فوائد من بدائع الفوائد لابن القيم (3-4)

منذ 2019-12-10

ومن العدوان أن يدعو ربه غير متضرع بل دعاء مُدلِّ, كالمستغني بما عنده المُدل على ربه به وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته, فما لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد.

 

وسوسة الشيطان:

قوله تعالى:   {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ}  يعم كل شره, ووصفه بأعظم صفاته وأشدها شراً, وأقواها تأثيراً, وأعمها فساداً, وهي الوسوسة, التي هي مبادئ الإرادة, فإن القلب يكون فارغاً من الشر والمعصية, فيوسوس إليه,  ويُخطرُ الذنب بباله, فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه فيصير شهوة, ويُزينها له ويُحسنها ويُخليها له في خيال تميل نفسه إليه, فيصير إرادة ثم لا يزال يُمثل ويُخيلُ, ويُمني ويُشهي, وينسي علمه بضررها, ويطوى عنه سوء عاقبتها, فيحول بينه وبين مطالعته, فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط, وينسى ما وراء ذلك, فتصير الإرادة عزيمة جازمة, فيشتدُّ الحرص عليها من القلب,...فأصل كل معصية وبلاء إنما هو الوسوسة, ولهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها من أهم من كل مستعاذ منه.

شر الشيطان في ستة أجناس:

الشيطان...كلُّ شرٍّ في العالم فهو السببُ فيه, ولكن ينحصر شرُّه في ستة أجناس, لا يزال بابن آدم حتى ينال منه واحداً منها أو أكثر:

الشر الأول: شر الكفر والشرك ومعاداة الله ورسوله, فإذا ظفر به بذلك من بني آدم برد أنينُهُ, واستراح من تعبه معه...فإن يئس منه..نقله إلى:

المرتبة الثانية: وهي البدعة وهي أحبُّ إليه من الفسوق والمعاصي لأن ضررها في نفس الدين وهو ضرر متعدٍّ..فإن أعجزه من هذه المرتبة.نقله إلى:

المرتبة الثالثة من الشر: وهي الكبائر على اختلاف أنواعها..فإن أعجز الشيطان عن هذه المرتبة, نقله إلى: المرتبة الرابعة: وهي الصغائر التي إذا اجتمعت فربما أهلكت صاحبها...فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة, نقله إلى:

المرتبة الخامسة: وهي إشغاله بالمُباحات التي لا ثواب فيها ولا عقاب, بل عقابها فوات الثواب الذي ضاع عليه باشتغاله بها فإن أعجزه العبد من هذه المرتبة نقله إلى

المرتبة السادسة: وهو أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه, ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل...وقلَّ من ينتبه لهذا من الناس...وهذا لا يتوصل إلى معرفته إلا بنور من الله يقذفه في قلب العبد, يكون سببه تجريد متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم  وشدة عنايته بمراتب الأعمال عند الله, وأحبها إليه, وأرضاها له, وأعمها نصيحة لله تعالى ولرسوله ولكتابه ولعباده المؤمنين..

فإذا أعجزه العبد من هذه المراتب السِّتّ سلَّط عليه حزبه من الإنس والجن بأنواع من الأذى والتكفير له والتضليل والتبديع والتحذير منه, وقصد إخماله وإطفائه ليُشوش عليه قلبه.ويمنع الناس من الانتفاع به.

حروز يستدفع بها شر الشيطان:

يعتصم...العبدُ من الشيطان ويستدفعُ شره ويحترز منه,...بأسباب:

أحدها: الاستعاذة بالله من الشيطان, قال تعالى:   {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّـهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}[فصلت:36]

الحرز الثاني: قراءة هاتين السورتين [الفلق, والناس] فإن لهما تأثيراً عجيباً في الاستعاذة بالله تعالى من شره ودفعه والتحصن منه.ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما تعوذ المُتعوذون بمثلهما » وكان يتعوذ بهما كل ليلة عند النوم, وأمر عقبة أن يقرأ بهما دبر كل صلاة, وقال: «من قرأهما مع سورة الإخلاص ثلاثاً حين يُمسي وثلاثاً حين يصبحُ كفته من كلِّ شيءٍ» 

الحرز الثالث: قراءة آية الكرسي.

الحرز الرابع: قراءة سورة البقرة.

الحرز الخامس: خاتمة سورة البقرة.

الحرز السادس: ( « لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد, وهو على كل شيء قدير » ) مائة مرة.

الحرز السابع: وهو من أنفع الحروز من الشيطان, وهو كثرة ذكر الله عز وجل.

الحرز الثامن: الوضوء والصلاة, وهذا من أعظم ما يتحرز به منه, ولا سيما عند ثوران قوة الغضب والشهوة...فإنها نار والوضوء يُطفئُها, والصلاة إذا وقعت بخشوعها..أذهبت ذلك كله, وهذا أمر تجربته تغنى عن إقامة الدليل عليه.

الحرز التاسع: إمساك فضول النظر, والكلام, والطعام, ومخالطة الناس, فإن الشيطان إنما يتسلط على آبن آدم وينال منه غرضه من هذه الأبواب الأربعة.

فوائد إخفاء الدعاء:

وفي إخفاء الدعاء فوائد عديدة:

أحدها: أنه أعظم إيماناً, لأن صاحبه يعلم أن الله تعالى يسمعُ دعاءه الخفيَّ.

ثانيها: أنه أعظم في الأدب والتعظيم, ولهذا لا تخاطب الملوك ولا تُسألُ برفع الأصوات, وإنما تخفض عندهم الأصوات, ويخفى عندهم الكلام بمقدار ما يسمعوه.

ثالثها: أنه أبلغُ في التضرع والخُشوع الذي هو رُوح الدعاء ولُبُّهُ ومقصوده.

رابعها: أنه أبلغُ في الإخلاص.

خامسها: أنه أبلغُ في جمعية القلب على الله تعالى في الدعاء, فإن رفع الصوت يفرقه.

سادسها: وهو من النكت السرية البديعة جداً, أنه دال على قرب صاحبه من الله,..فيسأله مسألة مناجاة القريب للقريب, لا مسألة نداء البعيد للبعيد.

سابعها: أنه أدعى إلى دوام الطلب والسؤال, فإن اللسان لا يملُّ والجوارح لا تتعب

ثامنها: أن إخفاء الدعاء أبعد من القواطع والمشوشات والمضعفات فإن الداعي إذا أخفى دعاءه لم يدر به أحد...وإذا جهر به تفطنت له الأرواح الشريرة والباطولية والخبيثة من الجن والإنس فشوشت عليه ولا بد, ومانعته وعارضته.

تاسعها: أعظم النعم الإقبال على الله والتعبد له والانقطاع إليه والتبتلُ إليه ولكل نعمة حاسد على قدرها دقَّت أو جلَّت, ولا نعمة أعظم من هذه النعمة...وليس للمحسود أسلم من إخفاء نعمته عن الحاسد.

عاشرها: أن الدعاء هو ذكر للمدعو سبحانه,....فهو ذكر وزيادة...وقد قال تعالى:{وَاذكُر رَبَّكَ في نَفسِكَ تَضَرُّعًا وَخيفَةً وَدونَ الجَهرِ مِنَ القَولِ } { [الأعراف/205] فأمر نبيه أن يذكره في نفسه.

الاعتداء في الدعاء:

الاعتداءُ في الدعاء تارةً بأن يسأل ما لا يجوز له سؤاله من الإعانة على المُحرمات, وتارةً بأن يسأل ما لا يفعله الله, مثل أن يسأله تخليده إلى يوم القيامة, أو يسأله أن يرفع عنه لوازم البشرية من الحاجة إلى الطعام والشراب, أو يسأله أن يُطلعه على غيبه, أو يسأله أن يجعله من المعصومين, أو يسأله أن يهب له ولداً من غير زوجة ولا أمةٍ, ونحو ذلك مما سؤاله اعتداء, فكل سؤال يُناقضُ حكمة الله أو يتضمن مناقضة شرعه وأمره, أو يتضمن خلاف ما أخبر به, فهو اعتداء لا يحبه الله ولا يحبُّ سائله, وفسر الاعتداء برفع الصوت أيضاً في الدعاء, قال ابن جريج: من الاعتداء رفع الصوت والنداء بالدعاء والصياح.

ومن العدوان أن يدعو ربه غير متضرع بل دعاء مُدلِّ, كالمستغني بما عنده المُدل على ربه به وهذا من أعظم الاعتداء المنافي لدعاء الضارع الذليل الفقير المسكين من كل جهة في مجموع حالاته, فما لم يسأل مسألة مسكين متضرع خائف فهو معتد.

  • 4
  • 0
  • 3,733

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً