فوائد من زاد المعاد (2-4)
فوائد من زاد المعاد في هدى خير العباد لابن القيم
ومن علاجها: أن يعلم أن مرارة الدنيا هي بعينها حلاوة الآخرة, قلبها الله سبحانه كذلك, وحلاوة الدنيا بعينها مرارة الآخرة, ولأن ينتقل من مرارة منقطعة إلى حلاوة دائمة خير له من عكس ذلك, فإن خفي عليك هذا, فانظر إلى قول الصادق المصدوق: «حُفَّتِ الجنَّةُ بالمكاره وحُفَّتِ النارُ بالشهوات»
وفي هذا المقام تفاوتت عقول الخلائق, وظهرت حقائق الرجال, فأكثرهم آثر الحلاوة المنقطعة على الحلاوة الدائمة التي لا تزول, ومن لم يحتمل مرارة ساعة لحلاوة الأبد, ولا ذُلَّ ساعةٍ لعز الأبد, ولا محنة ساعة لعافية الأبد, فإن الحاضر عنده شهاده, والمنتظر غيب, والإيمان ضعيف, وسلطان الشهوة حاكم, فتولد من ذلك إيثار العاجلة, ورفضُ الآخرة, وهذا حال النظر الواقع على ظواهر الأمور, وأوائلها ومبادئها, وأما النظر الثاقب الذي يخرق حجب العاجلة, ويجاوزه إلى العواقب والغايات, فله شأن آخر.
فادع نفسك إلى ما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته من النعيم المقيم, والسعادة الأبدية, والفوز الأكبر, وما أعد لأهل البطالة والإضاعة من الخزي والعقاب والحسرات الدائمة, ثم اختر أيُّ القسمين أليق بك, وكلّ يعمل على شاكلته, وكلُّ أحد يصبو إلى ما يُناسبه, وما هو الأولى به, ولا تستطل هذا العلاج, فشدة الحاجة إليه من الطبيب والعليل دعت إلى بسطه, وبالله التوفيق.
الأدوية الروحانية لها تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية
ها هنا من الأدوية التي تشفى من الأمراض ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية، والروحانية، وقوة القلب، واعتماده على الله، والتوكل عليه، والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له، والصدقة، والدعاء، والتوبة، والاستغفار، والإحسان إلى الخلق، وإغاثة الملهوف، والتفريج عن المكروب، فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أدينها ومللها، فوجدوا لها من التأثير في الشفاء، ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته، ولا قياسه، وقد جربنا نحن، وغيرنا من هذا أموراً كثيرة، ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسية،....ومن أعظم علاجات المرض فعل الخير والإحسان والذكر والدعاء والتضرع والابتهال إلى الله والتوبة، ولهذه الأمور تأثير في دفع العلل وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية.
أفضل أيام العبد يوم توبته إلى الله وقبول الله توبته:
خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله, وقبول الله توبته, لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: «أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك»
فإن قيل: فكيف يكون هذا اليوم خيراً من يوم إسلامه ؟ قيل: هو مكمل ليوم إسلامه, ومن تمامه, فيومُ إسلامه بداية سعادته, ويوم توبته كمالها وتمامها.
تنكر الأرض والنفس والأهل والولد للمذنب:
قول كعب رضي الله عنه :( حتى تنكرت لي الأرض, فما هي بالتي أعرف ) هذا التنكرُ يجده المذنب العاصي بحسب جرمه حتى في خلق زوجته وولده وخادمه, ودابته, ويجده في نفسه أيضاً, فتتنكر له نفسه حتى ما كأنه هو, ولا كأن أهله وأصحابه ومن يُشفقُ عليه بالذين يعرفهم, وهذا سر من الله لا يخفى إلا على من هو ميت القلب, وعلى حسب حياة القلب, يكون إدراك هذا التنكر والوحشة, وما لجرح بميت إيلام.
من هان على الله جل جلاله خلى بينه وبين معاصيه:
الرب سبحانه...يؤدِّبُ عبده المؤمن الذي يُحبهُ وهو كريم عنده بأدنى زلة وهفوة, فلا يزال مستيقظاً حذراً, وأما من سقط من عينه وهان عليه, فإنه يخلي بينه وبين معاصيه, وكلما أحدث ذنباً أحدث له نعمة, والمغرور يظن أن ذلك من كرامته عليه, ولا يعلم أن ذلك عينُ الإهانة, وأنه يريد به العذاب الشديد, والعقوبة التي لا عاقبة معها, كما في الحديث المشهور: « إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عجل له عقوبته في الدنيا, وإذا أراد بعبدٍ شراً أمسك عنه عقوبته في الدنيا, فيرِدُ يوم القيامة بذنوبه»
إن عاق الهمّ والحزن العبد عن المعاصي كانا خير له:
وإن عاقه الهمُّ والحزنُ عن شهواته التي تضره في معاشه ومعاده, انتفع به من هذا الوجه, وهذا من حكمة العزيز الحكيم أن سلَّط هذين الجندين على القلوب المعرضة عنه, الفارغة من محبته, وخوفه, ورجائه, والإنابة إليه, والتوكل عليه, والأنس به, والفرار إليه, والانقطاع إليه, ليردها بما يبتليها من الهموم والغموم والأحزان والآلام القلبية عن كثير من معاصيها وشهواتها المُردية.
ما يدفعُ به الحزن والهم:
ما مضى لا يُدفع بالحزن بل بالرضى والحمد والصبر والإيمان بالقدر, وقول:قَدرُ اللهُ وما شاءَ فَعَلَ.وما يُستقبل لا يُدفع أيضاً بالهمِّ بل إما أن يكون له حيلة في دفعه, فلا يعجز عنه, وإما أن لا تكون له حيلة في دفعه فلا يجزع منه, ويلبسُ له لباسه ويأخذُ له عُدته ويتأهب له أهبته اللائقة به ويستجن بجُنةٍ حصينة من التوحيد, والتوكل والانطراح بين يدي الرب تعالى والاستسلام له والرضى به رباً في كل شيء ولا يرضى به رباً فيما يحب دون ما يكره فإن كان هكذا, لم يرضَ به رباً على الإطلاق
صرع الأرواح الخبيثة وعلاج ذلك:
الصرع صرعان: صرع من الأرواح الخبيثة الأرضية, وصرع من الأخلاط الرديئة. والثاني: هو الذي يتكلم فيه الأطباء في سببه وعلاجه.
وأما صرع الأرواح, فأئمتهم وعقلاؤهم يعترفون به, ولا يدفعونه, ويعترفون بأن علاجه بمقابلة الأرواح الشريفة الخيرة العُلوية لتلك الأرواح الشريرة الخبيثة, فتدفع آثارها, وتعارض أفعالها وتُبطلها,..وأما جهلة الأطباء..ومن يعتقد بالزندقة فضيلة, فأولئك ينكرون صرع الأرواح, ولا يُقرون بأنها تُؤثر في بدن المصروع, وليس معهم إلا الجهل وإلا فليس في الصناعة الطبية ما يدفع ذلك والحس والوجود شاهد به..وقدماء الأطباء كانوا يسمون هذا الصرع المرض الإلهي وقالوا: إنه من الأرواح
وعلاج هذا النوع يكون بأمرين: أمرٍ من جهة المصروع, وأمر من جهة المعالج, فالذي من جهة المصروع يكون بقوة نفسه, وصدق توجهه إلى فاطر هذه الأرواح وبارئها, والتعوذ الصحيح الذي قد تواطأ عليه القلب واللسان, فإن هذا نوع محاربة, والمحارب لا يتم له الانتصاف من عدوه بالسلاح إلا بأمرين: أن يكون السلاح صحيحاً في نفسه جيداً, وأن يكون الساعد قوياً, فمتى تخلف أحدهما لم يُغن السلاح كثير طائل, فكيف إذا عدم الأمران جميعاً: يكون القلب خراباً من التوحيد, والتقوى, والتوجه, ولا سلاح له.
والثاني: من جهة المعالج, بأن يكون فيه هذا الأمران أيضاً, حتى إن من المعالجين من يكتفي بقوله: " اخرج منه " والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اخرج عدو الله أنا رسول الله» وشاهدت شيخنا يُعالج بآية الكرسي, وكان يأمر بكثرة قراءتها المصروع ومن يُعالجه بها, وبقراءة المعوذتين.
وأكثر تسلط الأرواح الخبيثة على أهله تكون من جهة قلة دينهم, وخراب قلوبهم وألسنتهم من حقائق الذكر, والتعاويذ, والتحصُّنات النبوية الإيمانية, فتلقى الروح الخبيثة الرجل أعزل لا سلاح معه...فتؤثر فيه هذا.ولو كشف الغطاء, لرأيت أكثر النفوس البشرية صرعى هذه الأرواح الخبيثة, وهي في أسرها وقبضتها تسوقها حيث شاءت, ولا يمكنها الامتناع عنها ولا مخالفتها, وبها الصرع الأعظم الذي لا يفيق صاحبه إلا عند المفارقة والمعاينة, فهناك يتحقق أنه كان هو المصروع حقيقة,
وعلاج هذا الصرع باقتران العقل الصحيح إلى الإيمان بما جاءت به الرسل, وأن تكون الجنةُ والنارُ نُصب عينيه وقبلة قلبه, ويستحضر أهل الدنيا, وحلول المثلات والآفات بهم, ووقوعها خلال ديارهم كمواقع القطر, وهم صرعى لا يفيقون, وما أشدَّ داءَ هذا الصرع, ولكن لما عمَّت البلية به بحيث لا يرى إلا مصروعاً, لم يصر مستغرباً ولا مستنكراً, بل صار لكثرة المصروعين عين المستنكر المستغرب خلافه.
المريض له مدد من الله يُغذيه به بحسب انكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل:
المريض له مدد من الله تعالى يُغذيه به زائداً على ما ذكره الأطباء من تغذيته بالدم, وهذا المدد بحسب ضعفه وانكساره وانطراحه بين يدي ربه عز وجل, فيحصل له من ذلك ما يُوجب له قرباً من ربه, فإن العبد أقربُ ما يكون من ربه إذا انكسر قلبُهُ, ورحمةُ ربه عندئذٍ قريبة منه, فإن كان ولياً له, حصل له من الأغذية القلبية ما تقوى به قوى طبيعته, وتتنعش به قواه أعظم من قوتها, وانتعاشها بالأغذية البدنية, وكلما قوى إيمانه وحبه لربه, وأنسه به, وفرحُه به, وقوى يقينه بربه, واشتد شوقه إليه ورضاه به وعنه, ووجد في نفسه من هذه القوة ما لا يُعبرُ عنه, ولا يدركه وصف طبيب, ولا يناله علمه.
تفريج نفس المريض, وتطيب قلبه, له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها:
تفريج نفس المريض, وتطيب قلبه, وإدخال ما يسُرُّه عليه, له تأثير عجيب في شفاء علته وخفتها, فإن الأرواح والقوى تقوى بذلك, فتساعد الطبيعة على دفع المؤذي, وقد شاهد الناس كثيراً من المرضى تنتعش قواه بعيادة من يُحبونه, ويعظمونه, ورؤيتهم لهم, ولُطفهم بهم, ومكالمتهم إياهم, وهذا أحد فوائد عيادة المرضى التي تتعلق بهم, فإن فيها أربعة أنواع من الفوائد: نوع يرجع إلى المريض, ونوع يعود على العائد, ونوع يعود على أهل المريض, ونوع يعود على العامة.
- التصنيف: