إياك أن يزينه لك فتندم
هبة حلمي الجابري
والعجيب أننا نرى من يرتدي ثوب الحَكَم، ويُسقط هذه الآيات على غيره، ويرى نفسه المقياس الصحيح الذي لا يحيد ولا يخطئ، وهو للخوف من هذه الآيات من غيره أحوج.
- التصنيفات: دعوة المسلمين -
لطالما دبَّتِ الرهبة في أوصالي كلما قرأت قول الله تعالى: ﴿ {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } ﴾ [فاطر: 8]، وورد ذلك المعنى الذي ينبغي أن نتوقف عنده جميعًا في سورة الأنعام؛ يقول تعالى: ﴿ {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ﴾ [الأنعام: 108]، ويقول سبحانه في سورة الأنعام أيضًا: ﴿ {كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ﴾ [الأنعام: 122].
هل أدركنا خطورة هذا الأمر؟ هل توقفنا لبرهة وسألنا أنفسنا: يا تُرى أأفكارنا وأقوالنا وأفعالنا على صواب أم زُينت لنا بسبب معاصينا أو عوامل أخرى نفسية أو مجتمعية أو غيرها؟
هل أقنَعَنا الشيطان أن قراراتِنا وأعمالَنا هي الحق، والتي ربما كانت أبعد ما تكون عن العقل؟ يقول تعالى في سورة الأنعام: ﴿ {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ} ﴾ [الأنعام: 137]، ثم نقرأ قول الله تعالى في سورة الغاشية: ﴿ {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } ﴾ [الغاشية: 2 - 5]؛ فنتذكر كم من راهب أو صاحب بدعة وضلالة يتعبد ليل نهار، يجتهد ويتعب، ثم يكون مصيره إلى النار! فقد زين له الشيطان سوء عمله فرآه حسنًا، فخسر وخاب.
يا لها من نهاية مؤلمة! يا لها من حسرة وندامة! حينما نقرأ قول الله تعالى في سورة الكهف: ﴿ { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} ﴾ [الكهف: 103، 104].
حينما نتكلم عن الأقوال والأعمال نرى من يقوم بالمعصية، بل ويدعو لها، وينفر من الطاعة بكل إخلاص؛ ظنًّا منه أنه على صواب ويدعو إلى خير.
تُحدِّثه عن حكم الشرع في الاحتفال بأعياد غير المسلمين فيجادل، نراه يحارب تغطية الوجه والستر بكل ما أوتي من قوة، وفي المقابل يرى العريَ حريةً شخصية.
ولكن قد نجد من يعلم أنه على خطأ، يدرك أنه على معصية، لكن نفسه الضعيفة تعجز عن انتشاله من ذلك الخطأ، غير قادرة عن منعه عن تلك المعصية.
أما حين ننتقل للحديث عن الأفكار، فسنجدها أمورًا راسخة ثابتة في الذهن، يصعب تغييرها والتأثير عليها حين تبسط سيطرتها على العقل، وقد تشد وثاقه وتحجب عنه رؤية الحق، سواء كان ذلك في أمور الشرع والعقائد أو حتى المعاملات والعلاقات والخصومات.
تُنتهك حرمات، وتُهدم بيوت، وتُقطع أرحام، وتُنهى علاقات، وهو على يقين بأن ما يفعله هو الصواب، وكل من يحاول نصحه؛ إما أنه لا يفقه شيئًا من أمور الحياة، أو لا يعرف خفايا الأحداث وما يثور في داخله من إحساس بالظلم، ولا بد أن يأخذ حقه ويعاقب المسيء، أو يعتبر الناصح عدوًّا يكره له الخير.
لم يتوقف لحظة ليزِنَ أفعاله بميزان الشرع، ويتروى ليحسب العواقب، ويكون معه للنجاة من الزلل قوارب؛ فلعل من يحاوره له من الصواب جانب، أو يكون لبعض الحقوق عليه صاحب، وقد أعماه الغضب من أن يرى بعض الحقائق، وإن توقف، يتوقف ليأتي لنفسه بالبرهان، ويُقنِع غيره أنه لو فعل غير ذلك لهان.
والمحزن أن البعض يلوي النصوص، ويرى أنه ينطلق من منطلق الدين، ويتحدث بلسان الشرع، وهو بعيد كل البعد عن تعاليمه ومقاصده.
والعجيب أننا نرى من يرتدي ثوب الحَكَم، ويُسقط هذه الآيات على غيره، ويرى نفسه المقياس الصحيح الذي لا يحيد ولا يخطئ، وهو للخوف من هذه الآيات من غيره أحوج.
إن علينا أن نترك لأنفسنا الباب مفتوحًا لمراجعة النفس ومحاسبتها، والأخذ بزمامها؛ لكيلا تحيد عن الطريق المستقيم، ولنحذر تزيين الأعمال من ألد الأعداء: النفس، والشيطان.
اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه، ونسألك اللهم ألَّا نَظلم أو نُظلم.