التداوي بالقرآن
** روي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام سأل ربه فقال: يا رب ممن الدواء؟ قال مني. قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أُرسل الدواء على يديه.
{بسم الله الرحمن الرحيم }
اللهم لك الحمد تم نورك فهديت، ولك الحمد عظم حلمك فغفرت، ولك الحمد بسطت يدك فأعطيت، أنزلت كتابك العظيم هدى ورحمة، وجعلته شفاء ونعمة، يذهب عن الأبدان الأدواء والأوصاب، كما يزيل عن القلوب الجهل والشرك والارتياب.
ونصلي ونسلم على رسولك وصفيك، وخليلك ونجيك، سيدنا محمد الذي عرف قدر القرآن، واتخذه دواء يعالج به نفسه وغيره مما ينزل من الأمراض، وحض على التعوذ به مما ينوب من الحوادث والأعراض، ونسألك الرضا على آله الكرام، وصحابته الأعلام، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فمما لا شك فيه أن القرآن الكريم هو الشفاء التام من جميع الأمراض النفسية والعضوية.
قال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً } [الإسراء82]
** روي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام سأل ربه فقال: يا رب ممن الدواء؟ قال مني. قال: فما بال الطبيب؟ قال: رجل أُرسل الدواء على يديه.
** وروي عن موسى عليه السلام: يا رب ممن الدواء والشفاء؟ قال: مني، قال: فما يصنع الأطباء؟ قال: يأكلون أرزاقهم، ويطيبون نفوس عبادي، حتى يأتي شفائي أو قبضي.
** كما روي أن سيدنا موسى عليه السلام انتابه ألم شديد في بطنه وهو في صحراء سيناء فشكا إلى الله تعالى وتضرع إليه طالبا منه الشفاء، فدله الله تعالى على عشب في مكان بالصحراء فذهب إليه موسى، فأكل منه فشفي لساعته، فحمد الله تعالى وانصرف، ثم عاوده المرض بعد حين، فتناول -من تلقاء نفسه- ذاك العشب فلم يذهب مرضه، فكلم الله تعالى في هذا، فقال الله تعالى له: لقد تناولت العشب في المرة الأولى مني فشفيت، وفي المرة الثانية تناولته من نفسك فلم تدعني فلم يذهب مرضك، ألا تعلم يا موسى أن الدنيا كلها سم قاتل وترياقها اسمي.
** وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاءت الأعراب فسألوه: ما خير ما أعطي الناس؟ قال: (خلق حسن) قالوا: يا رسول الله أنتداوى؟ قال: (نعم عباد الله تداووا، فإن الله عز وجل لم يضع في الأرض داء إلا وضع له شفاء، غير داء واحد) قالوا: وما هو؟ قال: (الْهَرَمُ)
** وعن ابن أبي خزامة عن أبيه قال: سألت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقلت: يا رسول الله، أرأيت رقى نسترقيها، ودواء نتداوى به، وتقاة نتقيها، هل يرد من قدر الله شيئاً ؟ قال: (هي من قدر الله)
** قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [ يونس: 57].
** فالقرآن شفاء للقلوب من أمراض الشبهات والوساوس، وشفاء للأبدان من الأسقام، فمتى استحضر العبد هذا المقصد فإنه يحصل له الشفاء النفسي والبدني بإذن الله تعالى.
** فعن علي -رضي الله عنه- قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدواء القرآن) [ابن ماجة، كتاب الطب، باب الاستشفاء بالقرآن، وحسنه بعض أهل العلم، وضعفه الألباني]
وفي رواية (القرآن هو الدواء) [حسنه المناوي، وضعفه الألباني]
وفي رواية (عليكم بالشفاءين: العسل والقرآن) [ابن ماجه وصححه الحاكم والذهبي، وضعفه الألباني]
** كيف يحصل الشفاء بالقرآن ؟
يحصل ذلك بأمرين:
1-القيام به: وخاصة في جوف الليل الآخر مع استحضار نية الشفاء.
2-الرقية به: فالريق الناتج من تلاوة القرآن له أثر عظيم في القوة والنشاط والصحة والعافية لا يماثله أي خلطة من خلطات الأعشاب أو مركب من مركبات الصيادلة.
فينبغي أن نتعامل مع القرآن مباشرة فهو ميّسر لكل من صدق في التعامل معه وجدّ في القيام به.
** روى البخاري عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- « أن ناساً من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- كانوا في سفر، فمروا بحي من أحياء العرب فاستضافوهم، فلم يضيفوهم، فقالوا لهم: هل فيكم راق؟ فإن سيد الحي لديغ أو مصاب، فقال رجل منهم: نعم، فأتاه فرقاه بفاتحة الكتاب فبرأ الرجل، فأعطي قطيعاً من الغنم، فأبى أن يقبلها وقال: حتى أذكر ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأتى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فذكر ذلك له فقال: يا رسول الله، والله ما رقيت إلا بفاتحة الكتاب. فتبسم وقال: (وما أدراك أنها رقية؟) ثم قال: (خذوا منهم واضربوا لي سهمي معكم)»
** وعن عائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- « كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمَسَحُ بِيَدِهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهَا» .
** وفي رواية لمسلم: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا مَرِضَ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِهِ نَفَثَ عَلَيْهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ، فَلَمَّا مَرِضَ مَرَضَهُ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَعَلْتُ أَنْفُثُ عَلَيْهِ وَأَمْسَحُهُ بِيَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَعْظَمَ بَرَكَةً مِنْ يَدِي» .
** وفي رواية عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا فَقَرَأَ فِيهِمَا قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ»
** وروى أبو داود عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: « بَيْنَا أَنَا أَسِيرُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْجُحْفَةِ وَالْأَبْوَاءِ إِذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وَظُلْمَةٌ شَدِيدَةٌ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ بِأَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَأَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ وَيَقُولُ (يَا عُقْبَةُ تَعَوَّذْ بِهِمَا فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا) قَالَ وَسَمِعْتُهُ يَؤُمُّنَا بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ»
** وروى النسائي عن ابْنَ عَابِسٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهُ: «(يَا ابْنَ عَابِسٍ أَلَا أَدُلُّكَ -أَوْ قَالَ أَلَا أُخْبِرُكَ- بِأَفْضَلِ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ الْمُتَعَوِّذُونَ؟) قَالَ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ هَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ)»
** وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخدري قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَى ذَلِكَ.»
** يقول ابن القيم: من المعلوم أنَّ بعض الكلام له خواصُّ ومنافعُ مُجرَّبة، فما الظنُّ بكلام ربّ العالمين، الذي فَضْلُهُ على كل كلامٍ كفضلِ اللهِ على خلقه، الذي هو الشفاءُ التام، والعِصْمةُ النافعة، والنورُ الهادي، والرحمة العامة، الذي لو أُنزِلَ على جبل لتَصَدَّعَ من عظمته وجلالته. قال تعالى: { {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} }[الإسراء: 82].
** ويقول أيضا: ولو أحسن العبد التداوي بالفاتحة لرأي لها تأثيرا عجيبا في الشفاء، ومكثت بمكة مدة تعتريني أدواء ولا أجد طبيبا ولا دواء، فكنت أعالج نفسي بالفاتحة فأري لها تأثيرا عجيبا، فكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألما، وكان كثير منهم يبرأ سريعا
** ولكن ههنا أمر ينبغي التفطن له وهو أن الأذكار والآيات والأدعية التي يستشفى بها هي في نفسها نافعة شافية ولكن تستدعي قبول المحل وقوة همة الفاعل وتأثيره فمتى تخلف الشفاء كان لضعف تأثير الفاعل أو لعدم قبول المنفعل أو لمانع قوي فيه يمنع أن ينجع فيه الدواء كما يكون ذلك في الأدوية والأدواء الحسية
** قال القرطبي في جملة الآداب التي تلزم حامل القرآن:
ومن حرمته ألا يمحوه من اللوح بالبصاق ولكن يغسله بالماء. ومن حرمته إذا غسله بالماء أن يتوقى النجاسات من المواضع والمواقع التي توطأ فإن لتلك الغسالة حرمة وكان من قبلنا من السلف منهم من يستشفي بغسالته .. وقد جاء عن المتقدمين في باب الاحترازات من المخاوف والاستشفاء من الأمراض بآيات القرآن ما هو مذكور في غير هذا الموضع، وأنهم انتفعوا بذلك فكان ذلك أدل دليل على أن القرآن من عند الله تعالى.
ومنها إذا اغتسل بكتابته مستشفيا من سقم ألا يصبه على كناسة ولا في موضع نجاسة، ولا على موضع يوطأ، ولكن في ناحية من الأرض لا يطأها الناس، أو يجد حفرة في موضع طاهر حتى يصب من جسده في تلك الحفرة ثم يكبها، أو نهر كبير فيختلط بمائه فيجري.
** قال العلامة ابن حجر: وقال الربيع: سألت الشافعي عن الرقية فقال لا بأس أن يرقى بكتاب الله وما يعرف من ذكر الله. قلت: أيرقى أهل الكتاب المسلمين قال نعم إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الله
وفي الموطأ أن أبا بكر قال لليهودية التي كانت ترقى عائشة ارقيها بكتاب الله [فتح الباري]
** وقال الحافظ ابن الجوزي في «مناقب الإمام أحمد»:
[الباب الرابع والعشرون في ذكر تبركه واستشفائه بالقرآن وماء زمزم]
عن صالح ابن الإمام أحمد قال: ورُبَّما اعتللت فيأخذ قدحاً فيه ماء، فيقرأ فيه، ثم يقول: اشرب منه، واغسِلْ وجهَكَ ويديك.
** وَقَالَ اِبْن التِّين: الرُّقَى بِالْمُعَوِّذَاتِ وَغَيْرهَا مِنْ أَسْمَاء اللَّه هُوَ الطِّبّ الرُّوحَانِيّ، إِذَا كَانَ عَلَى لِسَان الْأَبْرَار مِنْ الْخَلْق حَصَلَ الشِّفَاء بِإِذْنِ اللَّه تَعَالَى، فَلَمَّا عَزَّ هَذَا النَّوْع فَزِعَ النَّاس إِلَى الطِّبّ الْجُسْمَانِيّ.
** إن العلاج بالأدوية الروحانية أمر معلوم بالدين من الضرورة، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (داووا مرضاكم بالصدقة) والعلاج بالصدقة علاج روحي من سمات أهل الإيمان الذين يستدرون رحمة الله تعالى بفك الكربات والرحمة بعباده المؤمنين
كما أن التداوي بالقرآن ما هو إلا التجاء إلى الله تعالى بكشف الضر بكلامه الذي فيه سره وفيه مظاهر ربوبيته وألوهيته
فإنكار مثل هذه الأدوية الروحانية إنكار ما ثبت عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام، فضلا عن كونه جهل بأسرار الشريعة
جمع وترتيب
د/ خالد سعد النجار
- التصنيف: