فوائد من صيد الخاطر لابن الجوزي (2-4)
من تأمل عواقب المعاصي وجدها قبيحة,...فأف للذنوب ما أقبح آثارها, وما أسوأ أخبارها, فمتى رأيت تكديراً في حالٍ فاذكر نعمة ما شكرت أو زلة قد فعلت.
عقوبات الذنوب الحسية:
من تأمل عواقب المعاصي وجدها قبيحة,...فأف للذنوب ما أقبح آثارها, وما أسوأ أخبارها, فمتى رأيت تكديراً في حالٍ فاذكر نعمة ما شكرت أو زلة قد فعلت.
وأنا أقول عن نفسي: ما نزلت بي آفة أو غم أو ضيق صدر إلا بزلل أعرفه حتى يمكنني أن أقول: هذا بالشيء الفلاني, وربما تأولت فيه بعد, فأرى العقوبة, فينبغي للإنسان أن يترقب جزاء الذنوب فقلَّ أن يسلم منه.
العقوبة قد تتأخر:
الواجب على العاقل أن يحذر مغبة المعاصي, فإن نارها تحت الرماد, وربما تأخرت العقوبة ثم فجأت.فمن الاغترار أن تسيء فترى إحساناً, فتظن أنك قد سومحت, وتنسى: {مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123]
وقد تتأخر العقوبة وتأتي في أخر العمر, فيهان الشيخ في كبره حتى ترحمه القلوب, ولا يدري أن ذلك لإهماله حق الله تعالى في شبابه, فمتى رأيت مُعاقباً فاعلم أنه لذنوب.فبادر بإطفاء ما أوقدت من نيران الذنوب, ولا ماء يطفئ تلك النار إلا ما كان من عين العين.
ذنوب الخلوات تجعل القلوب تبغض فاعلها وتمقته:
من هاب الخلق, ولم يحترم خلوته بالحق, فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى مقادير تلك الذنوب, يفوح منه ريح الكراهية فتمقته القلوب
فإن قلَّ ما جنى قلَّ ذكر الألسن له بالخير, وبقي مجرد تعظيمه.
وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه: إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقى الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر.
الخوف والخجل من الذنوب بعد التوبة منها:
ينبغي للعاقل أن يكون على خوف من ذنوبه وإن تاب منها, وبكى عليها, وإني رأيت أكثر الناس قد سكنوا إلى قبول التوبة, وكأنهم قد قطعوا على ذلك, وهذا أمر غائب, ثم لو غفرت بقي الخجل منها, وهذا أمر قلّ أن ينظر فيه تائب لأنه يرى أن العفو قد غفر الذنب بالتوبة الصادقة.وما ذكرته يوجب دوام الحذر والخجل.
تأخر استجابة الدعاء بلاء يحتاج إلى صبر:
رأيت من البلاء العجاب أن المؤمن يدعو فلا يجاب, فيكرر الدعاء وتطول المدة, ولا يرى أثراً للإجابة, فينبغي له أن يعلم أن هذا من البلاء الذي يحتاج إلى الصبر.
وما يعرض للنفس من الوسواس في تأخير الجواب مرض يحتاج إلى طب.
ولقد عَرَض لي من هذا الجنس, فإنه نزلت بي نازلة فدعوتُ وبالغتُ فلم أر الإجابة, فأخذ إبليس يجول في حلبات كيده.
فقلت له: إخسأ, يا لعين,...ثم عدت إلى نفسي فقلت: إياك...ووسوسته, فإنه لو لم يكن في تأخير الإجابة إلا أن يبلوك..في محاربة العدو لكفى في الحكمة.
الدعاء والذنوب:
لقد رأيت من نفسي عجباً تسأل الله عز وجل حاجاتها وتنسى جنايتها
فقلتُ: يا نفسُ السوء أو مثلك ينطق ؟
فقالت: فمن أطلب مراداتي ؟ قلتُ: ما أمنعك من طلب المراد, إنما أقول حققي التوبة, وانطقي...ونظفي طرق الإجابة من أوساخ المعاصي.
فالله الله من جراءة على طلب الأغراض مع نسيان ما تقدم من الذنوب التي توجب تنكيس الرأس, ولئن تشاغلت بإصلاح ما مضى والندم عليه جاءتك مراداتك.
أسباب تأخر إجابة الدعاء:
لقد ثبت بالبرهان أن الله عز وجل مالك, والمالك يتصرف بالمنع والعطاء, فلا وجه للاعتراض عليه.
والثاني: أنه ثبتت حكمته بالأدلة القاطعة, فربما رأيت الشيء مصلحة, والحق أن الحكمة لا تقتضيه, وقد يخفى وجه الحكمة فيما يفعله الطبيب من أشياء تؤذي في الظاهر يقصد بها المصلحة فلعل هذا من ذاك.
والثالث: أنه قد يكون في التأخير مصلحة, والاستعجال مضرة, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال العبد في خير ما استعجل, يقول: دعوت فلم يستجب لي.
الرابع: قد يكون امتناع الإجابة لآفة فيك, فربما يكون في مأكولك شبهة, أو قلبك وقت الدعاء غفلة أو تزداد عقوبتك في منع حاجتك لذنب ما صدقت في التوبة منه
الخامس: أنه ينبغي أن يقع البحث عن مقصودك بهذا المطلوب, فربما كان في حصوله زيادة إثم, أو تأخير مرتبة خير, فكان المنع أصلح.
السادس: أنه ربما كان فقد ما تفقدينه سبباً للوقوف على الباب واللجأ, وحصوله سبباً للاشتغال به عن المسئول, وهذا الظاهر بدليل أنه لولا هذه النازلة ما رأيناك على باب اللجأ,
فإياك أن تستطيل مدة الإجابة, وكن ناظراً أنه المالك, وإلى أنه الحكيم في التدبير والعالم بالمصالح, وإلى أنه يريد اختبارك, و أن يرى تضرعك, وإلى أنه يريد أن يأجرك بصبرك إلى غير ذلك, وإلى أنه يبتليك بالتأخير لتحارب وسوسة إبليس
وكل واحدة من هذه الأشياء تقوى الظن في فضله وتوجب الشكر له, إذ أهلك بالبلاء الالتفات إلى سؤاله, وفقر المضطر إلى اللجأ إليه غنى كله.
من اتقى الله في الخلوة ظهر أثر ذلك في الجلوة:
إن للخلوة تأثيرات تبين في الجلوة, كم من مؤمن بالله عز وجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذراً من عقابه, أو رجاء لثوابه, أو إجلالا له, فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عوداً هندياً على مجمر فيفوح طيبه, فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو, وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته...فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص وألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لِم,...وقد تمتد هذه الأرابيح بعد الموت على قدرها, فمنهم من يُذكرُ بالخير مدة مديدة ثم ينسى, ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره..ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبداً.
والإنسان قد يخفي..الطاعة فتظهر عليه, ويتحدث الناس بها, وبأكثر منها, حتى إنهم لا يعرفون له ذنباً, ولا يذكرونه إلا بالمحاسن ليعلم أن هناك رباً لا يضيعُ عمل عامل
وإن قلوب الناس لتعرف حال الشخص وتحبه أو تأباه, وتذمه أو تمدحه, وفق ما يتحقق بينه وبين الله تعالى فإنه يكفيه كل هم, ويدفع عنه كل شر.
- التصنيف: