قراءة في أحاديث الفتن
حاتم أبو زيد
أقول : مراد الذهبي هنا ليس التدليس بمعناه الاصطلاحي ، الذي هو رواية الرجل عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمعه منه بصيغة محتملة كالعنعنة .
- التصنيفات: الحديث وعلومه -
قراءة في أحاديث الفتن ... حديث اقتتال الأمراء الثلاثة والرايات السود
عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يقتتل عند كنزكم ثلاثة، كلهم ابن خليفة، ثم لا يصير إلى واحد منهم، ثم تطلع الرايات السود من قبل المشرق، فيقتلونكم قتلا لم يقتله قوم ) - ثم ذكر شيئا لا أحفظه فقال - فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوا على الثلج، فإنه خليفة الله المهدي "
الحديث أخرجه ابن ماجة (4084) ، والبزار (10 / 4163) ، والحاكم (4/ 510) من طريق سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي أسماء الرحبي عن ثوبان به .
وهذه أجود الأسانيد لهذه الرواية ، وما دونها فهو واهي لا يحفل به .
وروي من طريق عبد الوهاب بن عطاء عن خالد الحذاء : ( إذا رأيتم الرايات السود خرجت من قبل خراسان... الحديث) موقوفا على ثوبان ولم يرفعه عبد الوهاب ، ولم يذكر قصة الاقتتال.أخرجه الحاكم (4/547) ، والبيهقي في الدلائل (6/ 516). وتلك الرواية الموقوفة لا تعل بها الرواية المرفوعة . ومن جهة الترجيح فسفيان الثوري أرجح كثيرا من عبد الوهاب.
والحديث صححه الحاكم، وقال البزار : إسناده إسناد صحيح. أما ابن كثير فقال : رواه بعضهم عن ثوبان فوقفه، وهو أشبه. وأورد المرفوع في موضع آخر وقال : هذا إسناد قوي صحيح .
وأما الإمام أحمد فقال : (قيل لابن علية في هذا الحديث؟ فقال كان خالد يرويه فلم يلتفت إليه ، ضعف بن علية أمره ، يعني حديث : خالد عن أبي قلابة عن أبي أسماء عن ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرايات). العلل ومعرفة الرجال رواية عبد الله (2/ 325).
وأعله الألباني بعنعنة أبي قلابة .
وأبو قلابة اتهمه الذهبي في الميزان بالتدليس وقال في حقه : (يدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم. وكان له صحف يحدث منها ويدلس).
أقول : مراد الذهبي هنا ليس التدليس بمعناه الاصطلاحي ، الذي هو رواية الرجل عمن لقيه وسمع منه ما لم يسمعه منه بصيغة محتملة كالعنعنة . بل الغالب أن مراده الإرسال الخفي والصريح . وذلك بدلالة قوله : يدلس عمن لم يلحقهم . فلا يتهم راوٍ مطلقا بالتدليس اصطلاحا إذا روى عمن لم يدركه بصيغة محتملة بل يدخل هذا في باب الإرسال. أما إذا روى عمن عاصره ولم يلقه (حسب قول الذهبي : من لحقهم) فهذا يدخل في باب الإرسال الخفي ، لا التدليس .
يؤكد ذلك قول أبو حاتم في الجرح والتعديل : أبو قلابة لا يعرف له تدليس . وجاء هذا في معرض مقارنة بينه وبين قتادة المعروف بالتدليس. حيث قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : قلت لأبي : أبو قلابة عن معاذة أحب إليك أو قتادة عن معاذة؟ فقال : جميعا ثقتان . وأبو قلابة لا يعرف له تدليس.
وأورد الذهبي في سير أعلام النبلاء ما ذكره أبو حاتم وقال : معنى هذا : أنه إذا روى شيئا عن عمر أو أبي هريرة مثلا مرسلا لا يدري من الذي حدثه به ، بخلاف تدليس الحسن البصري، فإنه كان يأخذ عن كل ضرب ، ثم يسقطهم ، كعلي بن زيد تلميذه.
فالمنفي عنه هنا في قول أبي حاتم هو التدليس الاصطلاحي الذي به ترد عنعنة الراوي بدلالة مقارنته بقتادة، حيث قتادة معروف عنه التدليس . والمراد بالتدليس المثبت عنه في قول الذهبي الإرسال وإن عبر عنه بلفظ التدليس.
وبهذا تنتفي تهمة التدليس عن أبي قلابة، وتسقط حجة من ضعف الحديث بعنعنة أبي قلابة . وأبو قلابة معروف بالراوية والسماع من أبي أسماء الرحبي. فعنعته محمولة على الاتصال . وأبو أسماء ثقة. وإنما يتبقى النظر في ما ذكره الإمام أحمد عن ابن علية من تضعيفه للحديث .
وأشير في النهاية : أن التدليس والإرسال كلاهما يتفقان في كون الراوي لم يسمع ما يحدث به من شيخه مباشرة بل بينهم واسطة . ويفترقان في كون التدليس فيه إيهام بسماعه ما يحدث به، لأن الراوي المدلس يكون سمع من شيخه في الجملة أحاديث أخرى، فمن ثم هو يحاول أن يوهم السامع بأنه سمع هذا أيضا . أما الإرسال فلا إيهام فيه بالسماع، لأنه من المعروف أن الراوي لم يلق من يحدث عنه فتحمل رواياته على الانقطاع فورا دون جهد .
وأما من جهة المعنى، فلا أجد وجها لمحاولة البعض إسقاط الحديث على أمراء آل سعود ، فما كان أحد من آل سعود خلفاء ، ولا يدخل ملكهم حتى تحت دائرة الملك الجبري . إنما الملك الجبري بدأ بصعود عسكر الإسلام في نهاية الدولة العباسية وقيامهم بأعباء صد الصليبيين ثم دحر المغول ومحافظتهم على دولة الإسلام ككيان سياسي ، حتى أخذها منهم آل عثمان وقيامهم أيضا بالمحافظة على الكيان السياسي للأمة الذي انهار مع بدايات القرن الماضي . وبدأ ظهور الفرق وقيادتها لشأن المسلمين.