كلام ابن الجوزي على بعض الآيات في كتابه "التبصرة" -2
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
دخلت ابنة النعمان بن المنذر على معاوية فقال لها: أخبرني عن حالكم كيف كان ؟ قالت: أمسينا مساءً وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا ويرهب منا, فأصبحنا صباحاً وليس في العرب أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه.
- التصنيفات: طلب العلم -
الكلام على قوله تعالى: {وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا}
الويل كل الويل لعاق والديه, والخزى كل الخزى لمن ماتا غضبانين عليه, أف له هل جزاء المحسن إلا الإحسان إليه أتبع الآن تفريطك في حقهما أنيناً وزفيراً{ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا }
كم آثراك بالشهوات على النفس, ولو غبت ساعة صارا في حبس, حياتهما عندك بقايا شمس, لقد راعياك طويلاً فارعهما قصيراً.
كم ليلة سهرا معك إلى الفجر, يداريانك مدارة العاشق في الهجر, فإن مرضت أجريا معك دمعاً لم يجر.
يعالجان أنجاسك ويحبان بقاءك, ولو لقيت منهم أذى شكوت شقاءك, ما تشتاق لهما إذا غابا ويشتاقان لقاءك, كم جاعاك حلواً وجرعتهما مريراً.
أتحسُن الإساءة في مقابلة الإحسان, كيف تعارض حسن فضلهما بقبيح العصيان, ثم ترفع عليهما صوتاً جهيراً.
تحب أولادك طبعاً فأحبب والديك شرعاً, وارع أصلاً أثمر لك فرعاً, واذكر لطفهما بك وطيب المرعى أولاً وأخيراً.
تصدق عنهما إن كانا ميتين, واقض عنهما الدِّين, واستغفر لهما, واستدم هاتين الكلمتين: ) {وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا }
الكلام على قوله تعالى: {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ}
لله أقوام امتثلوا ما أمروا, وزجروا عن الزلل فانزجروا, فإذا لاحت الدنيا غابوا, وإذا بانت الآخرة حضروا.
جن عليهم الليل فسهروا, وطالعوا صحف الذنوب فانكسروا, وطرقوا باب المحبوب واعتذروا, وبالغوا في المطلوب ثم حذروا.
ربحوا والله وما خسروا, وعاهدوا على الزهد فما غدروا, وتفقدوا أنعم المولى فاعترفوا وشكروا.
جدوا فليس فيهم من يلعب, عيونهم تنظر بالتقى من طرف خاشع, كم شهوة في صدورهم انكسرت, أخبارهم تحيي القلوب إذا نشرت.
الكلام على قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ}
يا لها من ساعة لا تشبهها ساعة, يندم فيها أهل التقى فكيف أهل الإضاعة, يجتمع فيها شدة الموت إلى حسرة الفوت.
لما احتضر معاذ جعل يقول: اللهم إني كنت أخافك, وأنا اليوم أرجوك, اللهم إنك تعلم إني لم أكن أحب الدنيا لكرى الأنهار ولا لغرس الأشجار, ولكن لظمأ الهواجر, ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
ولما احتضر أبو هريرة بكي, فقيل له: وما يبكيك ؟ فقال: بعد المفازة وقلة الزاد وعقبة كئود, المهبط منها إلى الجنة أو النار.
وقيل لحذيفة في موته: ما تشتهي ؟ قال: الجنة, قيل: فما تشتكي: الذنوب.
ولما احتضر الرشيد أمر بحفر قبره ثم حُمل إليه, فاطلع فيه فبكى, ثم قال: يا من لا يزول ملكه, ارحم من قد زال ملكه.
الكلام على قوله تعالى: {إنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ }
ما أشرف من أكرمه المولى العظيم, وما أسعد من خصَّه بالتشريف والتعظيم, وما أقرب من أهَّله للفوز والتقديم, وما أجلَّ من أثنى عليه العزيز الرحيم.
نعموا في الدنيا بالإخلاص في الطاعة, وفازوا يوم القيامة بالربح في البضاعة, وتنزهوا عن التقصير والغفلة والإضاعة, ولبسوا ثياب التقى وارتدوا بالقناعة, فيا فخرهم إذا قامت الساعة, وقربت لهم مطايا التكريم.
أولئك هم المختارون الصفوة, الصدقُ قرينهم, والصبر نديمهم.
طال ما تعبت أجسامهم من الجوع والسهر, وكفت جوارحهم عن اللهو والأشر, وحبسوا أعراضهم عن الكلام والنظر, وانتهوا عما نهاهم وامتثلوا ما أمر, وتغنوا بكلامه والقلب قد حضر, واستعدوا من الزاد ما يصلح للسفر.
قصورهم في الجنان عالية, وعيشتهم في القصور صافية.
كانوا في الدنيا على المجاهدة يصرون, وفي دياجي الليل يسهرون, ويصومون وهم على الطعام يقدرون, ويسارعون إلى ما يرضى مولاهم ويبادرون, فشُكِر من راح منهم وغدا, فهم غداً {عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ}
كانوا يفرحون بالليل إذا أقبل ودنا, ويرفضون الدنيا لعلمهم أنها تصير إلى الفنا, ويُخلصون الأعمال من شوائب الآفات, ويحاربون الشيطان بسلاح من التقى, أقطع من السيف, وأقطع من القنا.
يا حسنهم والوالدان بهم يحفون, والملائكة بهم يزفون, والخدام بين أيديهم يقفون, وقد أمنوا ما كانوا يخافون, وبالحور العين الحسان في خيام اللؤلؤ يتنعمون, وعلى أسِرّة الذهب والفضة يتزاورون, والوجوه النضرة يتقابلون.
الكلام على قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }
إخواني: الدنيا دار عبرة, ما وقعت فيها حبرة إلا وردفتها عبرة, كم عزيز أحببنا دفناه وانصرفنا, كم مؤانس أضجعناه في اللحد وما وقفنا.
أين كثير المال الطويل الأمل, أما خلا في لحده وحده بالعمل.
أين من جر ذيل الخيلاء غافلاً ورفل, أما سافرنا إلى الآن وما قفل.
أين الجبابرة الأكاسرة العتاة الأول, ملك أموالهم سِواهم والدنيا دول.
كم من ظالم تعدى وجار, فما راعى الأهل ولا الجار, بينا هو يعقد عقد الإصرار حلَّ به الموت فحل من حُلته الأزرار, ما صحبه سوى الكفن إلى بيت البلى, لو رأيته وقد حلت به المحن, وشِين ذلك الوجه الحسن, فلا تسأل كيف صار..هجره نسيبه ووديده, وتفرقه حشمه وعبيده.
أين مجالسه العالية, أين عيشته الصافية, تقطعت به جميع الأسباب, وهجره القرناء والأحباب, وصار فراشه الجندل والتراب.
دخلت ابنة النعمان بن المنذر على معاوية فقال لها: أخبرني عن حالكم كيف كان ؟ قالت: أمسينا مساءً وليس في العرب أحد إلا وهو يرغب إلينا ويرهب منا, فأصبحنا صباحاً وليس في العرب أحد إلا ونحن نرغب إليه ونرهب منه.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ