فوائد من عدّة الصابرين (2-4)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
فوائد من عدّة الصابرين وذخيرة الشاكرين لابن القيم
- التصنيفات: الزهد والرقائق -
أمور تعين على الصبر
لما كان الصبر مأموراً به جعل الله سبحانه له أسباباً تعين عليه وتوصل إليه.
فالصبر وإن كان شاقاً كريهاً على النفوس فتحصيله ممكن, وهو يتكون من مفردين: العلم والعمل, فمنهما تُركب جميع الأدوية التي تُداوى بها القلوب والأبدان, فلا بدَّ من جزء علمي وجزء عملي, فمنهما يركب هذا الدواء الذي هو أنفع الأدوية.
فأما الجزء العلمي فهو إدراك ما في المأمور من الخير والنفع واللذة والكمال, وإدراك ما في المحظور من الشرِّ والضرِّ والنقص, فإذا أدرك هذين العلمين كما ينبغي أضاف إليهما العزيمة الصادقة والهمة العالية والنخوة والمروءة الإنسانية, وضم هذا الجزء إلى هذا الجزء, ومتى فعل ذلك حصل له الصبر وهانت عليه المشقة وحَلَت له مرارته وانقلب ألمه لذة.
وقد تقدم أن الصبر: مصارعة باعث العقل والدين لباعث الهوى والنفس, وكل متصارعين أردنا أن يغلب أحدهما على الآخر, فالطريق فيه تقوية من أردنا أن تكون الغلبة له وتضعيف الآخر, كالحال مع القوة والمرض سواء.
فإذا قوي باعث شهوة الوقاع المحرم وغلب بحيث لا يملك معها فرجه...فإذا عزم على التداوي ومقاومة هذا الداء فليضعفه..بأمور :
أحدها : أن ينظر إلى مادة قوة الشهوة فيجدها من الأغذية المحركة للشهوة, إما بنوعها وإما بكميتها وكثرتها, فليحسم هذه المادة بتقليلها, فإن لم تنحسم فليبادر إلى الصوم, فإنه بُضيق مجاري الشهوة ويكسر حدتها, ولا سيما إذا كان أكله وقت الفطر معتدلاً.
الثاني : أن يتجنب محرك الطلب وهو النظر, فليغض لجام طرفِه ما أمكنه, فإن داعي..الشهوة إنما يهيج بالنظر, والنظر يحرك القلب بالشهوة.
الثالث: تسلية النفس بالمباح المعوض عن الحرام.
الرابع : الفكر في المفاسد الدنيوية المتوقعة من قضاء هذا الوطر, فإنه لو لم يكن جنة ولا نار لكان في المفاسد الدنيوية ما ينهي عن إجابة هذا الداعي.
الخامس: الفكرة في مقابح الصورة التي تدعوه نفسه...وليُعزَّ نفسه أن تشرب من حوض ترده الكلاب والذباب, كما قيل :
إذا كثر الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنبُ الأسودُ ورود ماءٍ إذا كان الكلاب يلغن فيه
الإنسان لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال
ما دام قلم التكليف جاريً عليه لا يستغني عن الصبر في حال من الأحوال, فإنه بين أمر يجب امتثاله وتنفيذه, ونهي يجب عليه اجتنابه وتركه, وقدر يجب عليه الصبر عليه اتفاقاً, ونعمة يجب عليه شكر المنعم عليها, وإذا كانت هذه الأحوال لا تفارقه فالصبر لازم له إلى الممات.
وكل ما يلقى العبد في هذه الدار لا يخلو من نوعين:
أحدهما: يوافق هواه ومراده.
والآخر: يخالفه, وهو يحتاج إلى الصبر في كل منهما.
فالنوع الثاني المخالف للهوى...فثلاثة أقسام:
أحدها: ما يرتبط باختياره, وهو جميع أفعاله التي توصف بكونها طاعة أو معصية.
فأما الطاعة فالعبد محتاج إلى الصبر عليها, لأن النفس بطبعها تنفر عن كثير من العبودية...ويحتاج العبد هاهنا إلى الصبر في ثلاثة أحوال:
أحدها: قبل الشروع فيها بتصحيح النية والإخلاص وتجنب دواعي الرياء والسمعة
الحالة الثانية: الصبر حال العمل فيلازم الصبر عن دواعي التقصير فيه والتفريط.
الحالة الثالثة: الصبر بعد الفراغ من العمل, وذلك من وجوه:
أحدها: أن يصبر نفسه عن الإتيان بما يبطله, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ }[البقرة:264]
الثاني: أن يصبر عن رؤيتها والعجب بها والتكبر والتعاظم بها.
الثالث: أن يصبر عن نقلها من ديوان السر إلى ديوان العلانية.
وأما الصبر عن المعاصي فأمره ظاهر, وأعظم ما يعين عليه قطع المألوفات.
القسم الثاني: ما لا يدخل تحت الاختيار, وليس للعبد حيلة في دفعه..وهذا نوعان:
أحدهما: ما لا صنع لآدمي فيه, فله أربع مقامات:
أحدها: مقام العجز والشكوى والتسخط, وهذا لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً
المقام الثاني: مقام الصبر
المقام الثالث: مقام الرضي
المقام الرابع: مقام الشكر.
النوع الثاني: وهو ما أصابه من قبل الناس فله فيه هذه المقامات, وتنضاف إليها أربعة أخر:
أحدها: مقام العفو والصفح.
المقام الثاني: مقام سلامة القلب من إرادة التشفي والانتقام, وفراغه من ألم مطالعة الجناية كل وقت وضيقه بها.
المقام الثالث: مقام شهود القدر, وأنه كان ظالماً بإيصال هذا الأذى إليك, فالذي قدره عليك وأجراه على يد هذا الظالم ليس بظالم.
المقام الرابع: مقام الإحسان إلى المسيء ومقابلة إساءته بإحسانك, وفي هذا المقام من الفوائد والمصالح ما لا يعلمه إلا الله.
القسم الثالث: ما يكون ورده باختياره, فإذا تمكّن لم يكن له اختيار ولا حيلة في دفعه, وهذا كالعشق الذي أوله اختيار وآخره اضطرار.
فهذا كان فرضه الصبر عنه في أوله, فلما فاته بقي الصبر عليه في آخره, وأن لا يطيع داعي هواه ونفسه.
أشق الصبر على النفوس
مشقة الصبر بحسب قوة الداعي إلى الفعل وسهولته على العبد, فإذا اجتمع في الفعل هذان الأمران كأن الصبر عنه أشق شيء على الصابر, وإن فُقدا معاً سهُل الصبر عنه, وإن وجد أحدهما وفُقد الآخر سهُل الصبر من وجه وصعُب من وجه.
ومن اشتد عليه داعية إلى ذلك وسهل عليه فعله, فصبره عنه أشق شيء عليه, ولهذا كان صبر السلطان على الظلم, وصبر الشاب على الفاحشة, وصبر الغني عن تناول اللذات والشهوات عند الله بمكان.
ولذلك استحق السبعة المذكورون في الحديث أن يظلهم الله في ظل عرشه لكمال صبرهم ومشقته.
ولهذا كان عقوبة الشيخ الزاني والملك الكذاب والفقير المختال أشد العقوبة لسهولة الصبر عن هذه المحرمات عليهم لضعف دواعيها في حقهم, فكان تركهم الصبر عنها دليلاً عن تمردهم على الله وعتوهم عليه.
ولهذا كان الصبر عن معاصي اللسان والفرج من أصعب أنواع الصبر لشدة الداعي إليهما وسهولتهما, فإن معاصي اللسان فاكهة الإنسان, كالنميمة, والغيبة, والكذب, والمراء, والثناء على النفس تعريضاً وتصريحاً, وحكاية كلام الناس, والطعن على من يبغضه, ومدح من يحبه ونحو ذلك.
وإذا صارت المعاصي اللسانية معتادة للعبد, فإنه يعز عليه الصبر عنها, ولهذا تجد الرجل يقوم الليل ويصوم النهار...ويطلق لسانه في الغيبة, والنميمة, والتفكه بأعراض الخلق, والقول على الله ما لا يعلم.