فوائد من كتاب "مداواة النفوس " لابن حزم (1-3)
ومما يميزه كذلك صراحة مؤلفه, فهو يتكلم عن عيوب فيه, استطاع التخلص من بعضها, وبقي بعضها, قال رحمه الله: كانت فيَّ عيوب, فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء...في الأخلاق...حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنِّه.
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين..أما بعد: فلا يخفى أن البدن يمرض ويتعب, وكذلك النفس تسقم وتعتل, فتحتاج إلى مداواة تطهرها من الذنوب, وتنقيها من العيوب, لكي تزكو فيفلح صاحبها, كما قال الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [الشمس:9] فإن تركت بدون تزكية وتهذيب, فقد خاب صاحبها وخسر, كما قال سبحانه وتعالى: { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}[الشمس:10]
وقد ألف علماء الإسلام مصنفات في تهذيب النفس وتزكيتها, من أهمها: كتاب الإمام ابن حزم الظاهري رحمه الله, الموسوم بـ " مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل " وقد أجاد رحمه الله وأفاد في هذا الكتاب, فهو كتاب نافع, فمما يميزه عن غيره, أن مؤلفه يكتب عن تجارب, قال في مقدمته: فإني جمعت في كتابي هذا معاني كثيرة, أفادنيها واهب التميز تعالى, بمرور الأيام وتعاقب الأحوال.
ومما يميزه كذلك صراحة مؤلفه, فهو يتكلم عن عيوب فيه, استطاع التخلص من بعضها, وبقي بعضها, قال رحمه الله: كانت فيَّ عيوب, فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء...في الأخلاق...حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنِّه.
والكتاب غزير بالفوائد في بابه, وقد يسر الله الكريم لي فانتقيت منه بعضها, أسأل الله أن ينفع بها, ويبارك فيها.
فصل: مداواة النفوس وإصلاح الأخلاق الذميمة
(1) كل أمل ظفرت به, فعقباه حزن, إما بذهابه عنك, وإما بذهابك عنه, ولا بد من أحد هذين السبيلين, إلا العمل لله عز وجل, فعقباه..سرور في عاجل وآجل, أما في العاجل فقلة الهم بما يهتم به الناس,..وأما في الآجل فالجنة.
(2) تطلبت غرضاً يستوي الناس في استحسانهم كلهم وفي طلبه فلم أجده إلا واحداً وهو طرد الهم, فلما تدبرته, علمتُ أن الناس كلهم لم يستووا في استحسانه فقط, ولا في طلبه فقط, ولكن رأيتهم على اختلاف أهوائهم ومطالبهم ومراداتهم, وتباين هممهم وإراداتهم لا يتحركون حركة أصلاً إلا فيما يرجون به طرد الهم,..فمن مخطئ وجه سبيله, ومن مقاربٍ للخطأ, ومن مصيبٍ, وهو الأقل من الناس في الأقلِّ من أموره, والله أعلم.
(3) طرد الهمِّ مذهب قد اتفقت عليه الأمم كلُّها مُذ خلق الله تعالى العالم إلى أن يتناهى...وليس في العالم...أحد يستحسن الهم, ولا يريد إلا طرحه عن نفسه, فلما استقرَّ في نفسي هذا العلم...بحثت عن سبيل موصلةٍ على الحقيقة إلى طرد الهم,...فلم أجدها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة...ووجدت العامل للآخرة إن امتحن بمكروه في تلك السبيل لم يهتم,..وإن تعب فيما سلك فيه سُرَّ, فهو في سرورٍ متصلٍ أبداً, وغيره بخلاف ذلك أبداً.
(4) لا مروءة لمن لا دين له, والعاقل لا يرى لنفسه ثمناً إلا الجنة.
(5) السعيدُ من أنست نفسه بالفضائل والطاعات, ونفرت من الرذائل والمعاصي, والشقي من أنست نفسه بالرذائل والمعاصي, ونفرت من الفضائل والطاعات, وليس ههنا إلا صنع الله تعالى وحفظه.
(6) طرح المبالاة بكلام الناس, واستعمال المبالاة بكلام الخالق عز وجل, هو باب العقل كله والراحة كلها...فمن حقق النظر..كان اغتباطه بذمِّ الناس إياه أشدَّ من اغتباطه بمدحهم إياه لأن مدحهم إياه إن كان بحقٍّ, وبلغه مدحُهُم له, أسرى ذلك فيه العُجب, فأفسد بذلك فضائله وإن كان بباطلٍ فبلغه فسُرَّ فقد صار مسروراً بالكذب, وهذا نقص شديد. وأما ذمُّ الناس إياه, فإن كان بحق فبلغه, فربما كان ذلك سبباً إلى تجنُّبه ما يُعاب عليه, وهذا حظ عظيم, لا يزهدُ فيه إلا ناقص, وإن كان بباطلٍ فصبر, اكتسب فضلاً زائداً بالحلم والصبر, وكان مع ذلك غانماً لأنه يأخذ حسنات من ذمَّه بالباطل
(7) لا يسرُّك أن تُمدح بما ليس فيك, بل ليعظم غمُّك بذلك, لأنه نقصك ينبه الناس عليه, ويسمعهم إياه, وسخرية منك وهزء بك, ولا يرضى بهذا إلا أحمق ضعيف العقل, ولا تأسَ إن ذممت بما ليس فيك, بل افرح, فإنه فضلك ينبّه الناس عليه, ولكن افرح إذا كان فيك ما تستحق به المدح, سواء مُدحت به أو لم تمدح, واحزن إذا كان فيك ما تستحق به الذم, سواء ذُممت به أو لم تُذم.
(8) طالب الآخرة متشبه بالملائكة, وطالب الشر متشبه بالشياطين, وطالب الصوت والغلبة متشبه بالسباع, وطالب اللذات المحرمة متشبه بالبهائم...فالعاقل لا يغتبطُ بصفة يفُوقُهُ فيها سبع أو بهيمة أو جماد, وإنما يغتبطُ بتقدمه في الفضيلة...والتميز الذي يشارك فيه الملائكة.
(9) من أساء إلى أهله وجيرانه فهو أسقطهم, ومن كافأ من أساء إليه منهم فهو مثلهم, ومن لم يكافئهم بإساءتهم, فهو سيدهم وخيرهم وأفضلهم.
(10) كانت في عيوب, فلم أزل بالرياضة وإطلاعي على ما قالت الأنبياء صلوات الله عليهم والأفاضل من الحكماء المتأخرين والمتقدمين في الأخلاق, وفي آداب النفس أُعاني مُداواتها, حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنه.
فمنها: كلف في الرضا, وإفراط في الغضب, فلم أزل أُداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملةً بالكلام والفعل والتخبط, وامتنعت مما يحلَّ من الانتصار, وتحملت من ذلك ثقلاً شديداً, وصيرت على مضض مؤلمٍ كان ربما أمرضني, وأعجزني ذلك في الرضا.
ومنها: دعابة غالبة, فالذي قدرت عليه فيها إمساكي عما يغضب الممازح, وسامحت نفسي فيها, إذا رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر.
ومنها: عُجب شديد, فناظر عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كلُّه, ولم يبق له والحمد لله أثر, بل كلفتُ نفسي احتقار قدرها جملةً, واستعمال التواضع.
ومنها: حركات كانت تولدها غرارة الصبا, وضعفُ الأعضاء, فقسرت نفسي على تركها, فذهبت.
ومنها: محبة في بُعد الصيت والغلبة, فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عما لا يحلُّ في الديانة, والله المستعان على الباقي.
ومنها: حقد مفرط, قدرت بعون الله تعالى على طيه وستره, وغلبتُهُ على إظهار جميع نتائجه, وأما قطعه البته فلم أقدر عليه, وأعجزني معه أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً.
(11) قول الله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] جامع لكل فضيلةٍ, لأن نهى النفس عن الهوى هو ردعها عن الطبع الغضبي, وعن الطبع الشهواني...وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي استوصاه: «لا تغضب» وأمره عليه السلام أن يجبَّ المرء لغيره ما يحبُّ لنفسه جامعان لكل فضيلة, لأن في نهيه عن الغضب ردع النفس ذات القوة الغضبية عن هواها, وفي أمره عليه السلام بأن يحبَّ المرءُ لغيره ما يحبُّ لنفسه ردعُ النفوس عن القوة الشهوانية.
(12) رأيت...إلا من عصم الله تعالى وقليل ما هم, يتعجلون الشقاء والهمَّ لأنفسهم في الدنيا...من تمنى أشدّ البلاء لمن يكرهونه, وقد علموا يقيناً أن تلك النيات الفاسدة لا تُعجل لهم شيئاً مما يتمنونه, أو يوجب كونه, وأنهم لو صفوا نياتهم, وحسنوها لتعجلوا الراحة لأنفسهم, وتفرغوا بذلك لمصالح أمورهم, ولاقتنوا عظم الأجر في المعاد من غير أن يؤخر ذلك شيئاً مما يُريدونه و يمنع كونه.فأيُّ غبنٍ أعظمُ من هذه الحال التي نبهنا عليها ؟ وأيُّ سعد أعظمُ من الذي دعونا إليه ؟
(13) إذا نام المرء, خرج عن الدنيا ونسي كل سرورٍ وحزن, فلو رتب نفسه في يقظته على ذلك أيضاً لسعد السعادة التامة.
- التصنيف: