فضل المنيحة
خالد سعد النجار
من جميل ما يستنبط من الحديث أن المسلم المستقبل لإخوانه على أرضه وبيئته ينبغي أن ينشغل به ويفكر لتيسير حياته، فلا ينزعج بقدومهم عليه، ولا يسخط لازدحام أرضه بهم، ولا يخاف من منازعة رزق محتوم مقسوم له.
- التصنيفات: الآداب والأخلاق -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
روى الإمام مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: « لَمَّا قَدِمَ الْمُهَاجِرُونَ مِنْ مَكَّةَ الْمَدِينَةَ، قَدِمُوا وَلَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، وَكَانَ الْأَنْصَارُ أَهْلَ الْأَرْضِ وَالْعَقَارِ [أي النخل]، فَقَاسَمَهُمْ الْأَنْصَارُ عَلَى أَنْ أَعْطَوْهُمْ أَنْصَافَ ثِمَارِ أَمْوَالِهِمْ كُلَّ عَامٍ وَيَكْفُونَهُمْ الْعَمَلَ وَالْمَئُونَةَ، وَكَانَتْ أُمُّ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهِيَ تُدْعَى أُمَّ سُلَيْمٍ .. وَكَانَتْ أَعْطَتْ أُمُّ أَنَسٍ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِذَاقًا لَهَا [جمع عَذق وهي النخلة ككلب وكلاب] فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّ أَيْمَنَ مَوْلَاتَهُ أُمَّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ»
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «فَأَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ قِتَالِ أَهْلِ خَيْبَرَ وَانْصَرَفَ إِلَى الْمَدِينَةِ، رَدَّ الْمُهَاجِرُونَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ الَّتِي كَانُوا مَنَحُوهُمْ مِنْ ثِمَارِهِمْ. قَالَ: فَرَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى أُمِّي عِذَاقَهَا، وَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُمَّ أَيْمَنَ مَكَانَهُنَّ مِنْ حَائِطِهِ.»
** هذا الحديث رواه مسلم في: «بَاب رَدِّ الْمُهَاجِرِينَ إِلَى الْأَنْصَارِ مَنَائِحَهُمْ مِنْ الشَّجَرِ وَالثَّمَرِ حِينَ اسْتَغْنَوْا عَنْهَا بِالْفُتُوحِ» ورواه البخاري في: «بَاب فَضْلِ الْمَنِيحَةِ».
قال أهل اللغة: المِنحة والمَنيحة هي العطية، وتكون في الحيوان وفي الثمار وغيرهما، ثم قد تكون المنيحة عطية للرقبة بمنافعها وهي الهبة، وقد تكون عطية اللبن أو الثمرة مدة، وتكون الرقبة باقية على ملك صاحبها ويردها إليه إذا انقضى اللبن أو الثمر المأذون فيه.
** قال العلماء: لما قدم المهاجرون آثرهم الأنصار بمنائح من أشجارهم، فمنهم من قبلها منيحة محضة، ومنهم من قبلها بشرط أن يعمل في الشجر والأرض وله نصف الثمار، ولم تطب نفسه أن يقبلها منيحة محضة، هذا لشرف نفوسهم وكراهتهم أن يكونوا كلا، وكان هذا مساقاة أو مزارعة، وهي شرعا: دفع الشجر إلى من يصلحه بجزء من ثمره.
** فلما فتحت عليهم خيبر استغنى المهاجرون بأنصبائهم فيها عن تلك المنائح، فردوها إلى الأنصار، ففيه فضيلة ظاهرة للأنصار في مواساتهم وإيثارهم وما كانوا عليه من حب الإسلام وإكرام أهله وأخلاقهم الجميلة ونفوسهم الطاهرة، وقد شهد الله تعالى لهم بذلك، فقال تعالى: { {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} } [الحشر9]
** قوله (فأعطاها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أم أيمن) هذا دليل على أنه لم يكن كل ما أعطت الأنصار على المساقاة بل كان فيه ما هو منيحة ومواساة، وهذا منه، وهو محمول على أنها أعطته -صلى الله عليه وسلم- ثمارها يفعل فيها ما شاء من أكله بنفسه وعياله وضيفه وإيثاره بذلك لمن شاء، فلهذا آثر بها أم أيمن، ولو كانت إباحة له خاصة لما أباحها لغيره لأن المباح له بنفسه لا يجوز له أن يبيح ذلك الشيء لغيره، بخلاف الموهوب له نفس رقبة الشيء فإنه يتصرف فيه كيف شاء.
** قوله (رد المهاجرون إلى الأنصار منائحهم التي كانوا منحوهم من ثمارهم) هذا دليل على أنها كانت منائح ثمار، أي: إباحة للثمار لا تمليك لرقاب النخل، فإنها لو كانت هبة لرقبة النخل لم يرجعوا فيها، فإن الرجوع في الهبة بعد القبض لا يجوز، وإنما كانت إباحة كما ذكرنا، والإباحة يجوز الرجوع فيها متى شاء، ومع هذا لم يرجعوا فيها حتى اتسعت الحال على المهاجرين بفتح خيبر واستغنوا عنها فردوها على الأنصار فقبلوها.
** في زيادة لمسلم بعد هذا الحديث .. قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: «وَكَانَ مِنْ شَأْنِ أُمِّ أَيْمَنَ أُمِّ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهَا كَانَتْ وَصِيفَةً لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَكَانَتْ مِنْ الْحَبَشَةِ فَلَمَّا وَلَدَتْ آمِنَةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا تُوُفِّيَ أَبُوهُ فَكَانَتْ أُمُّ أَيْمَنَ تَحْضُنُهُ حَتَّى كَبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْتَقَهَا ثُمَّ أَنْكَحَهَا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تُوُفِّيَتْ بَعْدَ مَا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ» .
** في رواية أخرى لمسلم عَنْ أَنَسٍ «أَنَّ رَجُلًا وَقَالَ حَامِدٌ وَابْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَجْعَلُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّخَلَاتِ مِنْ أَرْضِهِ حَتَّى فُتِحَتْ عَلَيْهِ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ فَجَعَلَ بَعْدَ ذَلِكَ يَرُدُّ عَلَيْهِ مَا كَانَ أَعْطَاهُ. قَالَ أَنَسٌ: وَإِنَّ أَهْلِي أَمَرُونِي أَنْ آتِيَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَسْأَلَهُ مَا كَانَ أَهْلُهُ أَعْطَوْهُ أَوْ بَعْضَهُ وَكَانَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَعْطَاهُ أُمَّ أَيْمَنَ فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِيهِنَّ فَجَاءَتْ أُمُّ أَيْمَنَ فَجَعَلَتْ الثَّوْبَ فِي عُنُقِي، وَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَا نُعْطِيكَاهُنَّ وَقَدْ أَعْطَانِيهِنَّ. فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أُمَّ أَيْمَنَ اتْرُكِيهِ وَلَكِ كَذَا وَكَذَا وَتَقُولُ كَلَّا وَالَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، فَجَعَلَ يَقُولُ كَذَا حَتَّى أَعْطَاهَا عَشْرَةَ أَمْثَالِهِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ عَشْرَةِ أَمْثَالِهِ» .
وإنما فعلت هذا -رضي الله عنها- لأنها ظنت أنها كانت هبة مؤبدة وتمليكا لأصل الرقبة، وأراد النبي صلى الله عليه وسلم استطابه قلبها في استرداد ذلك، فما زال يزيدها في العوض حتى رضيت، وكل هذا تبرع منه صلى الله عليه وسلم واكرام لها لما لها من حق الحضانة والتربية.
** أم أيمن اسمها «بركة» وكانت حبشية سوداء، وكانت وصيفة لعبد الله بن عبد المطلب، وهي إحدى حواضن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها، وهي زوجة زيدٍ رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وأم أسامة بن زيد.
//وكانت أم أيمن تحدث تقول: كنت أحضن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فغفلت عنه يوما فلم أدر إلا بعبد المطلب قائما على رأسي يقول: يا بركة. قلت: لبيك. قال: أتدرين أين وجدت ابني؟ قلت: لا أدري. قال: وجدته مع غلمان قريبا من السدرة، لا تغفلي عن ابني، فإن أهل الكتاب يزعمون أن ابني نبي هذه الأمة، وأنا لا آمن عليه منهم، وكان لا يأكل طعاما إلا قال علي بابني فيؤتي به إليه
//وقالت أم أيمن -وكانت تحضنه- ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شكا جوعا قط ولا عطشا، وكان يغدوا إذا أصبح فيشرب من ماء زمزم شربة فربما عرضنا عليه الغذاء فيقول لا أريده أنا شبعان
** في فضائل أم أيمن روى الإمام مسلم:
//عَنْ أَنَسٍ قَالَ «انْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ فَنَاوَلَتْهُ إِنَاءً فِيهِ شَرَابٌ قَالَ فَلَا أَدْرِي أَصَادَفَتْهُ صَائِمًا أَوْ لَمْ يُرِدْهُ. فَجَعَلَتْ تَصْخَبُ عَلَيْهِ وَتَذَمَّرُ عَلَيْهِ»
(تَصْخَبُ) أي: تصيح وترفع صوتها إنكارا لإمساكه عن شرب الشراب، وقوله (تَذَمَّرُ) أي تتذمر وتتكلم بالغضب .. ومعنى الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رد الشراب عليها أما لصيام وإما لغيره، فغضبت وتكلمت بالإنكار والغضب، وكانت تدل عليه -صلى الله عليه وسلم- لكونها حضنته وربته -صلى الله عليه وسلم-، وجاء في الحديث: (أم أيمن أمي بعد أمي)، وفيه أن للضيف الامتناع من الطعام والشراب الذي يحضره المضيف إذا كان له عذر من صوم أو غيره.
//عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُمَرَ انْطَلِقْ بِنَا إِلَى أُمِّ أَيْمَنَ نَزُورُهَا كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَزُورُهَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَيْهَا بَكَتْ فَقَالَا لَهَا: مَا يُبْكِيكِ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: مَا أَبْكِي أَنْ لَا أَكُونَ أَعْلَمُ أَنَّ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَكِنْ أَبْكِي أَنَّ الْوَحْيَ قَدْ انْقَطَعَ مِنْ السَّمَاءِ. فَهَيَّجَتْهُمَا عَلَى الْبُكَاءِ فَجَعَلَا يَبْكِيَانِ مَعَهَا»
** من جميل ما يستنبط من الحديث أن المسلم المستقبل لإخوانه على أرضه وبيئته ينبغي أن ينشغل به ويفكر لتيسير حياته، فلا ينزعج بقدومهم عليه، ولا يسخط لازدحام أرضه بهم، ولا يخاف من منازعة رزق محتوم مقسوم له.