وصية رسول الله عليه الصلاة والسلام بكتاب الله عز وجل-1
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
ومن الوصية به: التحاكم إليه، باتخاذه دستورًا حاكمًا في كل شؤون الحياة بمختلف جوانبها، فيحتكم إليه المسلمون في جميع شؤونهم الخاصة والعامة.
- التصنيفات: أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة -
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
فمن أُوصِي بشيءٍ ينفعهُ في دنياه، فإنه في الغالبِ يُسَرُّ بذلك، ويشكر من أوصاه ويدعو له؛ لأنه يُوقِن أنه ما أوصاه إلا لأنه يُحبُّهُ ويُريدُ نفعه.
فإذا كان مَنْ أوصاه أغلى حبيبٍ إليه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد أوصاه بشيءٍ لا يقتصر انتفاعه به على الدنيا، بل يمتدُّ نفعُه وخيرُه إلى الآخرة، وكان قد أوصاه بأعظم شيءٍ عنده، وهو القرآن العظيم كتاب رب العالمين الذي: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] فلا شك أنه سيغتبطُ ويُسَرُّ؛ لأنه يُوقِن أنها وصية عظيمة بشيءٍ عظيم، فيها نفع عظيم.
هذه الوصية العظيمة هي وصية رسول الله عليه الصلاة والسلام لنا بكتاب الله عز وجل، فعن طلحة بن مُصرفٍ قال: "سألتُ عبدالله بن أوفى: هل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، فقلتُ: كيف كُتِبَ على الناس الوصية، أمروا بها، ولم يوصِ؟ قال: أوصى بكتاب الله"؛ [أخرجه البخاري ومسلم].
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "ولعله اقتصر على الوصية بكتاب الله؛ لكونه أعظم وأهمَّ، ولأنه فيه تبيان كل شيء؛ إما بطريق النص، وإما بطريق الاستنباط، فإذا اتَّبع الناس ما في الكتاب عملوا بكل ما أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم".
والوصية بكتاب الله عز وجل تقتضي التمسُّك به والعمل به؛ قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وقول ابن أبي أوفى: "أوصى بكتاب الله"؛ أي: بالتمسَّك به، والعمل بمقتضاه.
لقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمل بالقرآن، وكان هو عليه الصلاة والسلام خيرَ مَنْ عمِل بذلك، فقد سأل سعد بن هشام بن عامر أُمَّ المؤمنين عائشة رضي الله عنهما عن خُلُق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "كان خُلُقُه القرآن"؛ [أخرجه مسلم]، قال الإمام النووي رحمه الله: معناه: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدُّب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبُّره وحُسْن تلاوته.
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ومعنى هذا أنه صلى الله عليه وسلم، صار امتثال القرآن أمرًا ونهيًا، سجيَّةً له، وخُلُقًا تطبَّعه.
ومن قرأ القرآن وعمِل به، فقد هُدي ووُقِي؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: "من قرأ القرآن، واتَّبَع ما فيه هداه الله من الضلالة، ووقاه يوم القيامة سُوء الحساب"، وقال رضي الله عنه: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمِل بما فيه ألَّا يضلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة، ثم تلا قوله تعالى: ﴿ {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} ﴾ [طه: 123].
ومن عمل بالقرآن شفع له؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤتى بالقرآن يوم القيامة وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدُمُه سورةُ البقرة وآل عمران، كأنهما غمامتان أو ظُلَّتان سَوْداوان، بينهما شَرْقٌ، أو كأنهما حِزْقانِ من طير صوافَّ، تُحاجَّان عن صاحبهما»[أخرجه مسلم].
وقال العلامة محمد صالح العثيمين: الوصاة بكتاب الله تشمل وجوهًا كثيرة؛ منها: ـ
أولًا: الوصاة بحفظه حتى لا يضيع، والحفظ نوعان: حفظ في الصدور، وحفظ في المسطور؛ أي: في الكتاب، فعلى المسلمين أن ينفذوا وصية النبي صلى الله عليه وسلم بحفظ القرآن في صدورهم ومسطورهم.
ثانيًا: أن نحرص على فَهمِ معانيه وتدبُّرها؛ لأن القرآن إنما أُنزِل لذلك في الواقع: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ}[ص: 29]، ولأنه لا يمكن العمل به حقيقةً إلَّا بالتدبُّر؛ إذ إنك إن لم تتدبَّره لم تفهم معانيه، وإذا لم تفهم معانيه، فكيف يمكن أن تعمل به؟! وكذلك في الأخبار لا يمكن أن تنتفع بالقصة والخبر إلا إذا فهِمت المعنى.
ثالثًا: الوصية بتصديق أخباره، فإن من كذب خبرًا من أخبار القرآن، فإنه قد انتقص القرآن؛ لأن الكذب من الأوصاف الذميمة القبيحة التي يستهجنها حتى الكُفَّار في كُفْرِهم.
رابعًا: الوصاة بالعمل به بحيث لا نهجره، فإن هجر العمل بالقرآن هجر للقرآن: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
خامسًا: الدفاع عنه، بحيث نردُّ تحريف المبطلين الذين يفسرون القرآن بآرائهم وأهوائهم، ومن قال برأيه فليتبوَّأ مقعده من النار.
سادسًا: بإكرامه وتعظيمه، وذلك بأمور:
1- ألَّا نضعه في مكان يُمتهَن فيه، وإذا وجدناه في مكان يحتمل الامتهان رفعناه، فإن هذا من الوصية به.
2- ألَّا نرضى أن أحدًا يقوم بتمزيقه وإتلافه، كأنما هو عنده خرقة يُقطِّعها كما يشاء.
3- ألَّا نسمح لأنفسنا ولا لغيرنا بأن يُصيبه أذًى أو قذرٌ؛ كالنجاسة وشبهها، فإذا قُدِّر أن سقطت عليه نجاسة، فإننا نُزيلها عنه، ونحميه منها.
4- ألا نمسَّه إلا على طهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يمس القرآن إلا طاهر».
سابعًا: ألَّا نتخذه هزوًا ولعبًا، بحيث نجعله بدلًا من كلامنا، كما لو استأذن عليك مستأذن، فقلت: { ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ } [الحجر: 46]، أو كان اسم ابنك يحيى، فإذا خاطبته تقول: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، وهكذا، فإن جعل القرآن بدلًا من الكلام محرَّم؛ لما في ذلك من ابتذال القرآن وامتهانه.
ومن هذا: ما يفعله بعض الناس، حيث يكتب القرآن في الأواني، أو في المناديل، أو على ألحفة الموتى، أو ما أشبه ذلك، فإن هذا كله من امتهان القرآن، فإن الأواني يرميها الطفل، ورُبما يرميها الكبير أيضًا، وتُمتهَن بالشرب بها، وما أشبه ذلك، وتلحيف الموتى بها امتهان؛ لأن الميت ليس أكرم من الحي، وكل أحد يستقبح أن يجعل الحيُّ لحافه الذي يتغطَّى به عند النوم مكتوبًا عليه شيء من كلام الله، فالميت من باب أولى، والميت لا ينتفع بهذا، ولا بقراءة القرآن عنده؛ لأنه ليس حيًّا يستمع فينتفع، أو يقرأ فينتفع؛ بل هو ميت...كل هذا داخل في وصية النبي صلى الله عليه وسلم إيَّانا بكتاب الله، وإذا تأمَّلت هذه المسألة وعِظَمَها وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أوصاك وصيَّةً خاصةً بكتاب الله عز وجل من هذه الوجوه وغيرها استعظمتها في نفسك، فالزم هذه الوصية، واعمل بها، واحترم كلام الله عز وجل.
وقال رحمه الله: إذا كان لأحد أن يغتبط فليغتبط صاحب القرآن، فالمال والقصور والسيارات والملابس والنساء والأولاد، لا شكَّ أنها نعمة وخير، لكنها كلها زائلة
لكن القرآن هو الغبطة، فإذا أعطى الله الإنسان القرآن، وعلَّمه معانيه، ووُفِّق لتصديقه، والعمل به، فهذا الذي لا يعدله شيء من الدنيا أبدًا، وأكثر الناس عن هذه غافلون، وإنما يقرؤون القرآن من باب التبرُّك وطلب الثواب في قراءته، أما أن يقرؤوه على أنه غنيمة وغبطة، فهذا قليل، ولكن ليس معدومًا، والحمد لله؛ ا هـ.
ومن الوصية به: تعاهد المحفوظ منه بالمراجعة، فحفظه نعمة عظيمة لا يُماثلها نعمة، ينبغي المحافظة عليها، بتعاهد الحفظ بالمراجعة حتى لا يُنسى.
ومن الوصية به: التحاكم إليه، باتخاذه دستورًا حاكمًا في كل شؤون الحياة بمختلف جوانبها، فيحتكم إليه المسلمون في جميع شؤونهم الخاصة والعامة.
ومن الوصية به: تدبُّره وفهم معانيه، كما ذكر العلامة ابن عثيمين رحمه الله، ويكون ذلك بالقراءة في التفاسير التي تفسر القرآن الكريم على طريقة السلف، فبعض التفاسير وإن كان فيها فوائد بلاغيه ولغوية، فإن فيها عقاربًا لا يعرفها إلا القليل؛ قال الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالة لهما إلى الشيخ أبي الوفاء ثناء الهندي، رحمهم الله جميعًا: نوصيك بالإكباب على كتب أهل السنة وتفاسيرهم؛ كتفسير ابن جرير، وابن كثير، والبغوي، وغيرها من تفاسير السلف من أهل السنة الذين لا تروج عليهم إحداثات المحدثين، وتأويلات الجاهلين.
وسُئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في بلاد الحرمين الشريفين: ما هو الكتاب الأجود في التفسير من الكتب الموجودة حاليًّا وسابقًا؟ فأجابت برئاسة العلامة ابن باز وعضوية الشيخ عبدالرزاق عفيفي، وعبدالله بن قعود، وعبدالله بن غديان، رحمهم الله جميعًا في الفتوى رقم [2677]: أجود كتب التفسير يختلف ــــباختلاف طاقة القارئ ووسعه، وعلى كل حال أجودُها في نفسها كتاب "تفسير ابن جرير الطبري"، وكتاب "تفسير ابن كثير"، ونحوهما من كتب التفسير بالأثر، فإنها أسهل تعبيرًا، وأعدل في فهم المراد، وألمس لمعاني القرآن، وأقرب إلى إصابة الحق وبيان مقاصد الشريعة، مع ذكر ما يشهد لذلك من الأحاديث والآثار الثابتة، وردِّ المتشابه من الآيات إلى المحكم منها.