فوائد من صيد الخاطر لابن الجوزي (3-4)
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
النظر في العواقب:تدبرت أحوال الأخيار والأشرار فرأيت سبب صلاح الأخيار النظر, وسبب فساد الأشرار إهمال النظر.
- التصنيفات: طلب العلم -
من فضائل التقوى:
اعلم أن الزمان لا يثبت على حال, كما قال عز وجل: { وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ } [آل عمران:140]فتارة فقر, وتارة غنى, وتارة عز, وتارة ذل, وتارة يفرح الموالي, وتارة يشمت الأعادي, فالسيد من لازم أصلاً واحداً كل حال, وهو تقوى الله عز وجل, فإنه إن استغنى زانته, وإن افتقر فتحت له أبواب الصبر, وإن عوفي تمت النعمة له, وإن ابتلي جملته, ولا يضره إن نزل به الزمان أو صعد, أو أعراه, أو أشبعه, أو أجاعه, لأن جميع تلك الأشياء تزول وتتغير, والتقوى أصل السلامة حارس لا ينام, يأخذ باليد عند العثرة...فلازم لتقوى في كل حال فإنك لا ترى في الضيق إلا السعة, وفي المرض إلا العافية, هذا نقدها العاجل, والآجل معلوم.
التقوى طريق للخلاص من الغموم والهموم:
ضاق بي أمر أوجب غماً لازماً دائماً, وأخذت أبالغ في الفكر في الخلاص من هذه الهموم بكل حيلة وبكل وجه, فما رأيت طريقاً للخلاص, فعرضت لي هذه الآية: {وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا } [الطلاق:3]فعلمت أن التقوى سبب للمخرج من كل غم, فما كان إلا أن هممت بتحقيق التقوى فوجدت المخرج.
حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه:
قدرت في بعض الأيام على شهوة للنفس هي عندها أحلى من الماء الزلال في فم الصادي....وقال التأويل: ما ههنا مانع ولا معوق إلا نوع ورع, وكان ظاهر الأمر امتناع الجواز, فترددت بين الأمرين, فمنعت النفس من ذلك, وها أنا ذا أنتظر من الله عز وجل حسن الجزاء على هذا الفعل...أرجو أن أرى حسن الجزاء على الصبر فأسطره فيه إن شاء الله تعالى, فإنه قد يعجل جزاء الصبر وقد يؤخره, فإن عجل سطرته, وإن أخر فما أشك في حسن الجزاء لمن خاف مقام ربه, فإنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه, وكان هذا في سنة إحدى وستين وخمسمائة, فلما دخلت سنة خمس وستين, عوضت خيراً من ذلك بما لا يقارب مما لا يمنع منه ورع, فقلت: هذا جزاء الترك لأجل الله سبحانه في الدنيا, ولأجر الآخرة خير والحمد لله.
جزاء من حلف اليمين الغموس وهو كاذب:
حضر عندي رجل...فاشتريت منه دكاناً, وعقدت معه العقد, فلما افترقنا غدر بعد أيام, فطلبت منه الحضور عند الحاكم فأبى, فأحضرته فحلف باليمين الغموس أنه ما بعته, فقلت: ما تدور عليه السنة...ودارت السنة فمات الشيخ على قُلّ.
مما يهون البلاء:
من نزلت به بلية فأراد تمحيقها فليتصورها أكثر مما هي تهن, وليتوهم نزول أعظم منها ير الربح في الاقتصار عليها, وليتخيل ثوابها....العوض في الدنيا..وتلمح الأجر في الآخرة, وليتلمح سرعة زوالها فإنه لولا كرب الشدة ما رجيت ساعات الراحة.
لا تظاهر بالعداوة أحداً:
مما أفادتني تجارب الزمان أنه لا ينبغي لأحد أن يظاهر بالعداوة أحداً ما استطاع, فإنه ربما يحتاج إليه مهما كانت منزلته...فكم من محتقر احتيج إليه, فإذا لم تقع الحاجة إلى ذلك الشخص في جلب نفع وقعت الحاجة في دفع ضر, وقد احتجت في عمري إلى ملاطفة أقوام ما خطر لي قط وقوع الحاجة إلى التلطف بهم
واعلم أن المظاهرة بالعداوة قد تجلب أذى من حيث لا يعلم, لأن المظاهر بالعداوة كشاهر السيف ينتظر مضرباً وهذا فصل مفيد تبين فائدته للإنسان مع تقلب الزمان
التعامل بحلم مع الغضبان:
متى رأيت صاحبك قد غضب وأخذ يتكلم بما لا يصلح, فلا ينبغي أن تعقد على ما يقوله خنصراً, ولا أن تؤاخذه به...فإن حاله حال السكران, لا يدري ما يجري.
بل اصبر لفورته, فإن الشيطان قد غلبه, والطبع قد هاج, والعقل قد استتر.
ومتى أخذت في نفسك عليه, أو أجبته بمقتضى فعله كنت كعاقل واجه مجنوناً, أو كمفيق عاتب مغمى عليه, فالذنب لك.
بل انظر بعين الرحمة, وتلمح تصريف القدر له, وتفرج في لعب الطبع به, واعلم أنه إذا انتبه ندم على ما جرى, وعرف لك فضل الصبر.
وهذه الحالة ينبغي أن يتلمحها الولد عند غضب الوالد, والزوجة عند غضب الزوج, فتتركه يتشفى بما يقول, ولا تعول على ذلك, فسيعود نادماً معتذراً.
استغلال الوقت بما ينفع حاضراً وآجلاً.
رأيت عموم الخلائق يدفعون الزمان دفعاً عجيباً.
إن طال الليل فبحديث لا ينفع...وإن طال النهار فبالنوم.
فعلمت أن الله تعالى لم يطلع على شرف العمر ومعرفة قدر أوقات العافية إلا من وفقه وألهمه اغتنام ذلك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35]
قال الفيضل: أعرف من يعدُّ كلامه من الجمعة إلى الجمعة.
ودخلوا على رجل من السلف, فقالوا: لعلنا شغلناك, فقال: أصدقكم كنتُ أقرأ, فتركتُ القراءة لأجلكم.
ومتى لان المزور طمع فيه الزائر, فأطال الجلوس فلم يسلم من أذى.
وقد كان جماعة قعوداً عند معروف, فأطالوا, فقال: إن ملك الشمس لا يفتر في سوقها, أفما تريدون القيام.
ووصى بعض السلف أصحابه, فقال: إذا خرجتم من عندي فتفرقوا, لعل أحدكم يقرأ القرآن في طريقه, ومتى اجتمعتم تحدثتم.
فكم يُضيع الآدمي من ساعات يفوته فيها الثواب الجزيل, قال صلى الله عليه وسلم:« من قال سبحان الله العظيم وبحمده, غرست له بها نخلة في الجنة»
فينبغي للإنسان أن يعرف شرف زمانه, وقدر وقته, فلا يضيع منه لحظة في غير قربة
ويقدم الأفضل فالأفضل من القول والعمل, ولتكن نيته في الخير قائمة.
فإذا علم الإنسان..بأن الموت يقطعه عن العمل, عمل في حياته ما يدوم له أجره بعد موته...فذلك الذي لم يمت* قد مات قوم وهم في الناس أحياء.
النظر في العواقب:
تدبرت أحوال الأخيار والأشرار فرأيت سبب صلاح الأخيار النظر, وسبب فساد الأشرار إهمال النظر.
وذلك أن العاقل...إذا رأى مشتهى تأمل عاقبته فعلم أن اللذة تفني, والعار والإثم يبقيان, فيسهل عليه الترك, وإذا اشتهى الانتقام ممن يؤذيه ذكر ثواب الصبر, وندم الغضبان على أفعاله في حالة الغضب.
ثم لا يزال يتأمل سرعة ممر العمر فيغتنمه بتحصيل أفضل الفضائل فينال مناه.
وأما الغافل فإنه لا يرى إلا الشيء الحاضر.