فوائد من كتاب تلبيس إبليس لابن الجوزي (3-4)
ومن تلبيسه عليهم: أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات ومنهم من يقلل المطعم حتى يبس بدنه, ويعذب نفسه بلبس الصوف, ويمنعها الماء البارد, وما هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا طريق أصحابه وأتباعهم.
تلبيس إبليس على العباد في العبادات
فأول تلبيسه عليهم إيثارهم التعبد على العلم, والعلم أفضل من النوافل, فأراهم أن المقصود من العلم العمل, وما فهموا من العمل إلا عمل الجوارح, وما علموا أن العلم عمل القلب, وعمل القلب أفضل من عمل الجوارح.
فلما مر عليهم هذا التلبيس, وآثروا التعبد بالجوارح على العلم, تمكن من التلبيس عليهم في فنون التعبد.
تلبيسه عليهم في الوضوء:
فمنهم من لبس عليه في النية فتراه يقول: أرفعُ الحدث, ثم يقول: أستبيحُ الصلاة, ثم يعيد فيقول: أرفع الحدث, وسبب هذا التلبيس الجهلُ بالشرع, لأن النية بالقلب لا باللفظ, فتكلف اللفظ أمر لا يحتاج إليه ثم لا معنى لتكرار اللفظ.
تلبيسه عليهم في الأذان:
من ذلك التلحين في الأذان, وقد كرهه مالك بن أنس وغيره من العلماء كراهية شديدة, لأنه يخرجه عن موضوع التعظيم إلى مشابهة الغناء, ومنه أنهم يخلطون الأذان للفجر بالتذكير والتسبيح والمواعظ, ويجعلون الأذان وسطاً فيختلط. وقد كره العلماء كُلَّ ما يُضافُ إلى الأذان.
تلبيسه عليهم في الصلاة:
فمن ذلك تلبيسه عليهم في الثياب التي يستتر بها, فترى أحدهم يغسل الثوب الطاهر مراراً, وربما لمسه مسلم فيغسله.
ومن الموسوسين من يقطر عليه قطرة ماء فيغسل الثوب كله, وربما تأخر لذلك عن صلاة الجماعة...ولا يظنن ظان أني أمنع من النظافة والورع ولكن المبالغة الخارجة عن حدِّ الشرع المضيعة للزمان هي التي أنهى عنها.
ومن ذلك تلبيسه عليهم في نية الصلاة, فمنهم من يقول: أصلى صلاة كذا ثم يعيد هذا ظناً منه أنه قد نقض النية, والنية لا تنتقض..ومنهم من يكبر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض...والشريعة سمحة سهلة سليمة من هذه الآفات, وما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه شيء من هذا.
وكشف هذا التلبيس أن يقال للموسوس: إن كنت تريد إحضار النية فالنية حاضرة لأنك قمت لتؤدى الفريضة وهذه هي النية ومحلها القلب لا اللفظ. فإن كنت تريد تصحيح اللفظ, فاللفظ لا يجب, ثم قد قلته صحيحاً, فما وجه الإعادة؟ أفتراك تظنُّ وقد قلت إنك قلت؟! هذا مرض!.
ولقد حكى لي بعض الأشياخ عن ابن عقيل حكاية عجيبة, أن رجلاً لقيه فقال: إني أغسلُ وأقول ما غسلته, وأُكبرُ وأقول: ما كبرتُ. فقال له ابن عقيل: دع الصلاة فإنها ما تجب عليك, فقال قوم لابن عقيل: كيف تقول له هذا؟ فقال لهم: قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( رفع القلم عن المجنون حتى يفيق) ومن يُكبّرُ ويقولُ: ما كبرتُ فليس بعاقل, والمجنون لا تجبُ عليه الصلاة.
وقد لبس إبليس على قوم فتركوا كثيراً من السنن لواقعات وقعت لهم. فمنهم من كان يتأخر عن الصف الأول ويقول: إنما أراد قُرب القلوب, ومنهم من لم يضع يداً على يد في الصلاة, وقال: أكره أن أُظهر من الخشوع ما ليس في قلبي.
وهذا أمر أوجبه قلةُ العلم.
وقد لبس على قوم من المتعبدين فكانوا يبكون والناس حولهم وهذا قد يقع غلبة, فلا يمكن دفعه, فمن قدر على ستره فأظهره فقد تعرض للرياء.
وقد لبس على جماعة من المتعبدين فتراهم يصلُّون الليل والنهار, ولا ينظرون في إصلاح عيب باطن, ولا مطعم, والنظر في ذلك كان أولى بهم من كثرة التنفل.
تلبيسه عليهم في قراءة القرآن:
وقد لبس على قوم بكثرة التلاوة, فهم يهذون هذاً من غير ترتيل ولا تثبت, وهذه حاله غير محمودة, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لم يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث»
تلبيسه عليهم في الصوم:
منهم من يلازم الصوم ولا يبالي على ماذا أفطر, ولا يتحاشى في صومه عن غيبة ولا عن نظره ولا عن فضول كلمة, وقد خيَّل له إبليس أن صومك يدفعُ إثمك, وكل هذا من التلبيس.
تلبيسه عليهم في الحج:
قد يسقط الإنسان الفرض بالحج مرة, ثم يعود لا عن رضاء الوالدين وهذا خطأ, وربما خرج وعليه ديوان أو مظالم, وربما خرج للنزهة, وربما حج بمال فيه شبهة, ومنهم من يحب أن يُتلقَّى, ويقال: الحاجُّي.
تلبيسه على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر
يلبس إبليس على بعض المتعبدين فيرى منكراً ولا ينكره, ويقول: إنما يأمر وينهى من قد صلح وأنا ليس بصالح فكيف آمر غيري, وهذا غلط لأنه يجب عليه أن يأمر وينهى ولو كانت تلك المعصية فيه, إلا أنه متى أنكر متنزهاً عن المنكر أثَّر إنكاره.
تلبيس إبليس على الزهاد
قد يسمع العامي ذم الدنيا في القرآن والأحاديث فيرى أن النجاة تركها, ولا يدري ما الدنيا المذمومة, فيلبس عليه إبليسُ: بأنك لا تنجو في الآخرة إلا بترك الدنيا, فيخرج على وجهه إلى الجبال, فيبعد عن الجمعة والجماعة, والعلم, ويصير كالوحش, ويخيل إليه أن هذا هو الزهد الحقيقي.
وإنما يتمكن إبليس من التلبيس على هذا لقلة علمه, ومن جهله رضاه عن نفسه بما تعلم, ولو أنه وفق لصحبة فقيه يفهم الحقائق لعرفه أن الدنيا لا تُذمُّ لذاتها, وكيف يذمُّ ما منَّ الله تعالى به, وما هو ضرورة في بقاء الآدمي, وسبب في إعانته على تحصيل العلم والعبادة, من مطعم, ومشرب, وملبس, ومسجد يصلي فيه, وإنما المذموم أخذُ الشيء من غير حِلّه, أو تناوله على وجه السرف لا على مقدار الحاجة, وتصرف النفس فيه بمقتضى رعوناتها لا بإذن الشرع.
ومن تلبيسه على الزهاد: إعراضهم عن العلم شغلاً بالزهد, فقد استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير, وبيان ذلك أن الزاهد لا يتعدى نفعُهُ عتبه بابه, والعالم نفعه مُتعدٍّ, وكم قد ردّ إلى الصواب من متعد.
ومن تلبيسه عليهم: أنه يوهمهم أن الزهد ترك المباحات ومنهم من يقلل المطعم حتى يبس بدنه, ويعذب نفسه بلبس الصوف, ويمنعها الماء البارد, وما هذه طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم, ولا طريق أصحابه وأتباعهم.
- التصنيف: