الاستقامة على دين الله
الملائكة أولياء للمستقيمين على طاعة الله في الدنيا والآخرة وعند الاحتضار
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد : فمن أجل نعم الله عز وجل على عبده, أن يوفقه للاستقامة على دينه, فمن نال ذلك فقد نال كل خير, وفاز بسعادة الدارين, وكان من حزب الله المفلحين, ومن أوليائه الصالحين.
المقصود بالاستقامة على دين الله
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله سبحانه وتعالى : { إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } [فصلت:30]: أي أخلصوا العمل لله, وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرعه الله لهم, وقال العلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تفسير قول الله عز وجل : {فاستقيموا إليه} [فصلت:6] : أي : اسلكوا الصراط الموصل إلى الله تعالى, بتصديق الخبر الذي أخبر به, وإتباع الأمر, واجتناب النهي, هذه هي حقيقة الاستقامة, ثم الدوام على ذلك, وقال الإمام ابن رجب رحمه الله : الاستقامة : هي سلوك الصراط المستقيم, وهو الدين القويم, من غير تعرج عنه, يمنةً ويسرةً, ويشمل ذلك : فعل الطاعات كلها, الظاهرة والباطنة, وترك المنهيات كلها كذلك, فصارت هذه الوصية جامعه لخصال الدين كلها"
سؤال الله الاستقامة ومجاهدة النفس لنيلها
كان الحسن يقول : اللهم أنت ربنا, فارزقنا الاستقامة.
قال ابن المنكدر رحمه الله: كابدت نفسي أربعين سنة حتى استقامت.
مجاهدة النفس على الثبات على الاستقامة
إذا وفق العبد المؤمن للاستقامة على دين الله, فإن عليه أن يجاهد نفسه على الثبات, قال عز وجل: {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك } [هود:12] قال الحافظ ابن كثير رحمه : يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة, وقال الإمام ابن عطية رحمه الله : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستقامة وهو عليها, إنما هو أمر بالدوام والثبات.
الاستقامة نعمة عظيمة ومنحة جليلة
ومن وفق للاستقامة على دين الله, فهذه من أجل نعم الله عز وجل عليه, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : غاية الكرامة لزوم الاستقامة, فلم يكرم الله عبداً بمثل أن يعينه على ما يحبه ويرضاه, ويزيده مما يقربه إليه ويرفع درجته, وقال رحمه الله : الكرامة لزوم الاستقامة, وإن الله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه, وهو طاعته وطاعة رسوله, وموالاة أوليائه, ومعاداة أعدائه, وهؤلاء هم أولياء الله الذين قال الله فيهم: {إلا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
أمر الشارع بسلوك طريق الاستقامة والترغيب في ذلك
قال الله عز وجل : {فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير } [هود:112] قال الشيخ أبو بكر الجزائري : من هداية الآيات : وجوب الاستقامة على دين الله تعالى عقيدةً عبادةً وحكماً وأدباً.
وعن سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال : قُلتُ : يا رسول الله قُل لي في الإسلام قولاً لا أسال عنه أحد بعدك. قال:«قُل آمنتُ بالله ثم استقم » [أخرجه مسلم]
الدعاء بالثبات على الاستقامة
من وفق للاستقامة على دين الله, فعليه أن يكثر من الدعاء بالثبات على الاستقامة, فعن أنس رضي الله عنه قال : «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) قلت : فقلت : يا نبي الله, آمنا بك, وبما جئت به, فهل تخاف علينا ؟ قال :(نعم) إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله, يُقلبها كيف شاء) » [أخرجه الترمذي] قال الإمام المباركفوري رحمه الله : (ثبت قلبي على دينك ) أي اجعله ثابتاً على دينك, غير مائل عن الدين القويم, والصراط المستقيم.
التقصير في الاستقامة
يبقي الإنسان عبداً ضعيفاً, قد تغلبه نفسه حيناً, وشيطانه حيناً آخر, وقد تصيبه الغفلة, فيوجد لديه التقصير في استقامته, فمن رحمة الله عز وجل أن جعل له ما يجبر ذلك التقصير, وذلك في دوام التوبة والإنابة إلى الله, وكثرة الاستغفار, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : وفي قوله عز وجل : {فاستقيموا إليه واستغفروه } [فصلت:6] إشارة إلى أنه لا بُدَّ من تقصيرٍ في الاستقامة المأمور بها, فيجبُرُ ذلك الاستغفار, المقتضي للتوبة والرجوع إلى الاستقامة, فهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذٍ :« اتَّق الله حيثما كنت, واتبع السيئة الحسنة تمحها »وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس لن يطيقوا الاستقامة حق الاستقامة, كما خرجه الإمام أحمد وابن ماجه من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «استقيموا ولن تحصوا, واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة, ولا يُحافظُ على الوضوء إلا مؤمن»وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اله عليه وسلم قال : «سددوا وقاربوا» فالسدادُ هو حقيقة الاستقامة, وهو الإصابة في جميع الأقوال والإعمال والمقاصد, قال العلامة ابن القيم رحمه الله : المطلوب من العبد الاستقامة, وهي السداد, فإن لم يقدر عليها فالمقاربة, فإن نزل عنها فالتفريط والإضاعة...وأخبر في حديث ثوبان أنهم لا يطيقونها, فنقلهم إلى المقاربة, وهي أن يقربوا من الاستقامة بحسب طاقتهم"
النكوص عن الاستقامة
من نكص عن استقامته فلن يضر إلا نفسه, قال عز وجل:{ومن ينقلب على عقبيه فلن يضُرَّ الله شيئاً } [آل عمران:144] ومن أسباب النكوص عن الاستقامة : التشديد على النفس, فيما لم يشرعه الله وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «(سددوا وقاربوا, واغدوا وروحوا, وشيئاً من الدلجة, والقصد القصد تبلغوا )» [متفق عليه] قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : قوله ( سددوا ) معناه اقصدوا السداد أي الصواب...فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب أي اتباع السنة من الإخلاص وغيره.
وقوله ( وقاربوا ) أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة, لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا قوله (واغدوا وروحوا وشيئاً من الدلجة )..فيه إشارة إلى الحث على الرفق في العبادة, قوله (القصد القصد ) أي الزموا الطريق الوسط المعتدل.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: ما أمر الله عز وجل بأمرٍ إلا وللشيطان فيه نزعتان :إما تقصير وتفريط, وإما إفراط وغلو, فلا يبالي بما ظفر من العبد من الخطتين, فإنه يأتي إلى قلب العبد فيُشامه, فإن وجد فيه تقصيراً وفتوراً وتوانياً وترخيصاً أخذه من هذه الخطة, فثبطه وأقعده, وضربه بالكسل والتواني والفتور, وفتح له باب التأويلات والرجاء..حتى ربما ترك العبد المأمور جملة, وإن وجد عنده حذراً وجداً..وأَيِسَ أن يأخذه من هذا الباب أمره بالاجتهاد الزائد, وسوَّل له أن هذا لا يكفيك...وينبغي لك أن تزيد على العاملين, وأن لا ترقدوا إذا رقدوا, ولا تفطر إذا أفطروا, وأن لا تفتروا إذا فتروا...ونحو ذلك من الإفراط والتعدي, فيحمله على الغلو والمجاوزة, وتعدي الصراط المستقيم, كما يحمل الأول على التقصير دونه...ومقصوده من الرجلين إخراجهما عن الصراط المستقيم..وقد فتن بهذا أكثر الخلق, ولا يُنجي من ذلك إلا علم راسخ وإيمان وقوة على محاربته ولزوم الوسط.
استقامة الجوارح:
يخطئ من يظن أن الاستقامة هي استقامة المظهر فقط, فاستقامة المظهر جزء يسير من الاستقامة, والاستقامة الحقيقية هي استقامة الجوارح, وعلى رأسها القلب, الذي متى استقام استقامت بقية الجوارح, فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه, قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إلا وإن في الجسم مضغة, إذا صلحت صلح الجسدُ كلُّهُ, وإذا فسدت فسد الجسد كله, ألا وهي القلب »[متفق عليه]
فينبغي لمن رام الاستقامة أن يعتني بصلاح قلبه واستقامته, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله : أصلُ الاستقامة استقامة القلب على التوحيد...فمتى استقام القلب على معرفة الله, وعلى خشيته, وإجلاله, ومهابته, ومحبته, وإرادته, ورجائه, ودعائه, والتوكل عليه, والإعراض عما سواه, استقامت الجوارح كلها على طاعته, فإن القلب هو ملك الأعضاء, وهي جنوده, فإذا استقام الملك استقامت جنوده ورعاياه...وأعظم ما يراعي استقامته بعد القلب من الجوارح : اللسان, فإنه ترجمان القلب والمعبر عنه..وفي مسند أحمد عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال« لا يستقيم إيمان عبد, حتى يستقيم قلبه, ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه » وفي الترمذي عن أبي سعيد الخدري, مرفوعاً, وموقفاً : ( إذا أصبح ابن آدم, فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان, فتقول : اتق الله فينا, فإنما نحن بك, فإن استقمت استقمنا, وإن اعوججت اعوججنا )
الملائكة أولياء للمستقيمين على طاعة الله في الدنيا والآخرة وعند الاحتضار
من استقام على دين الله فليبشر بكل خير, في الدنيا وفي الآخرة, قال الله عز وجل: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون * نحن أولياؤكم في الحياة وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدعون * نُزُلاً من غفور رحيم } [فصلت:30-32] فالملائكة أولياء لعباد الله الصالحين, في الدنيا والآخرة, ففي الدنيا يحثونهم على خير, ويحذرونهم من كل شر, ويحفظونهم بأمر الله, وهم معهم في الآخرة, عند الموت وشدته, والقبر وظلمته, ويؤمنونهم يوم البعث والنشور, وفي القيامة وأهوالها, ويجاوزنهم الصراط إلى جنات النعيم, قال الحافظ ابن كثير رحمه الله : وقوله تعالى : { نحن أولياؤكم في الحياة وفي الآخرة } أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار, نحن كنا أولياءكم أي قرناءكم في الحياة الدنيا, نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله, وكذلك نكون معكم في الآخرة, نؤنس منكم الوحشة في القبور, وعند النفخة في الصور, ونؤمنكم يوم البعث والنشور, ونجاوز بكم الصراط المستقيم, ونوصلكم إلى جنات النعيم.
الجزاء من جنس العمل في الثبوت على الصراط في الآخرة
قال ابن القيم من هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله, وأنزل به كتبه هُدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوتُ قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم.
/فهد بن عبدالعزيز الشويرخ
- التصنيف: