فريضة الزكاة وفوائدها
المال إن لم يتركك ستتركه أنت، ولا يبق بعد ذلك إلا شرف الذكر وحسن العمل. يقول صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت»
- التصنيفات: فقه الزكاة -
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بُنِيَ الإسْلَامُ علَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسولُ اللَّهِ، وإقَامِ الصَّلَاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، والحَجِّ، وصَوْمِ رَمَضَانَ». فهذه أركان الإسلام وأسسه وأعمدته التي عليها بني.
ومن هذه الأسس التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم فريضة الزكاة.
فالزكاة حق لله في ماله الذي وهبه لعباده وأغنى به نفرا من خلقه، فشرع لهم وفرض عليهم أنهم يخرجونها من هذا المال الذي وهبهم وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأخذها منهم.. فقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [التوبة:103].
فهي فريضة في أعناقهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم فهي حق واجب في أموال الأغنياء {والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم}.
شعيرة وعبادة
والزكاة في الإسلام ليست مجرد عمل طيب من أعمال الخير والبر، ولكنها ركن أساسي من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره الكبرى، وعبادة من عباداته، وعمود من أعمدته، يوصم بالفسق من منعها، فليست إحسانًا اختياريًا ولا صدقة تطوعية، وإنما هي فريضة تتمتع بأعلى درجات الإلزام الخلقي والشرعي، وهي في نظر الإسلام حق للفقراء في أموال الأغنياء، فليس فيها أي معنى من معاني التفضل والامتنان ممن يخرجها على من يعطيها له.
لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذا إلى اليمن قال: «إِنَّكَ تَأْتِى قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَنِّى رَسُولُ اللَّهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِى فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوا لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ».
فكل مسلم وهبه الله مالا بلغ نصابا، وحال عليه الحول، خال من الديون أو توفرت فيه شروط الزكاة وجب عليه زكاته، وهو مطالب بأن يخرج هذه الزكاة، وأن يقيم هذا الركن الأساسي من أركان الإسلام، عبادة يتقرب بها المسلم إلى الله تعالى وشكرا له على ما وهبه وأنعم عليه.
وأي إنسان منعها بخلا أخذت منه عنوة، وفي بعض الأحاديث تؤخذ ومعها شطر ماله؛ عقوبة له وتنكيلا به، لئلا يعود، وليكون عبرة لأمثاله. هذا ما صرحت به الأحاديث الصحيحة، وما طبقه الخليفة الأول أبو بكر ومن معه من الصحابة الكرام رضى الله عنهم.
رحمة الله في الزكاة
الزكاة علامة ودلالة على رحمة الله بخلقه، فإنه سبحانه رزقهم المال، ولم يطلب منهم زكاة حتى يبلغ المال نصابا معينا (85 جراما من الذهب الخالص عيار24)، فلم يفرضها على الفقراء، وإنما على الأغنياء منهم، فهو يغني ثم يطلب، ثم لما أخذ أخذ نذرا قليلا (2.5بالمائة) وترك لهم أغلب مالهم (97.5بالمائة).. مع أن بعض أنظمة الأرض تأخذ ضرائب من مواطنيها تبلغ أربعين بالمائة أحيانا وزيادة.
من فوائد الزكاة ومنافعها
الزكاة فريضة فرضها الله على أغنياء المسلمين ترد على فقرائهم كما قلنا، ومع أنها طاعة لله واستجابة إلا أنها مع ذلك فيها فؤائد كثيرة ومنافع كبيرة ومصالح وفيرة:
أولا: دليل على إيمان صاحبها: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [والصدقة برهان].. أي برهان وعلامة ودليل على إيمان مخرجها ومؤديها.. فهي دليل على إيمانه بالله تبارك وتعالى، واعترافه بفضله وإحسانه وإنعامه عليه فهو يؤدي حق الله شكرا لنعمته. وهي دليل على إيمانه بأن الله أرسل رسوله، وشرع له شرعا، منه هذه الفريضة الطيبة الزكاة، فأداها عن رغبة ورضا وتسليم لأمر ربه، وتقديمه لرضى الله على محبوبات نفسه.
فأداء الزكاة علامة إيمان وإحسان، كما أن منعها دليل نفاق، وعنوان شقاق {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم}، {ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفاقا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون} [التوبة].
ثانيا: تطهير وتزكية للنفس: قال تعالى {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها}.. فهي تطهر النفس من الشح والبخل، وتحميها من التعلق الشديد بالدنيا. وتخفف من ولوعها بالمال، وارتباط القلب به فتحررها من عبودية الدرهم والدينار.
ثالثا: تطهير المال ومباركته: فإنما سميت الزكاة زكاة لأنها تزكي المال.. أي تطهره وتنميه وتنزل البركة فيه.. روى الإمام أحمد في مسنده عن أنس [أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله.. إني ذو مال كثير وذو أهل وذو حاضرة، فأخبرني كيف أصنع وكيف أنفق؟ فقال صلى الله عليه وسلم: «تخرج الزكاة من مالك؛ فإنها طهرة تطهره، وتصل أقرباءك وتعرف حق المسكين والجار والسائل» (رواه أحمد). فالزكاة بركة وطهارة ونماء وزيادة في المال والدين.
رابعا: التكاتف وإشاعة المحبة بين أبناء المجتمع:
فأخذ الصدقة من الأغنياء يشعرهم بعضويتهم الكاملة في الجماعة المسلمة، فهم يشاركون في واجباتها، وينهضون بأعبائها، وهم لم ينبذوا منها ولم ينبتوا عنها، فيستأثروا بالمال دون الفقراء والمعوزين، وإنما عاشوا حياة الأخوة ورابطة وآصرة الإيمان والإنسانية والمواطنة.
والفقير يشعر أنه ليس ضائعا في المجتمع، ولا متروكا لفقره وعوزه، ويستمتع بكرامته عندما يأخذ حقه. وربما تكون الزكاة منطلقا ليكون من ذوي اليد العليا يعطي بدوره الزكاة، وذلك إذا أعطي له من الزكاة ما يقيم به مشروعا أو زود بأدوات العمل. فهي تزكيةٌ وتطييبٌ وتطهير للنفوس التي رد عليها نصيب من المال، تسد به الحاجة، فتختفي أسباب الحقد الطبقي.
خامسا: إغناء الفقراء: إذ إن من مقاصد الزكاة إغناء الفقراء، وليس مجرد معونة وقتية، فيعطى الفقراء من مال الزكاة ما يستأصل شأفة العوز من حياتهم، ويمكنهم من أن ينهضوا وحدهم بعبء المعيشة، أو يقيموا مشروعا صغيرا يدر عليهم ربحا يكفيهم ويغنيهم ويحفظهم عن ذل المسألة ومد اليد للأخذ في كل مرة، بل ربما نقلهم إلى درجة المعطين المخرجين، فتكون يدهم هي العليا بدلا من أن تكون دائما السفلى. فالزكاة إغناء لا مجرد إعطاء.
سادسا: الزكاة مورد عظيم من موارد بيت المال المسلم: يعين الدولة على رفع اقتصادها وسد حاجة عدد ليس بقليل من رعاياها.. ثم إن لها مصارف أخرى كلها فيها مصالح للدين والدنيا معا.
منع الزكاة يهلك المال ويذهب بركته
ومع أن الزكاة قدر يسير ونذر قليل مما وهب الله، يترتب عليه أجر كثير، وخلف من الله كبير، وعلى رغم كل ما فيها من المنافع لنفس صاحبها وماله، إلا أن بعض الناس يبخل على الله بماله، ويمنع حق الله فيه، ظنا منه أن الزكاة تنقص المال وتقلله. وهو سوء ظن بالله؛ فقد أقسم النبي أنه: [ما نقص مال من صدقة].
فالصدقة لا تنقص المال بل تزيده، ومن تعامل مع الله عرف وليس من رأى كمن سمع.. وقد قال جل في علاه: {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين}، وهو القائل: {من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له}، وفي الحديث الصحيح: «ما مِن يَومٍ يُصْبِحُ العِبادُ فِيهِ، إلَّا مَلَكانِ يَنْزِلانِ، فيَقولُ أحَدُهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (متفق عليه).
فحصنوا أموالكم بالزكاة، وكثروا أموالكم بالصدقات، فإنها ما بقيت الزكاة في مال لم تخرج منه إلا أفسدته وأذهبت بركته. كما في حديث عائشة قَالَ صلى الله عليه وسلم: «مَا خَالَطَتِ الصَّدَقَةُ مَالاً إِلاَّ أَهْلَكَتْهُ» (رواه البيهقي).
وتوعد النبي صلى الله عليه وسلم من يماطل في أدائها بنزع البركة من الأموال وتسليط الآفات عليها، وحبس الأمطار، والابتلاء بالمجاعة والقحط؛ وفي ذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم: «... ولم يمنعوا الزكاة إلا منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا» (رواه الحاكم).
إن المال غاد ورائح، وموروث عن صاحبه، وهو عارية والعارية مستردة، والمال إن لم يتركك ستتركه أنت، ولا يبقى بعد ذلك إلا شرف الذكر وحسن العمل. يقول صلى الله عليه وسلم: «يقول ابن آدم مالي مالي، وهل لك يا ابن آدم من مالك إلا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدقت فأمضيت» . وفي الحديث: «يَتْبَعُ المَيِّتَ ثَلاثَةٌ، فَيَرْجِعُ اثْنانِ ويَبْقَى معهُ واحِدٌ: يَتْبَعُهُ أهْلُهُ ومالُهُ وعَمَلُهُ، فَيَرْجِعُ أهْلُهُ ومالُهُ ويَبْقَى عَمَلُهُ» (رواه البخاري ومسلم).
والله ما سمعنا أن رجلا أدخل معه ماله في قبره، ولا دفتر شيكات، ولا ذهب ولا فضه.. بل ذهب كل الذهب، ومال عنه كل المال.
بل يبقى المرء حياته يجمع المال ويوعيه ويحفظه ويحميه، ويزيده وينميه، ثم فجأة إذا بالموت يأتيه، فيترك المال لمن لا يحمده، ويذهب إلى من يسأله عنه ويحاسبه ولا يعذره.. وما أعظمها من مصيبة، كما قال يحيى بن معاذ: "مصيبتان للمرء في ماله لم تسمع بهما الخلائق: يموت ويتركه كله.. ويسأل عنه كله".