طوبى لهؤلاء الصوام
وطوبى لصائم صام الصيام الصحيح، فصامت جوارحه الظاهرة عما حرَّم الله، فامتنع لسانه من الكلام الفاحش من كذبٍ وغيبةٍ ولغو، وغضَّ بصرَه عن النظر إلى الحرام، وصمَّ أذنيه عن سماع ما لا يحل
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد:
فوعد الله عز وجل الذين آمنوا وعملوا الصالحات بـ"طوبى"؛ فقال سبحانه وتعالى: ﴿ {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ} ﴾ [الرعد: 29]؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: فرح وقُرة عينٍ، وقال عكرمة رحمه الله: نعم ما لهم، وقال الضحاك رحمه الله: غِبطة لهم، وقال إبراهيم النخعي رحمه الله: خير لهم، وقال قتادة رحمه الله: هي كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك؛ أي: أصبتَ خيرًا.
فطوبى لصائم عرَف فضل وقدر رمضان: شهر الخير والإحسان، والتجارة الرابحة مع الكريم الرحمن، فحرَص أن تكون جميع أعماله قربةً لله، فإن صام بالنهار أو قام في الليل، فعَل ذلك طاعةً للرحمن، لا محاكاة وتقليدًا للأهل والخِلان؛ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( «مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدَّم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه» ) [متفق عليه] وإن أكل أو شرِب أو نام، نوى بذلك تقويةَ بدنه على الصيام والقيام، يرجو بذلك الثواب من الله
وطوبى لصائم صام الصيام الصحيح، فصامت جوارحه الظاهرة عما حرَّم الله، فامتنع لسانه من الكلام الفاحش من كذبٍ وغيبةٍ ولغو، وغضَّ بصرَه عن النظر إلى الحرام، وصمَّ أذنيه عن سماع ما لا يحل، فصامت الأذن والعين واللسان قبل البطن والفرج؛ لأنه يعلم أنه لا يتم التقرب إلى الله تعالى بترك الشهوات المباحة في غير الصيام إلا بعد التقرب إليه بترك ما حرَّمه الله في كل حال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( «من لم يدَع قولَ الزور والعملَ به، فليس لله حاجة في أن يدعَ طعامه وشرابه» )؛ [أخرجه البخاري].وقال عليه الصلاة والسلام: ( «ربَّ صائمٍ حظُّه من صيامه الجوعُ والعطشُ، وربَّ قائمٍ حظُّه من قيامه السهر» )؛ [أخرجه أحمد].
وطوبى أكثر وأكثر لمن أدرك أن الحكمة من الصيام هي تقوى الرحمن؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } ﴾ [البقرة: 183]، فوطَّن نفسه أن يكون صيام الجوارح طبيعةً له وسجيةً بعد رمضان، لا يخرم ذلك إلا سهو ونسيان!
وطوبى لصائم اجتهد في الصيام والقيام وصالح الأعمال منذ بداية الشهر، فلما دخلت العشر، زاد اجتهاده، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنهما، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، شدَّ مئزرَه وأحيا ليلَه وأيقظ أهله، وفي رواية لمسلم عنها قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» .
فهو يجتهد في العشر، لعلمه أنَّ آخر الشهر أفضل من أوله، ففي العشر ليلة القدر، من أحياها نال عظيم الأجر؛ قال الله عز وجل: ﴿ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} ﴾ [القدر: 1 - 3]، فالعمل الذي يقع فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر خالية منها، وقال علية الصلاة والسلام:( «مَن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه» )[متفق عليه]
ويكثر في ليالي هذا العشر من الدعاء بالعفو، «قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وافقتُ ليلة القدر، ما أقول فيها؟ قال: (قولي: اللَّهُمَّ إنك عفو تُحبُّ العفو فاعفُ عني)» ؛ [أخرجه الترمذي].
وطوبى له أكثر إن جاهد نفسَه، فجعل اجتهاده في العشر بالاعتكاف، فأحيا باعتكافه سنةً هجرها كثيرٌ من الناس، ففي الصحيحين عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفَّاهُ الله.
وطوبى لصائم أكثر في هذا الشهر من تلاوة القرآن، مجاهدًا نفسه في تدبُّر وفَهم ما يقرأ، عازمًا ألا يكون آخر العهد بتلاوة القرآن ختام الشهر، بل يوطِّن نفسه أن يبدأ بعد رمضان في تلاوته متدرجًا، حتى يختم في الشهر ما استطاع من ختمات، على ألا يختم في أقل من ثلاثة أيام، فتلاوة القرآن تشفع لصاحبها عند الرحمن؛ قال رسول الله علية الصلاة والسلام: «(اقرؤوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه)» ؛ [أخرجه مسلم]؛ قال العلامة عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله: القرآن يشفع لمن أحلَّ حلاله وحرامه، واستقام على تعاليمه.
وطوبى لصائم صام رمضان وعزَم أن يكون صيام التطوع عادةً له بعد رمضان، فيبدأ بصيام ست من شوال؛ قال علية الصلاة والسلام: «(مَن صام رمضان، ثم أتبعه ستًّا من شوالٍ، كان كصيام الدهر)» ؛ [أخرجه مسلم].
ثم يستمر في صيام التطوع متدرجًا في الصيام من يوم إلى أيام، منتهيًا إن أعانه الله إلى أفضل الصيام: صوم يوم وإفطار يوم، فالصيام أجرُه عظيم، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(كلُّ عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف؛ قال الله عز وجل: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)» ؛ قال الإمام القرطبي رحمه الله: الأعمال قد كشفت لبني آدم مقاديرَ ثوابها وتضعيفها إلا الصوم، فإن الله يثيب عليه بغير تقدير.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «(إن في الجنة بابًا يُقال له: الريَّان، يدخل منهُ الصائمون، لا يدخل منه غيرهم)» ، وفي رواية: (فإذا دخلوا أُغلق)، وفي رواية: (من دخل منه شرِب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا)، قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من ترك لله في الدنيا طعامًا وشرابًا وشهوةً مدة يسيرةً، عوَّضه الله عنده طعامًا وشرابًا لا يَنفَدُ، وأزواجًا لا يَمُتْنَ أبدًا.
وقد قال أبو أمامة رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني قال: «(عليك بالصوم فإنه لا عدل له)» ؛ [أخرجه أحمد]، فكان أبو أمامة وأهله يصومون، فإذا رئِي في بيتهم دخان بالنهار، عُلِم أنه قد نزل بهم ضيف.
وطوبى لصائم قام رمضان، وعزَم أن يجاهد نفسه بعد رمضان على قيام الليل ولو بشيءٍ يسير إلى أن تعتاد النفس ذلك، يدفعه لذلك طلب رضا الرحمن، وتكفير السيئات؛ قال علية الصلاة والسلام: «(قيام العبد في جوف الليل يكفِّر الخطيئة)» ، ثم تلا:﴿ { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ﴾ [السجدة: 16][أخرجه الإمام أحمد]
قال بعض السلف: قيام الليل يهوِّن طول القيام يوم القيامة؛ قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: كم من قائمٍ لله تعالى في هذا الليل قد اغتبط بقيامه في ظُلمة حُفرته، وكم من نائم في هذا الليل قد ندِم على طول نومه عندما يرى من كرامة الله عز وجل للعابدين غدًا!
وطوبي لصائم جاد بما أعطاه الله في رمضان؛ ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما: «(كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان)» ، وقال عليه الصلاة والسلام: «(مَن فطر صائمًا فله مثلُ أجره، من غير أن ينقص من أجر الصائم شيءٌ)» ؛ [أخرجه أحمد والترمذي].
وطوبى أكثر إذا عزَم أن يستمر في جوده وعطائه بعد رمضان، فيجود بما وهبه الله مِن علمٍ ومال وجاهٍ لنفع إخوانه المسلمين.
وطوبى لصائم أدرَك أن شهر رمضان لا يعني تسمين الأبدان، وإنما هو موسم لتقليل الطعام والشراب، فمن أسرف في ذلك ثقُلت عليه الطاعات، وتكدَّر عليه نومُه، وأصابه الكسل في نهاره، ومن أخذ حاجته انتفع بطعامه وشرابه، وسلِم مِن تبعاته؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «(ما ملا آدمي وعاءً شرًّا من بطن، بحسب ابن آدم أُكُلات يُقمن صُلبه، فإن كان لا محالة، فثُلث لطعامه، وثُلُث لشرابه، وثُلُث لنفَسه)» ؛ [أخرجه أحمد والترمذي].
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: روى أنَّ ابن ماسويه الطبيب لَمَّا قرأ هذا الحديث في كتاب أبي خيثمة، قال: "لو استعمل الناس هذه الكلمات، سلِموا من الأمراض والأسقام، ولتعطَّلت دكاكين الصيادلة"، وإنما قال هذا؛ لأن أصل كل داءٍ التُّخم، فهذه بعض منافع تقليل الغذاء بالنسبة إلى صلاح البدن وصحته، وأما منافعه بالنسبة إلى القلب وصلاحه، فإن قلة الغذاء توجب رقَّة القلب، وقوة الفَهم، وانكسار النفس، وضَعف الهوى والغضب، وكثرة الغذاء توجبُ ضدَّ ذلك؛ كتب سفيان الثوري: إن أردت أن يصحَّ جسمك، ويقلَّ نومك، فأقلَّ من الأكل.
وطوبى أكثر لصائم غافلٍ استيقظ مِن غفلته وقام مِن رَقدته فهو يرى أقرانه وأحبابه يؤخذون، وفي القبور يوضعون، فلا يدري متى يكون معهم، فقد يُصبح ويكون في المساء رفيقًا لهم، وقد يُمسي ويكون في الصباح جارًا لهم، فتخيَّلهم والكرب يغشاهم: ﴿ { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} ﴾ [ق: 19] فيا لها من ساعة لا تُشبهها ساعة يندم فيها أهل التقى فكيف بأهل الإضاعة!
ساعة يجتمع فيها شدة الموت إلى حسرة الفوت، عند ذاك تنبَّه هذا الصائم المفرِّط، فقال لنفسه: إن كان هؤلاء لا يستطيعون أن يقدِّموا لأنفسهم شيئًا، فإن الرحيم قد أبقاك، فلتَتدارك ما فاتك، فكل يوم يمرُّ يُقربك من أجلك، وذنوبك في ازدياد، ومعاصيك أكثر من رمل كثيب، قد امتلأ بها كتابُك، والنار للعصاة خُلِقت، فلتخشَ العواقب، ولتعلَم أنك مسؤول عن أفعالك، محاسب على أعمالك، ولا نجاة من النيران مع الإقامة على الذنوب والعصيان، فعزَم عند ذاك على التوبة والإنابة، فقرَن ذنبَه بالاعتذار، وتلاه باستغفار آناء الليل وأطراف النهار، وبكى على الذنوب الماضية، وندم على الخطايا السابقة، وخرج من ظلمات المعاصي إلى نور الطاعة، فكان هذا الشهر بداية حياة جديدة له، فطوبى له، ونسأل الله الثبات.
وطوبى لصائم إذا اقترَب فِراقُ الشهر، تألَّم قلبُه، وحزِنت نفسه على فراق شهره، فهو لا يدري أكان فيه من المقبولين أم من المحرومين؟ قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: كان السلف الصالح يجتهدون في إتمام العمل وإكماله وإتقانه، ثمَّ يهتمُّون بعد ذلك بقَبوله ويخافون من ردِّه، وهؤلاء الذين ﴿ {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} ﴾[المؤمنون: 60]، رُوي عن علي قال: كونوا لقبول العمل أشدَّ اهتمامًا منكم بالعمل، ألم تسمعوا الله عز وجل يقول: ﴿ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} ﴾ [المائدة: 27].
وطوبى لصائم إذا أهلَّ شهر شوال، أكثر من الاستغفار، فبالاستغفار تُختم الأعمال؛ قال لقمان لابنه: يا بُني، عوِّد لسانك الاستغفار، فإن لله ساعاتٍ لا يردُّ فيهنَّ سائلًا، ومع الاستغفار يسأل الله أن يُعينه على لزوم الطاعة بعد رمضان، فما أجمل الطاعة بعد الطاعة، ومن علامات قبول الطاعة الاستمرار والثبات عليها، جعلنا الله وإياكم وجميع إخواننا ذلك الصائم. كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
- التصنيف: