فوائد من كتاب "مداواة النفوس " لابن حزم" (3-3)
(15) كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه, ولم نر قطُّ أحد بلغنا أنه أهلكه سكوته, فلا تتكلم إلا بما بقربك من خالقك, فإن خفت ظالماً فاسكت.
فصل: في غرائب أخلاق النفس
ينبغي للعاقل أن لا يحكم بما يبدو له من استرحام الباكي المتظلم وتشكيه, وكثرة تلومه, وتقلبه وبكائه, فقد وقفت من بعض من يفعلُ هذا, على يقين أنه الظالم المتعدي المُفرطُ في الظلم.ورأيتُ بعض المظلومين ساكن الكلام, معدوم التشكي, مظهر لقلة المبالاة, فيسبق إلى نفس من لا يحقق النظر أنه ظالم. وهذا مكان ينبغي التثبت فيه, ومغالبة النفس جملة, وأن لا يميل المرء مع الصفة التي ذكرنا ولا عليها, ولكن يقصد الإنصاف بما يوجب الحق على السواء.
فصل: حضور مجالس العلم
(1) إذا حضرت مجلس علم, فلا يكن حضورك إلا حضور مستزيد علماً وأجراً, لا حضور مستغن بما عندك, طالب عثرة تشنعها, أو غريبةٍ تشيعها, فهذه أفعال الأراذال الذين لا يفلحون في العالم أبداً.
فإذا حضرتها على هذه النية, فقد حصلت خيراً على كل حال, فإن لم تحضرها على هذه النية, فجلوسك في منزلك أروح لبدنك, وأكرم لخلقك, وأسلمُ لدينك.
(2) فإذا حضرتها كما ذكرنا, فالتزم أحد ثلاثة أوجه لا رابع لها وهي:
أ- إما أن تسكت سكوت الجهال, فتحصل على أجر النية في المشاهدة, وعلى الثناء عليك بقلة الفضول, وعلى كرمِ المجالسة, ومودة من تجالس.
ب- فإن لم تفعل ذلك فاسأل سؤال المُتعلم, فتحصل على هذه الأربع المحاسن وعلى خامسة, وهي استزادة العلم.
وصفة سؤال المُتعلم هو أن تسأل عما لا تدري, لا عن ما تدري, فإن السؤال عما تدريه..شغل لكلامك, وقطع لزمانك بما لا فائدة فيه لك ولا لغيرك, وربما أدى إلى اكتساب العدوات.
فإن أجابك الذي سألتَ بما فيه كفاية لك, فاقطع الكلام, فإن لم يُجبك بما فيه كفاية, أو أجابك بما لم تفهم, فقل له: لم أفهم, واستزده, فإن لم يزدك بياناً, وسكت, أو أعاد عليك الكلام الأول ولا مزيد, فامسك عنه, وإلا حصلت على الشر والعداوة ولم تحصل على ما تريده من الزيادة
ت- والوجه الثالث أن تراجع مراجعة العالم, وصفة ذلك أن تعارض جوابه بما ينقضه نقضاً بيناً, فإن لم يكن ذلك عندك, ولم يكن عندك إلا تكرار قولك, أو المعارضة بما يراه خصمك معارضة, فأمسك, لأنك لا تحصل بتكرار ذلك على أجر زائد, ولا على تعليم, ولا على تعلم, بل على الغيظ لك ولخصمك.
وإياك وسؤال المتعنت, ومراجعة المُكابر الذي يطلب الغلبة بغير علم. فهما خلقا سوءٍ, ودليلان على قلة الدين, وكثرة الفضول, وضعف العقل.
وإذا ورد عليك خطاب بلسان, أو هجمت على كلام في كتاب, فإياك أن تُقابله مقابلة المُغاضبة الباعثة على المغالبة قبل أن تتيقن بطلانه ببرهان قاطع, وأيضاً فلا تقبل عليه إقبال المصدق به, المستحسن إياه قبل علمك بصحته ببرهان قاطع, فلا تظلم في كلا الوجهين نفسك, وتبعد عن إدراك الحقيقة, ولكن أقبل عليه إقبال سالم القلب عن النزاع عنه والنزوع إليه
(3) فرض على الناس تعلم الخير والعمل به, فمن جمع الأمرين جميعاً, فقد استوفى الفضلين معاً.
ومن علَّمه ولم يعمل به فقد أحسن في التعلُّم, وأساء في تركِ العمل به, فخلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً, وهو خير من آخر لم يُعلِّمه ولم يعمل به.
وهذا الذي لا خير فيه أمثلُ حالةً, وأقلُّ ذماً من آخر ينهى عن تعلم الخير, ويصدُّ عنه.
فصل: فوائد متفرقة
(1) لا تضرَّ نفسك في أن تجرب بها الآراء الفاسدة لتريَ المشير بها فسادها, فتهلك
(2) إياك أن تسرَّ غيرك بما تسوءُ به نفسك فيما لم تُوجبه عليك شريعة أو فضيلة.
(3) من طلب الفضائل لم يُساير إلا أهلها.
(4) من امتُحن بقرب من يكره, كمن امتُحن بصدِّ من يحبُّ, ولا فرق.
(5) اقنع بمن عندك, يقنع بك من عندك.
(6) إذا ارتفعت الغيرةُ, فأيقن بارتفاع المحبة.
(7) حد العقل استعمال الطاعات والفضائل, وهذا الحد ينطوي فيه اجتناب المعاصي والرذائل, وقد نص الله تعالى في غير موضع من كتابه على أن من عصاه لا يعقل قال الله حاكياً عن قوم: وَ {قَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} ثم قال مصدقاً لهم {فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقًا لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك:10]
(8) لقد طال همُّ من غاظه الحق.
(9) اثنتان عظمت راحتهما: أحدهما في غاية الحمد, والآخر في غاية الذم, وهما مُطرحُ الدنيا, ومُطرح الحياء.
(10) صدق من قال: إن العاقل في الدنيا متعوب, وصدق من قال: إنه فيها مستريح.فأما تعبُهُ فبما يرى من انتشار الباطل, وغلبة دولته, وبما يُحالُ بينه وبين الحقِّ من إظهار الحقّ.وأما راحته, فمن كل ما يهتمُّ به سائر الناس من فضول الدنيا.
(11) إياك ومعارضة أهل زمانك فيما لا يضرك في دنياك ولا أخراك, وإن قلَّ, فإنك تستفيد بذلك الأذى والمنافرة والعداوة.
(12) الناس في بعض أخلاقهم على ..مراتب:
فطائفة تمدح في الوجه والمغيب, وهذه صفة أهل الملق والطمع.
وطائفة تذم في المشهد والمغيب, وهذه صفة أهل السلاطة والوقاحة من العيَّابين.
وطائفة تمدح في الوجه, وتذمَّ في المغيب, وهذه صفة أهل النفاق والعيَّابين.
وطائفة تذم في المشهد, وتمدح في المغيب, وهذه صفة أهل السخف.
وأما أهل الفضل فيمسكون عن المدح والذمِّ في المشاهدة, ويثنون بالخير في المغيب أو يمسكون عن الذمِّ.
وأما أهل السلامة, فيمسكون عن المدح والذمِّ في المشهد والمغيب.
(13) مما ينجعُ في الوعظ..الثناء بحضرة المُسيء على من فعل خلاف فعله, فهذا داعية إلى عمل الخير, وما أعلم لحبِّ المدح فضلاً إلا هذا وحده, وهو أن يقتدي به من يسمع الثناء.
(14) من أراد الإنصاف, فليتوهم نفسه مكان خصمه, فإنه يلوح له وجه تعسفه.
(15) كم شاهدنا ممن أهلكه كلامه, ولم نر قطُّ أحد بلغنا أنه أهلكه سكوته, فلا تتكلم إلا بما بقربك من خالقك, فإن خفت ظالماً فاسكت.
(16) ينبغي أن يرغب العاقل في الاستكثار من الفضائل, وأعمال البرِّ التي يستحق من هي فيه الذكر الجميل, والثناء الحسن, والمدح وحميد الصفة, فهي التي تقربه من بارئه تعالى, وتجعله مذكوراً عنده عز وجل بالذكر الذي ينفعه
(17) أعدل الشهود على المطبوع على الصدق: وجهه, لظهور الاسترابة عليه إن وقع في كذبةٍ أو همَّ بها. وأعدل الشهود على الكذاب: لسانه, لاضطرابه ونقض بعض كلامه بعضاً.
كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: