الرهبنة .. فطرة مغتالة .. ثم انحراف متحتم!
فهل يستطيع نظام الرهبنة أن يصمد أمام فضائح المتلبسين بثوبه ، أم إنه سينهار في يوم من الأيام كما انهارت جدرانه في ألمانيا على يد مارتن لوثر .
- التصنيفات: النهي عن البدع والمنكرات -
لم تكن الشريعة الإسلامية جافة المشاعر ، ولا غليطة المعاني حين اعتبرت الرهبانية بدعة محدثة تناقض الفطرة ، وتتأبى على حاجات الإنسان السوي .
ولم تكن الشريعة الإسلامية تدعو إلى الشهوانية ، وإلى إطلاق سراح الحاجة الجنسية للإنسان حين دعت إلى النكاح بل إلى تعدد الزوجات .
فلقد أثبتت البحوث الطبية أن احتياج الإنسان إلى قرين مسألة بيولوجية لا بد منها ، كاحتياج الإنسان إلى بعض الأطعمة التي تقوي عظامه ، وتزيد من قدرة الأجهزة في الجسم على العمل والاستمرار .
فالرجل للمرأة والمرأة للرجل ، معادلة جبرية لا حيلة للإنسان فيها ، وأمر قدري من الله تعالى لا مرد له ، وكما قدر الله حاجة الإنسان إلى التزاوج كوناً ، فقد بث هذا القدر المقدور في كل الأديان شرعاً .
ما من شريعة إلا وأمرت بالزواج ، ودعت إليه ، وحضت أتباعها على الاستمساك به نموذجا للحياة ، فرجل وامرأة مع أولادهما صورة لا يمكن للإنسانية أن تنساها ، ولا يمكن لخيال البشر أن يتخيل وجودًا اجتماعيًّا بدونها .
ولكن قدر لبعض الشرائع أن تنحرف بتبديل القائمين عليها لما أمر الله تعالى ، فجعلت تنـزيه الرجل عن شريكة الحياة والمسؤولية مرتبة عالية سامية تؤدي إلى حصول الثواب ، وتسنم قمة الطهارة الإنسانية ، وهكذا قدر للرهبنة أن تتولد فكرةً شوهاء في عقل بعض أتباع النحل والملل .
ولعل أصل حكاية الرهبنة هي الاعتكاف الذي كان يفعله الأنبياء والرسل السابقون ، ولكنه كان اعتكافاً مؤقتاً ، للتعبد والتفكر والتأمل ، وكان أول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام ، ويؤخذ هذا من قول الله تعالى : {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيّاً} [مريم/48] ، وقد وجدت في كل الديانات والشرائع هذا النوع من التعبد ، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه كان يتعبد في غار حراء ـ قبل أن يبعث ـ الليالي ذوات العدد ، كما تروي عائشة رضي الله عنها ، والقصة في صحيح البخاري .
ولكن هذا النوع من التعبد في المغارات ورؤوس الجبال وفي الفيافي والقفار نسخ بتشريع الاعتكاف في المساجد في ملة الإسلام ، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
وعليه فإن الملة الإسلامية لا يشرع فيها الرهبنة التي تشوهت في الملل الأخرى ، بل شرع فيها الاعتكاف في المساجد كما هو معروف صورته عند الكافة من المسلمين كافة .
ولكن هذا النوع من الاعتزال الذي بدأ لغرض واضح معين ، بات طريقة للعبادة عند كثير من النحل ، ولعل أول نحلة قديمة اتخذت من الرهبنة مسلكاً حياتيّاً هي نحلة البوذية ، نسبة لبوذا ، ذلك الرجل الثري الذي نشأ في تخوم الهند أميرًا مترفا قبل الميلاد المسيحي بأكثر خمسمائة عام ، ثم تغير حاله حينما شعر بتعاسة الحياة ، فاعتزل الترف ، وخرج إلى الغابة ، زاعماً حصول الاستنارة عن طريق خلع المتع واللذات ، والاستغراق في التأمل والتفكر الدائمين ، ودعا أتباعه إلى اعتزال الدنيا، وترك الكسب ، والتواكل التام ، وعدم النكاح .
وربما كانت هذه الرهبانية البوذية أول صورة مقننة لمسلك حياتي اعتزالي ، ينأى عن الدنيا وصورها الفطرية ، كتكوين الأسرة ، والسعي في طلب الرزق ، وتربية النشء ، ونحو ذلك .
لا جرم أن كانت كثير من الدراسات تجزم بتأثر الرهبانية النصرانية بأصول بوذية وهندوكية، ويمكننا إرجاع هذا التأثر إلى فترة أسبق من نشأة النصرانية ، وهي فترة استقاء الفلسفة اليونانية من الحكمة الهندية القديمة ، وبخاصة التأثر الفيثاغوري والأفلاطوني ، ثم الأفلوطنـي المعروف بوجود رواسب من ثقافة الشرق القديم الذي تشكل الرهبنة البوذية والهندوكية فيه عنصرًا يكاد يكون أصيلاً .
وعندما حصلت المواجهة بين الوثنية اليونانية التي كانت تستند إلى الفلسفة ، وبين النصرانية السماوية التي تستند إلى الوحي ، حصل انصهار ثقافي حاد ، إثر دخول كثير من فلاسفة اليونان في النصرانية ، وجلبوا معهم إلى نصرانيتهم الجديدة أفكارا فلسفية يونانية مخلوطة بنفحات من حكمة الشرق القديم ، ولقد كانت الرهبنة جزءا من هذا الذي انتقل لا شعوريا عبر المتأثرين بالحكمة الهندية القديمة .
يلاحظ كثير من الدارسين أن الإنجيل لا توجد فيه كلمة واحدة عن الرهبنة ، ولا يعرف عن سيدنا عيسى ـ عليه السلام ـ نفسه ممارسته لهذا الأمر ـ فضلاً عن حوارييه المشاهير ، فمن أين أتت الرهبنة ؟
لقد أتت في القرون اللاحقة ... بعد أن زاد التلاقح بين النصرانية والفلسفة اليونانية القديمة ، فنشأت هذه الفكرة باعتبارها البديل الذي تواجه به النصرانية حكمة الفلاسفة .
لقد كان من أخطر شروط الرهبنة التي اشترطت في أول الأمر عدم النكاح ، بحيث يكون الزواج في حق الراهب كما الكفر الصراح ، وبه يكون خارجًا من سلك الرهبنة ، ولا يكون صالحـًا لنوال الحكمة الإلهية .
وقد استمر هذا الشرط ساريـًا معمولاً به في كل العهود حتى القرن الخامس عشر الميلادي ، حين ثار مارتن لوثر في ألمانيا على الكنيسة الكاثوليكية ، وأطلق إصلاحاته الثورية التي كان من أهمها إلغاء نظام الرهبنة ، بمعنى جواز الكهنوتية بدون رهبنة ، بحيث يجوز للقس أن يكون ذا زوجة وأسرة .
وقد عارضت كل الكنائس والمذاهب النصرانية هذا الانسلاخ البروتوستانتي على يد لوثر ، وجعلت تحارب هذه النحلة الجديدة ؛ باعتبارها هرطقة لا تعبر عن النصرانية .
والجدير بالذكر أن من أسباب منع الرهبنة عند لوثر أنه عندما زار روما للحصول على البركة من البابا وكبار الرهبان ؛ راعه الفساد والانحلال الخلقي الذي كان عليه رجال الدين ، مما جعله يوقن بأن القس ما دام بدون زوجة فإنه سيكون صاحب فطرة منزوعة أو منكوسة .
ومن الكنائس التي استمرت في تقليد الرهبنة ، الكنيسة المرقصية في الإسكندرية بمصر ، وهي من أقدم الكنائس العالمية ، وشروط الرهبنة والكهنوتية فيها من أعسر الشروط على صعيد كنائس العالم .
لم تكن الحقيقة التي رآها مارتن لوثر بعينه وليدة ظرف ، أو رهينة عصر ، بل هي نتيجة حتمية للفطرة إذا حاول أحد تشويهها أو تغيير مسارها ، ولذلك ما فتئت الرهبنة في كل العصور تعلن إفلاسها على يد متقلديها .
في تقرير سري خطير رفع إلى البابا يوحنا بولس الحالي منذ عشر سنوات تقريبـًا ؛ أحصى كثيرًا من حالات الخرق الصريح لنظام الرهبنة من كثير من الرهبان والقساوسة ، وقد ضبط الكثير من الرهبان أثناء ممارستهم لما يخل نظام الرهبنة ، هذا فضلاً عن الشكاوى الكثيرة المقدمة من رعايا الكنائس ، والتي تصرح بوجود رهبان أقرب ما يكونون للذئاب البشرية .
والغريب أن فضائح القساوسة لم تكن بمنأىً عن الكنيسة البروتستانتية التي رخصت لقساوستها الزواج ، فقد شاع بين القساوسة البروتوستانت اتخاذ العشيقات ، وعدم الاكتفاء بالزوجة الواحدة التي حددتها لهم الكنيسة .
ولا ينسى أحد قصة القس " جيمي سويجارت " الذي ناظر الداعية أحمد ديدات ، وكيف أن عشيقته استطاعت أن تقيم الأدلة على وجود علاقة جنسية معه ، مما جعله يقدم اعتذاره لمريديه ( المعدودين بالملايين ) على شاشات التلفاز .
وكذا ما فعله القس السياسي " جيسي جاكسون " الذي اضطر للتواري عن الأنظار بعد افتضاح علاقاته ..
ولم تكن الرهبنة ، البوذية بمنأى أيضا عن هذا الفساد الخلقي ، فقد ضبط في تايلند على مر السنوات الماضية عشرات الرهبان ؛ لارتكابهم أفعالاً مخلة بالرهبنة ، حتى غدا ذلك خبرًا عاديـًّا يذاع في شاشات التلفاز بين الحين والآخر .
وقد كانت أكبر فضيحتين رجتا المجتمع التايلندي منذ عامين : فضيحة راهب مشهور كان يمضي إجازته في البلاد الأوروبية بزعم الدعوة إلى البوذية ، بينما كان في الحقيقة يقضي متعته في حانات أوروبا بالأموال التي تبرع بها مريدوه للعناية بشئون المعبد الكبير الضخم الذي يديره .
والآخر تم تصويره متلبسـًا وهو يخرج من معبده الذي يعتكف فيه بزي عسكري ، فكان يذهب ذلك الراهب إلى المواخير قاضيـًا متعته ثم يعود إلى مظهر الرهبنة ، بينما كانت عدسات بعض المتلصصين تتابعه حتى فضحته على رؤوس الأشهاد .
أما اختلاسات الرهبان وسرقاتهم واحتيالاتهم على الأتباع بزعم الشفاء وإحلال البركة ودفع الحسد وطرد الجن فلا تعد ولا تحصى ، فالمجتمع التايلندي صار ينظر إلى هذه الفضائح نظرة عادية ، الأمر الذي جعل الحكومة تنشئ هيئة حكومية خاصة للرقابة على الرهبان وسلوكهم ، ومتابعة الأحوال المالية للمعابد ؛ لضمان عدم وجود سرقات واختلاسات من الرهبان .
وهكذا ... .فإن الحادثة التي ضجت لها وسائل الإعلام أخيرًا عندما نشرت صحيفة مستقلة فضائح راهب نصراني بالصور الموثقة ، ليست هذه الحادثة نشازا في سياق مناقضة الفطرة التي تتبنها الكنائس ، ولا يمكننا أن نلقي بكل اللوم على أولئك الذين حرموا من ممارسة أخص صفات الإنسانية وهي اللذة والنسل ، بل يجب أن نصب أعظم اللوم على ذلك النظام الأخرق الذي انحرف بالفطرة عن مسارها ، وحاد بحاجة الإنسان عن مقتضياتها .
فهل يستطيع نظام الرهبنة أن يصمد أمام فضائح المتلبسين بثوبه ، أم إنه سينهار في يوم من الأيام كما انهارت جدرانه في ألمانيا على يد مارتن لوثر .
لندع الأيام تجيب لنا عن هذا السؤال .