه حدًّا كبيرًا، أو تكون طموحاته غير محدودة؛ فيرى أن ذاته لا تتحقق إلا عندما يغدو له دور مؤثر ومَركز ملائم في مجتمعه.
فالوظيفة وامتلاك العنصر المادي مجرد وسيلة أو أحد عناصر تحقيق الذات وليست مساوية له، ومن الممكن أن يصل الفرد لتحقيق ذاته دون امتلاك تلك العناصر من الأساس، فكم من فرد حاز على مكانة اجتماعية مرموقة داخل مجتمعه وكان فقيرًا! وكم من فرد تمكن من تحقيق ذاته بعيدًا عن وظيفته التي يعتبرها عِبئًا وسببًا ماديًّا يسيّر حياته فقط! ولكن يبدو أن تحقيق الذات عند الفيمنيزم هو ذريعة لامتلاك المادة التي تساعدهم على التحرر من أي قيود ذكورية مفروضة عليهم وتصل لمرحلة:
(strong independent woman)؛ أي: المرأة القوية المعتمدة على نفسها.
فالذات يمكن تحقيقها عبر وسائل أخرى غير الوظيفة، عن طريق استثمار ما يملك الشخص من قدرات ومواهب تمكّنه من تحقيق إنجازات داخل مجتمعه، أو عبر المبادرات المجتمعية أو الأنشطة الخيرية، أو عبر تكوين الأسرة وإخراج عناصر صالحة للمجتمع.
الأنثى العاملة:
بعدما فرغنا من عملية فصل (تحقيق الذات) عن (الوظيفة) عند الفيمنيزم، وتفكيك المسوِّغ الخبيث لاستقواء الأنثى على مَن له القوامة عليها؛ نفكك الجزء الآخر من الشبهة ألا وهو (الوظيفة)، فلم يحرّم الشرع عمل المرأة ولا تجارتها، وجميع نصوص المعاملات في القرآن تشمل الذكر والأنثى، ولم يخصص التوجيه للرجال فقط، طالما انضبط هذا العمل بضوابط البُعد عن أسباب الفتنة.
وبمنظور الشراكة الإنسانية التي أوجدها الله بين الذكر والأنثى في هذا الكون، كما جعل الله على الرجال القوامة على النساء، سواء ابنة أو زوجة أو أم يأثم بتقصيره فيها؛ فقد جعل الله في حياة بنات حواء أوقات يصعب فيها الموازنة بين العمل وواجبها الأسري، وحينها يكون الواجب الأسري مقدَّم على العمل -إذا كانت في غير حاجة له-، لمِا فيه من معانٍ أسمى بكثير من تحقيق الذات المتوهَّم عبر الوظيفة، أو اكتناز المادة والمال، فمسئولية تكوين الأسرة وإعداد النشء؛ رسالة مشتركة بين شريكَي الأسرة (الذكر والأنثى)، يبذل فيها كل منهما ما في وُسْعه لتأهيل وإخراج عناصر صالحة للمجتمع، وبما أن الأنثى هي مَن تقوم بالحمل والرضاعة ويرتبط بها الرضيع في سنواته الأولى أكثر من الأب؛ فواجب شرعًا عليها القيام بأعبائها الأسرية أولاً قبل التفكير في العمل أو (تحقيق الذات) المتوهَّم، كما على الأب توفير كل سُبُل الراحة المادية قدر وُسْعه لها ولأولاده، ويأثم إن كان ذلك في وُسْعه ولم يوفره لشريكته ولأولاده. فالشاهد أنه كما قيل: "العاقل مَن يعرف خير الخيرَيْن، وشر الشرَّيْن)؛ أي يُحْسِن المفاضلة بين المصالح إذا كثرت أمامه، وبين المفاسد إذا كثرت عليه وأُجبر على فعلها.
وليس أشد موعظةً من حديث النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته؛ فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعيةٌ وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ وهو مسئول عن رعيته"، وجاء في الحديث الآخر: "كفى بالمرء إثمًا أن يضيّع من يَقُوت"؛ أي: مَن يَعُول.
والنقطة التي أود أن ألفت النظر إليها؛ أننا كمجتمع مسلم يجب أن نشجع المرأة على اكتساب الوظائف المهارية التي تستطيع عملها في البيت دون الحاجة إلى الخروج منه؛ كـ(التدقيق اللغوي، أو البحث العلمي، أو تأليف الكتب، أو الترجمة، أو التصميم، أو البرمجة، أو إدارة المواقع وصفحات فيسبوك، أو نشر الأخبار والمقالات في المواقع، ... إلخ)، وهو ما يُطلق عليه في سوق العمل (freelance)؛ فكل تلك الوظائف تمكّن المرأة من أن تجمع بين القيام بمسئولياتها في البيت والعمل في نفس الوقت؛ لأنها تعتمد على المهارة المكتسَبة التي يملكها الفرد، ولا تتطلب الخروج لأدائها، كما يجب على المجتمع أن يراعي ظروف ووقت المرأة التي تعمل في الوظائف المهمة؛ كـ(الطب، وتعليم البنات) لتحقيق الموازنة بين عملها وواجباتها الأسرية.
المسيري يطرح العلاج:
يطرح الدكتور عبد الوهاب المسيري في كتابه (قضية المرأة)، الذي يتحدث عن استقامة المجتمع الإنساني بعقد شراكة إنسانية/تكاملية بين الرجل والمرأة، تبدأ في إطار الأسرة وتنمو خلالها إلى حدود المجتمع؛ يطرح فيه المسيري فهمًا عميقًا لمشكلة (الفيمنيزم) وتضخمها الذي وصل لحد التصارع مع الرجل والتمركز حول ذاتها كأنثى.
يقول الدكتور المسيري عن الحركة النِّسْوِية في موجتها الثانية معرفًا لها: "حركة ظهرت في عصر ما بعد الحداثة، تتمركز حول الأنثى كموضوع مادي، تبحث لها عن (هوية- ذات- انتماء) مستقل عن المجتمع؛ والمرأة هنا متمركزة حول ذاتها، مكتفية بها، تود اكتشاف ذاتها وتحقيقها خارج أي إطار اجتماعي، في حالة صراع كوني أزلي مع الرجل المتمركز حول ذاته، وكأنها الشعب المختار في مواجهة الأغيار. هذه الحركة تنكر الإنسانية المشتركة؛ ولذا؛ لا يمكن أن ينضم إليها الرجال، فالرجل لا يمكنه أن يشعر بمشاعر المرأة، كما أنه مذنب يحمل وزر التاريخ الذكوري الأبوي كله رغم أنه ليس من صنعه!".
ويقول أيضًا عن نتائج عن الفهم المختل: "وبالتالي؛ نقسم العالم إلى ذكور متمركزين على ذواتهم، وإناث متمركزات على ذواتهن؛ هذا الخطاب التفكيكي يعلن حتمية الصراع بين الذكر والأنثى وضرورة وضع نهاية للتاريخ الذكوري الأبوي، كما يهدف إلى توليد القلق والضيق والملل وعدم الطمأنينة في نفس المرأة، عن طريق إعادة تعريفها بحيث لا يمكن لها أن تحقق هويتها إلا خارج إطار الأسرة!".
فوَصَف الدكتور المسيري المشكلة بأنها: تضخمت حتى أحدثت خللاً في فهم الشراكة الإنسانية بين الرجل والمرأة؛ عبر إيجاد تعريف جديد للأنثى متمركز حول ذاته في حالة صراع دائم مع الذكر. ويعقّب أن من نتائج هذا الخلل: تدمير الأسرة؛ بسبب رغبة الأنثى في (تحقيق الذات) خارج إطار الأسرة التي تعتقد بأنها سبب تعطيل قدراتها.
ويختتم الدكتور المسيري بعلاج تلك المعضلة؛ وهو دراسة قضايا المرأة العربية المسلمة داخل إطارها التاريخي والإنساني؛ لأن مشكلة المرأة بالنهاية مشكلة إنسانية لها سماتها الخاصة، وكذلك ينبغي أن نقترح حلولاً لمشكلاتنا متولّدةً من نماذجنا المعرفية ومنظومتنا القِيَمية والأخلاقية، وإيماننا بالمشترك الإنساني بيننا؛ الإنساني الذي يسبق الفرد، كما يسبق الإنسان المادة، وبهذا يمكن أن نستبدل الحديث عن "حقوق الإنسان" الفرد، و"حقوق المرأة" الفرد، و"حقوق الطفل" الفرد، بالحديث عن "حقوق الأسرة" كنقطة بداية يتفرّع عنها "حقوق الأفراد" داخل منظومة الأسرة؛ وبهذا نتجاوز فكرة تحقيق الذات بشكل فردي مطلق إلى تحقيق الذات داخل إطار الأسرة.
ويذكر المسيري أنه من المفيد ألا نتحدث عن "حق المرأة في العمل"؛ أي: العمل المنتَج ماديًّا، ونعيد صياغة رؤية الناس بحيث يُعرَّف العمل بـ"العمل الإنساني"؛ أي :المنتَج إنسانيًّا، وهنا تصبح "الأمومة" أهم الأعمال المنتَجة؛ فيقل إحساس المرأة العاملة في المنزل بالغربة وعدم الجدوى، ويزداد احترام المجتمع لها وتقدير عملها، كما يمكن تطوير نُظُم تعليمية جديدة تمكّن المرأة من الاستمرار بالتعليم دون دخول صراع نفسي بين الرغبة في التعلم والنزعة الفطرية نحو الأمومة.