الحرب في ذاكرة ممرضة -1
إنه القصف يا سادة
ذالك الشبح المفرط في قسوته الذي سمح لتجمع الأعمام والعمات في دار الجدة في ثالث يوم من أيام عيد الفطر أن يتحول إلى مجزرة
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
الجزء الأول
لم يكن الوقت عندها مناسب لذرف الدموع
ولم يكن الموقف أصلا تكفيه الدموع
كان يجب علي أن أوقف تدفق تلك الأفكار في هذه اللحظة، وألتفت بكل سرعة إلى جسدي الذي سيثبت اليوم أنه يستطيع التخلي عن قلبه للحظات،
أسرعت بكل قوتي أجمع شتات الجرحى وأرتبهم في ذاكرتي، ويدي تمسك بقوة على تلك اللائحة السريعة من المهام التي سلمني إياها الطبيب.
لم يكن للعمل عندها شكل ثابت ولاقوانين متبعة
كان أشبه ما يكون بمحاولة إنقاذ قارب شارف على الغرق
ومن بين الصيحات العالية والأنين الخافت لمحت عيني ذالك المنظر الفظيع الذي لا بد أن أتصرف فيه في ثواني فقط.
وبالفعل حملتها مع عامل النظافة وأسرعنا بها داخل ممر الحالات الخطرة وكلي ذرة في جسدي تنادي وتصرخ أين الطبيب
لا أدري إن كان صوتي يخرج وقتها أم أنه لايتجاوز حنجرتي من كثرة التوتر،
وماهي إلا لحظات حتى بدأنا بأصعب عملية جراحية قد أتخيل أنها تحدث
كانت فتاة في الثامنة من عمرها
تلبس ثياب العيد شعرها مصفف بدقة ولاتزال الربطات تلف حول خصلاته،
كانت عيوننا جميعا مركزة على تلك الكتلة الضخمة التي كانت بجوارها
أتدرون ماهي؟
إنها أمعاؤها....
لقد فُتحت بطنها بشكل كامل وخرجت أمعاءها كلها لستقتر بجانبها.
وعلى الفور أشار الطبيب بضرورة إيقاف
النزف من رجلها_ التي بترت بشكل كامل فيما بعد_
مرت العملية بسلام وهدأت حركات صدرنا التي كادت تقتلنا
وخرجت عندها أذرف الدموع وكأنني أنتقم منها لأنها تأخرت
ولكنني لمحت امرأة شابة تجلس في صمت تسند رأسها إلى الحائط وتفرك بقوة كلتا يديها مرددة
اللهم لك الحمد اللهم صبرني.
مسحت دموعي واقتربت أربت على كتفها
لتقول لي علي الفور
لاتخبروها شيئا عن أخويها أرجوك
ومابهم أخويها ياخالتي لقد طال بنا العمل داخل قسم العمليات ولم أعرف ماذا حدث بعد
قالت بصوت كله إيمان
الحمد لله. لقد استشهدا اليوم
{ربنا أفرغ علينا صبرا }
لا أعلم وقتها إن توفقت في تهدئتها أم نجحت هي في تهدأتي؟
ولكنني تذكرت صورة مرت في مخيلتي من الصور التي لا تستطيع لمح تفاصيلها كلها
شاب عشريني يطلب مني الماء وأنا أتحرك بين الجرحى أذكرهم بالجنة ونعيمها وأن غمسة في النعيم تنسيهم كل شي
وأوجههم إلى الاستعانة بالله على آلامهم
وأذكرهم بالشهادة
نظرت إلى جرحه على عجالة وقدّرت في نفسي أنه سيحتاج لعمل جراحي ولكن لأن المشفى فيه غرفة واحدة ولايوجد غيره سنضطر لتأجيله قليلا أو تحويله لخارج الحدود
فاعتذرت منه بكل حب ووعدته أن أعود إليه بالماء وذكرته أن الصير قليلا أفضل،
بدأت أبحث عنه بين أسرة من تبقى في المشفى بعد أن ساد الهدوء قليلا
ليخبروني أنه رحل
ذهب دون أن أسقيه الماء سامحني يابني إنها مصلحتك وبعد الآن لن تذوق عطشا بإذن الله.
وللصدفة كان هذا الشاب أحد أخوة الفتاة الجميلة التي أضحت برجل واحدة وأخرى صناعية.
إنه القصف يا سادة
ذالك الشبح المفرط في قسوته الذي سمح لتجمع الأعمام والعمات في دار الجدة في ثالث يوم من أيام عيد الفطر أن يتحول إلى مجزرة
وسمح لضحكات الأطفال وسعادتهم أن تتحول إلى صرخات وتشوهات نفسية وجسدية
إنه القصف الذي سمح لأحلام الأهل وبهجتهم ببلوغ أبنائهم سن الشباب أن تختفي
إنه القصف الذي تقف وراءه. قلوب تحجرت في مراقدها
فاطمة عبود