مؤتمر برلين الثاني الاستعمار الأوربي لإفريقيا
استخدمت كلمة «الاستخراب»، بدلاً من كلمة «الاستعمار»، لأن الأولى تعبِّر عن المدلول الصحيح للاحتلال الأوروبي؛ فحيثما وجد هذا الاحتلال حل الخراب، فهو استخراب، وليس استعماراً، وصاحبه مستخرِب وليس مستعمِراً
أولاً: مرحلة التكالب الأوروبي على إفريقيا:
ويعتبر الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هو فترة التكالب الأوروبي على إفريقيا؛ أي فترة السعي لاستباحة المناطق الداخلية من القارة الإفريقية، بالقوة العسكرية، والهيمنة عليها في كل المجالات: اقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وفكرياً، وثفافياً، وعلمياً، من قِبَل إمبراطوريات استخرابية أوروبية مختلفة، وذلك بعد أن كانوا قد سبروا أغوارها من خلال المستكشفين المغامرين والجواسيس، والبعثات التبشيرية، وبعثات الجمعيات الجغرافية، التي تم تأسيسها لهذا الغرض، وكانت تقارير أولئك المكتشفين والجواسيس وتلك البعثات والجمعيات، المرفوعة لدوائر صنع القرار الأوروبي، أو المنشورة في الصحافة الغربية، تؤكد على الثروات الهائلة التي تتمتع بها القارة، وما فيها من كنوز، وعلى الفرص المتاحة لاستغلالها، وتنصير أهلها، وكانت تلك التقارير والمقالات تحذر أيضاً من المد الإسلامي واسع النطاق في إفريقيا، وخطورة ترك الإسلام ينتشر في ربوعها بين الجماعات الوثنية في الغابات الاستوائية، وغيرها. وقد بدأ ذلك التكالب، مع انتهاء تجارة الرقيق، في منتصف القرن التاسع عشر، بعد أن كانت هذه التجارة الحقيرة، على مدى أكثر من أربعة قرون، قد أدت الغرض منها بالنسبة لمعظم الدول الرأسمالية الأوروبية، وصارت قيداً على زيادة التطور الرأسمالي، ومن ثَمَّ ظهور الحاجة إلى تنظيم الاستغلال المحلي للأراضي والعمل، وَفْقاً للاحتياجات الأوروبية الجديدة في العصر الإمبريالي، بعد الثورة الصناعية التي كانت تتطلب الحصول على المواد الخام، وعمالة رخيصة، وسوق لتصريف المنتجات الصناعية. ويلاحظ أن هذه الموجة الصليبية الاستخرابية الجديدة، قد ركزت في البداية على احتلال الأقاليم العربية الإسلامية من القارة؛ سواء في الشمال، أو الغرب، أو الشرق، لأن هذه الأقاليم كانت هي مركز الثقل، وقطب الرحى، ومنبع المقاومة، ومن ثَمَّ كانت هي القلعة الحصينة التي تحمي الأقاليم الداخلية من القارة، وبسقوطها ستسقط تلك الأقاليم، ولذلك فقد دشنت فرنسا هذه الموجة الصليبية الاستخرابية الجديدة، باحتلالها لتونس عام 1881م بعد أن كانت قد احتلت الجزائر عام 1830م، وتوغلت في غرب إفريقيا، ذات الأغلبية المسلمة عام 1870م، ثم باحتلال بريطانيا لمصر عام 1882م، وهو الاحتلال الذي أدى إلى إنهاء الوجود المصري في شرق إفريقيا، والسودان، وحلول الوجود البريطاني محله، وتحرك فرنسا من مستعمراتها في السنغال، جنوباً نحو أعالي النيجر في غرب إفريقيا، ردّاً على ذلك. وكان إنشاء (ليوبولد الثاني) ملك بلجيكا (1865 - 1909م) للمنظمة الإفريقية العالمية، ذات الأهداف الإنسانية المعلنة عام 1877م، وتطلعه لاستباحة الكونغو، ذات الموارد الهائلة في قلب القارة، كان ذلك قد أدى إلى إثارة غيرة وحسد كلٍّ من فرنسا وبريطانيا، أكبر إمبراطوريتين استخرابيتين صليبيتين آنذاك، الأمر الذي أدى إلى تحرك فرنسا للدخول في سباق مع بلجيكا، لاستباحة الكونغو... كما وقفت بريطانيا والبرتغال في وجه مشاريع بلجيكا في الكونغو، وهنا رأت الإمبراطورية الألمانية الصاعدة، أن لها الحق في نصيب من الغنيمة، فأسرعت باحتلال أجزاء واسعة من غرب إفريقية في أبريل 1884م، وإعلان حمايتها على أجزاء أخرى من القارة، وعلى رأسها الكاميرون، الأمر الذي أثار فزع ومخاوف إنجلترا، نتيجة لمزاحمة ألمانيا لها بعد فرنسا. وهكذا بدأت في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، موجة جديدة من الاستخراب الأوروبي تجتاح القارة الإفريقية التي صارت نهباً مستباحاً، والتي كان يُطلَق عليها، وقتذاك «أرض بلا صاحب» من قبل القوى الأوروبية.
ثانياً: انعقاد مؤتمر برلين الثاني وطبيعته:
وفي خضم ذلك التكالب الاستخرابي على إفريقيا، ولكي لا يتحول التنافس بين القوى الأوروبية عليها إلى حروب طاحنة تأكل الأخضر واليابس، كتلك التي صاحبت استخراب الأمريكيتين، دعا الزعيم الألماني بسمارك (1863 - 1890م) في حزيران عام 1884م لعقد مؤتمرٍ للدول الأوروبية، في برلين، لأجل وضع خريطة تقسيم القارة الإفريقية على الطاولة، وتقنين السباق الاستخرابي الأوروبي عليها، وتحديد لكل دولة من هذه الدول الاستخرابية حدود مستخرباتها الجديدة، أو بالأحرى، تحديد من الذي يستبيح هذا الجزء أو ذاك من قارة إفريقيا، وبحيث يكون للإمبراطورية الألمانية الصاعدة، نصيب من هذه الكعكة، ويكون لها وجود عسكري مباشر، تستطيع من خلاله حماية مصالح الرأسماليين الألمان، والبعثات التبشيرية الألمانية هناك، وقد بدأت بالظهـور في بعض مناطـق إفريقيا، كشـرق إفريقيا، وتوغو، والكاميرون قبل توحيد بسمارك لألمانيا عام 1870م، بجهود خاصة بذلتها الشركات التجارية الألمانية، والكنيسة البروتستانتية الألمانية. وقد انعقد المؤتمر[2] فعلاً في 15 تشرين الثاني 1884م، وشاركت فيه 13 دولة أوروبية هي: ألمانيا، وفرنسا، وإنجلترا، والنمسا، والمجر، وبلجيكا، والدنمارك، والسويد، والنرويج، وإسبانيا، وهولندا، وإيطاليا، والبرتغال، كما حضرته الولايات المتحدة الأمريكية بصفة مراقب، وحضرته أيضاً الدولة العثمانية، كـ (ديكور) لإضفاء الطابع الدولي عليه، وقد اختارت كل دولة أوروبية، واحداً من الرأسماليين العتاة لديها، وأكثرهم دهاء، وجشعاً، وصفاقة، وتجرداً من المروءة والإنسانية، ليمثلها في هذا المؤتمر الغريب والفريد من نوعه؛ فقد كان أشبه باجتماع زعماء العصابات (المافيا)[3] لتوزيع الغنيمة من المواد المسروقة، التي اشتركوا في سرقتها معاً، وكل منهم يريد أن يكون نصيبه هو الأكبر من تلك الغنيمة، وأن لا تشمله القرعة، بل يترك له المجال، لكي يأخذ النوع الذي يشاء منها، مع الفارق الجوهري، وهو أن هؤلاء اللصوص (المتحضرين)، يتفاوضون علناً، وجهاراً نهاراً، حول استباحة قارة بأكملها، تزيد مساحتها عن مساحة قارة أوروبا كلِّها 10 مرات تقريباً، أنهارها وبحارها وجبالها وسماؤها وأرضها، وما في بطن هذه الأرض من موارد وثروات، مع تغييب كامل لمن عليها من بشر، وكأن هؤلاء البشر ليسوا موجودين على ظهرها، بل كأنهم ليسوا بشراً، إنما مجرد دواب تسير على الأرض، وليس لهم أحلام، ولا طموحات، ولا تاريخ، ولا ثقافات، ولا منظمات، ولا مؤسسات... والحقيقة أن هؤلاء البشر، كانوا جزءاً من الغنيمة، ولم تكتمل القسمة إلا بهم، لأنهم سيكونوا عمال سخرة، يستخدمهم الرجال البيض (سادتهم المتحضرون)، لاستنزاف موارد بلادهم، لزيادة أرباح حفنة من هؤلاء الرأسماليين البيض، ولكي يعملوا على رفاهيتهم، بطرق استغلالية بشعة بل متوحشة، كما سيكون لهم الحق في التصرف فيهم بيعاً، وقتلاً، واستعباداً، كما يشاؤون. ونتيجة لذلك، ونظراً لشراهة هؤلاء اللصوص (المتحضرين) وشهياتهم المفتوحة على الآخر للسلب والنهب، مع تعارض مصالح بلدانهم، فقد استمرت مداولات المؤتمر وقتاً طويلاً، وحدثت فيه حالات استقطاب، وتكتلات، ومفاوضات ثنائية وثلاثية ورباعية، حتى اختتم المؤتمر أعماله في 26 شباط 1885م، بعد حوالي 100 يوم، من بَدء انعقاده، وما كان المؤتمر ليستغرق هذه الفترة الطويلة، لو لم تكن الغنيمة ضخمة جداً. ولذا يعتبر هذا المؤتمر أطول وأغرب مؤتمر في التاريخ.
ثالثاً: قرارات مؤتمر برلين الثاني ونتائجه:
وقد جاء البيان الختامي لمؤتمر برلين الثاني في 38 مادة، تضمنت إقرار كل دولة أوروبية على ما تحت يدها من مستخربات في إفريقية، كانت قد استباحتها قبل انعقاد المؤتمر، كما أقر المؤتمر أن أي دولة أوروبية لها الأولوية في استباحة أي منطقة إفريقية كان لها أو لشركاتها التجارية أو لبعثات كنائسها التبشيرية، نفوذ عليها من قبل، واعترف المؤتمر بحق الملك ليوبولد الثاني ملك بلجيكا، في استباحة الكونغو التي أطلق عليها اسماً فضفاضاً، وهو «دولة الكونغو الحرة». وكانت الكونغو هذه وجبة دسمة حصل عليها هذا الملك الجشع، ومتحجر القلب، نظراً للثروات الهائلة التي تتمتع بها الكونغو، والتي تعادل مساحتُها مساحة غرب أوروبا كله، وتزيد عن مساحة بلجيكا البالغة 11878ميلاً مربعاً عشرات المرات. وقد حدث ذلك بعد أن حصل الملك ليوبولد على دعم أمريكا مقابل أن يترك باب الكونغو مفتوحاً أمام التجارة الأمريكية، ومنذ ذلك التاريخ بدأت المصالح الأمريكية في إفريقيا. وأعطى المؤتمر الدول الأوروبية الحق في استباحة أي جزء من القارة، لم يكن قد استبيح من قَبْل، من قِبَل أي دولة أوروبية أخرى، شريطة إعلام بقية الدول الأوروبية الموقِّعة على ميثاق المؤتمر بذلك، وهو ما هيَّأ الفرصة أمام ألمانيا لانتزاع المزيد من الأراضي الإفريقية. كما نص البيان الختامي للمؤتمر على حرية التجارة والملاحة في حوضَي نهري الكونغو والنيجر، مع التأكيد على الاستمرار في مكافحة تجارة الرقيق، إلى جانب العديد من المواد الأخرى، التي قصد منها إضفاء الطابع الإنساني المتحضر على الاحتلال.
وأخيراً وليس آخراً، اعترف المؤتمر لأول مرة بقوة محلية إفريقية هي الحبشة، لكونها مملكة نصرانية، وأعطاها الحق في استباحة أراضي الإمارات الإسلامية التي كانت تتركز على الساحل الإفريقي وقتذاك، والتي كانت تعرف بإمارات الطراز الإسلامي، وقد كان. وعلى إثر ذلك، ظهرت الحبشة قوةً إقليمية كبرى في المنطقة، وتم تحويل اسمها إلى (إثيوبيا)، وبخاصة على يد الإمبراطور منليك (1889 - 1913م) الذي بزغ نجمه بمساعدة الإمبراطوريات الأوروبية.
وبناء على ذلك، فقد سارعت الإمبراطوريات الأوروبية باستباحة باقي مناطق القارة الإفريقية، وبخاصة الإمبراطوريات الأربع العظمى، وقتذاك، وهي بريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وانتهت هذه المرحلة باحتلال إيطاليا لليبيا عام 1911م، واحتلال فرنسا للمغرب عام 1912م. وهكذا صارت سبع دول أوروبية استخرابية، وهي: بريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، والبرتغال، وإسبانيا، وبلجيكا (مساحتها مجتمعة 734000 ميل مربع)، تستبيح أكثر من 93% من الأراضي الإفريقية (مساحتها 11300000 ميل مربع )، أي ما يعادل 15 ضعفاً لمساحة تلك الدول مجتمعة، ولم يتبقَ بكل إفريقيا دول مستقلة، سوى الحبشة وليبيريا، وحتى هذه الأخيرة، كانت تحت الحماية الأمريكية غير المباشرة. وكان الجزء الأكبر، من القارة تحت سيطرة بريطانيا وفرنسا (حوالي 67%). وقد تمت عملية التقاسم هذه، طبقاً لمصالح القوى الاستخرابية الأوروبية، ودون أي اعتبار لمصالح، وأديان، وثقافات، ووحدة الشعوب والقبائل الإفريقية، هذه الشعوب والقبائل، التي دفعت ثمناً باهظاً لذلك الاحتلال، ثم أصبحت بعد الاستقلال المزعوم، تعاني من التمزق والتجزئة والصراعات الداخلية، وسوء التغذية، وضياع الهوية، وأعمال الإبادة الجماعية، التي ترتكب في كثير من أنحائها، وبخاصة ضد المسلمين، لتفريغ القارة منهم، وتلك الحدود المصطنعة، التي قسمت أبناء القبيلة الواحدة بين أكثر من وحدة سياسية.
رابعاً: مبررات الأوروبيين لاستخراب إفريقيا:
وقد استخدمت القوى الأوروبية الاستخرابية، العديد من الذرائع لتسويغ استباحتها للأقاليم الإفريقية، ونهب ثرواتها، وقهر واستعباد وإبادة الكثير من شعوبها. وعلى هذا الأساس انعقد مؤتمر برلين الثاني، فكل الدول الأوروبية الاستخرَابية، التي شاركت فيه، روجت حينذاك إلى أن الهدف من هذا الاجتماع إنساني، يتعلق بمكافحة تجارة الرقيق، وتعمير القارة الإفريقية، ونشر الحضارة فيها، وحفظ الأجناس البدائية في أنحائها، ورعاية مصالحهم، والعمل على ترقيتهم مادياً ومعنوياً، وكلها مسوغات زائفة؛ فلم يعرف الناس لهذا الاحتلال سوى الخراب والدمار. فقد زعمت بريطانيا العظمى التي كانت قد حظرت تجارة العبيد عام 1807م، أن إنهاء (تجارة الرقيق العربية)، هو سبب استباحتها لمناطق شرق إفريقيا المسلمة، مثل زنجبار وشمال الصومال وكينيا، كما أنها خصصت لمكافحة الرق أسطولاً حربياً ظل مرابطاً أمام سواحل غرب إفريقيا لمطاردة السفن التي تحمل العبيد، وبهذه الذريعة تمكنت بريطانيا من توطيد نفوذها في مناطق غرب إفريقيا أيضاً، وبخاصة في منطقة ساحل الذهب (غانا حالياً). وهذه الذريعة السخيفة نفسها (أي مكافحة الرق)، هي التي استخدمها ليوبولد الثاني ملك بلجيكا لاستباحة الكونغو، ولكي يفرض على شعبها (عملاً إجبارياً وعبودية حديثة)، إلى جانب رفعه لشعارات تثقيف الأفارقة المساكين، وتدريبهم على إدارة بلادهم، وإدخالهم في النصرانية، لدرجة أنه استضاف مؤتمراً دولياً لمناهضة العبودية، في بروكسل في تموز 1890م، وذكر التقرير الصادر عن هذا المؤتمر أن ثمة رغبة مؤكدة للقوى التي حضرت المؤتمر في أن تحمي الأجناس المحلية في إفريقيا من العبودية والاضطهاد. وقد رفعت ألمانيا صوتها عالياً في هذا المؤتمر: أن لا لتجارة العبيد، الأمر الذي جعل البريطانيين يثنون عليها، ويباركون دخولها في مجال الاستخراب العالمي، باعتبارها، كما جاء في التقرير، «شريكاً في العمل العظيم الخاص بتمدين الأجناس المتخلفة والوثنية، في الأرض الإفريقية». وقد زعم بعض الكتاب الفرنسيين، أن فرنسا لها رسالة إنسانية حضارية، وهي نشر المدنية والتحديث في الجهات غير المتحضرة، وإنقاذ إفريقيا التي يشتغل أبناؤها بتجارة العبيد، ويأكلون بعضهم بعضاً، ويقدمون الروح الإنسانية قرباناً لآلهتهم، ووصلت سخرية فرنسا بالشعوب التي استخربتها مع صدور قانون 23 شباط 2005م، الذي يمجد الاستعمار بوصفه (عملاً إيجابياً)! بل إن البرتغال - وهي بلد أوروبي فقير، ومتخلف، في العصر الإمبريالي، ولا تملك الإمكانيات الفنية لتطوير الصناعة والزراعة في مستخرَباتها - كانت تزعم، بكل وقاحة، أنها قادرة على تمدين الشعوب الإفريقية. وبلغت المغالطة بالأوروبيين المستخرِبين، الذين حققوا رفاهيتهم ورخاءهم على حساب مأساة الأفارقة، وتعاستهم، وشقائهم، وقامت حضارتهم المعاصرة على عظامهم وجماجمهم إلى حد القول: «إن (الاستعمار) جاء إلى إفريقيا بسبب احتياجات إفريقيا، أكثر مما هو بسبب احتياجات أوروبا». وقد ادعت بعض الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا أن (الاستعمار)، ضروري لها لإعادة توطين الفائض من سكانها، لكن ثبت زيف هذا الادعاء أيضاً؛ فعندما لم تجد هذه الدول من أبنائها من يرغب في أن يهاجر بمحض إرادته إلى تلك (المستعمرات)، عمدت إلى إرسال المجرمين المحكوم عليهم في قضايا جنائية إليها بدلاً منهم، ولم تكتف بإرسال المجرمين من رعاياها إلى تلك (المستعمرات)، وإنما أرسلت أيضاً المجرمين من رعايا دول أوروبية أخرى، وقامت باغتصاب الأراضي الزراعية الخصبة والثروة الحيوانية، التي يمتلكها السكان المحليون، وأعطتها لهم.
خامساً: الإسلام والاستخراب الأوروبي لإفريقيا:
لـم تتـم عمليـة اسـتباحة قـارة إفريقيـا بمعـزل عـن صراع الأوروبيين مع الإسلام، فغداة احتلال فرنسا للجزائر عام 1830م، خاطب شارل العاشر (1757 - 1836م) ملك فرنسا ملوك أوروبا في رسالة وجهها لهم قائلاً: «إن احتلال الجزائر هو لصالح النصرانية كلها». بل كان هذا السبب يأتي في مقدمة الأسباب بالنسبة لدول صليبية مثل البرتغال وإسبانيا، اللتين خاضتا حروباً دينية طويلة ضد المسلمين، في الأندلس، انتهت بسقوط الحكم الإسلامي، واقتلاع شجرة الإسلام من جذورها، من هناك، وبعد ذلك صار المسلمون هدفاً للمطاردة في كل مكان من قِبَلهما، وبخاصة في إفريقيا، وذلك أن الملكة الكاثوليكية المتعصبة إيزابيلا (1451 - 1504م)، حثت في وصيتها الكاثوليك على ضرورة غزو المغرب وتحويل أهله إلى الدين النصراني. وهذا هو السبب في احتلال مدينتي سبتة ومليلة في شمال المغرب، من قِبَل البرتغال وإسبانيا، وبقائهما تحت سيطرة الاستخراب الإسباني حتى اليوم.
وبعد مؤتمر برلين الثاني، وفي إطار حربهم الشرسة على الإسلام واللغة العربية قام المستخربون الأوروبيون، بفصل شرقي إفريقيا عن الجزيرة العربية، وفصل غرب إفريقيا عن المغرب العربي، وفصل جنوب السودان عن شماله، وتكاملت سياستهم في هذا المجال، وكل ذلك حتى يحدُّوا من نفوذ اللغة العربية في هذه البلدان، وحتى ينزعوا الإسلام عن الهوية الإفريقية.
وتظهر هذه القضية عندما نعلم أن معظم القادة العسكريين الذين قادوا الجيوش الأوروبية لاستباحة إفريقيا، كانوا من النصارى المتطرفين، من أمثال الجنرال (غوردون باشا) الذي لعب دوراً هاماً في تصفية الوجود العربي الإسلامي في جنوب السودان، والنقيب (ليوقارد) الذي قام بدور هام في تصفية الوجود العربي في نيجيريا، والرائد (مكدونالد) الذي لعب دوراً هاماً في تصفية الوجود العربي الإسلامي في أوغندا، وقد افتخر هذا الأخير، في كتابه (عشر سنوات في شرق إفريقيا) بأنه قدم للنصرانية أكبر عمل تبشيري، ألا وهو (اجتثاث) ما أسماه (الجرثومة العربية) أي الإسلام والمسلمين في أوغندا. وقد أزالت الدول الاستخرابية الأوروبية لإفريقيا دولاً وإمارات إسلامية بأسرها من غرب القارة، وشرقها، أبرزها دولة الخلافة الإسلامية في سكوتو في المنطقة المعروفة حالياً بـ (شمال نيجيريا)، التي كانت ثمرة للحركة الإصلاحية السلفية، التي قادها الشيخ عثمان بن فودي (1754 - 1817م)، والتي قضى عليها البريطانيون عام 1903م، بمعاونة فرنسا وألمانيا. وكان ذلك بعد معارك عنيفة، استمرت فترة طويلة؛ فقد كان المسلمون الأفارقة، هم من رفع راية المقاومة للتصدي للاستخراب الأوروبي لإفريقيا، ولكن المسلمين - سواء كانوا دولاً أو جماعات - هزموا في النهاية، نظراً للأسلحة الفتاكة التي كان يملكها المستخرِب الصليبي، مقابل الأسلحة البدائية التي واجهوه بها، وأيضاً نظراً لعدم قدرة الحكام المسلمين الأفارقة، على التوحد لمواجهة هذا التحدي المصيري؛ خاصة مع تطبيق المستخربين لسياسة فرق تسد، وضرب الشعوب الإفريقية بعضها ببعض، فأقامت الدول الأوروبية مستخرباتها في إفريقيا على أنقاض تلك الدول والإمارات الإسلامية، وغيرها. وبعد إزالة نفوذ المسلمين السياسي، شرعت تلك القوى الاستخرابية في الحرب المنظمة على اللغة العربية، لأنها لغة القرآن الكريم، ولغة الدعوة الإسلامية، واللغة التي يتحدث بها المسلمون الأفارقة، والتي أيضاً بحروفها تُكتَب أشهر اللغات الإفريقية، وهي اللغة السواحلية، ولغة الهوسا، ولا يمكن القضاء على الإسلام، إلا إذا تم القضاء عليها[4].
[1] استخدمت كلمة «الاستخراب»، بدلاً من كلمة «الاستعمار»، لأن الأولى تعبِّر عن المدلول الصحيح للاحتلال الأوروبي؛ فحيثما وجد هذا الاحتلال حل الخراب، فهو استخراب، وليس استعماراً، وصاحبه مستخرِب وليس مستعمِراً، والأرض التي يحتلها مستخرَبة وليست مستعمرَة، وأهلها مستخرَبين وليسوا مستعمرَين، لأنه يخرب بلدانهم ويخرب ثقافاتهم وأفكارهم وعقائدهم وحياتهم.
[2] أطلق على هذا المؤتمر اسم (مؤتمر برلين الثاني)، تمييزاً له عن مؤتمر برلين الأول، الذي عقد عام 1878م، لتقرير مصير دول البلقان، بعد هزيمة الدولة العثمانية، في الحرب ضد روسيا القيصرية، وهبوب رياح الانبعاث القومي في هذه البلدان.
[3] وبعد ذلك بحوالي 13 سنة، وتحديداً في عام 1897م، انعقد المؤتمر الصهيوني الأول، في سويسرا ، وقرر استباحة فلسطين بالطريقة نفسها، ولكن اليهود كانوا أذلَّ وأحقر وأجبن من أن يغزوا فلسطين بأنفسهم، ولذلك فقد استباحوها بعد أن امتطوا ظهور عبَّاد الصليب من الجنود البريطانيين وغيرهم.
[4] تناولت هذا الموضوع في مقال مستقل تحت عنوان (الاستعمار الأوروبي وسياسة اقتلاع العربية من إفريقيا السمراء)، منشور بموقع مجلة البيان في 7
- 4 - 2019م، رابطhttp://www.albayan.co.uk/Article2.aspx?id=6627 .
الكاتب: الأستاذ أحمد الظرافي
مجلة البيان العدد 386
- التصنيف:
- المصدر: