إنك مَيّت !
ولذكر الموت فائدة أخرى هي تحرير الإنسان من وهم الخلود الذي يغذيه طول الأمل. ومعلوم أن قصر الأمل من أنفع الأشياء للعبد الفاني، لأنه يورث القناعة، ويُعجل بالتوبة، ويزيد من الإقبال على الطاعة.
إحدى مفارقات المسلم المعاصر تمكن في اعترافه بأن الموت حقيقة ناصعة، ويقين يتجدد باستمرار كلما شقت جنازة بسكونها المهيب صخبَ الحياة وروتين العيش؛ غير أنه لا يكف عن تجاهل الموت ونسيانه، والإصرار على أن يظل حضوره اليومي تعبيرا جارفا عن حب الدنيا وطول الأمل !
لاشك أن الموت مزعج حين يُذكر الإنسان بصورته الفانية، وبحتمية المصير الذي تحمله إليه خُطاه مهما تعددت وطالت. والقرآن الكريم نفسه يصف الموت بالمصيبة، والحدث المباغت، والزائر الذي لا مفر من ملاقاته ولو خلف بروج مشيدة. لكن بالمقابل هناك نص صريح على ضرورة التفاعل معه واستحضاره بشكل دائم، واعتباره جزءا من منظومة أخلاقية تروم إصلاح النفس وتهذيب القلب. ففي ثنايا كتب الحديث تطالعنا عشرات التوجيهات النبوية التي تؤسس لتعايش مستمر مع الموت، كحديث أبي هريرة رضي الله عنه في سنن ابن ماجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( «أكثروا ذكر هاذم اللذات» ))2/1422، وجوابه على السائل :أي المؤمنين أكيس؟ بالقول:(( «أكثرهم للموت ذكرا، وأحسنهم لما بعده استعدادا، أولئك الأكياس» )).
كيف نُوفق إذن في حياتنا اليومية بين ما تثيره واقعة الموت من مخاوف وبين الحض النبوي على الإكثار من ذكره؟
وهل تتيح ثقافتنا المجتمعية أن يصبح الموت حديثَ المجالس، ودردشة عادية تفكك ارتباطه المألوف بصالونات العزاء وخطب النعي؟
ألم يكن من عادة السلف أن يجتمعوا في مجلس يذكرون فيه الموت ويبكون، دون أن يثير الأمر استغرابا أو امتعاضا؟
ليس خفيا أن ثقافتنا المجتمعية هي اليوم أكثر عرضة لألوان المؤثرات الفكرية والتربوية غير الأصيلة، والتي تتعارض مع الدين وروح الشريعة. وزاد الاتساع الهائل لتكنولوجيا الاتصال في تعميق الهوة بين المسلم ومنظومة قيمه، باسم الحداثة أو بذريعة التقارب الإنساني مع الثقافات الأخرى. هكذا صار الحديث عن الموت متجاوزا وغير مرغوب فيه، لأنه من جهة يفسد خطاب السعادة والاستمتاع بالحياة، ومن جهة أخرى لا يحقق الخوض فيه جدوى أو قيمة أمام عبثية الوجود ذاته !
إننا حين نعاين ما تطرحه وسائل الإعلام بكل روافدها من مواد ترفيهية، وإنتاجات مشجعة للثقافة الرخيصة، نقف على السبب وراء اهتزاز صورة الموت أمام المسلم، وتأقلمه معه دون بحث فيما وراءه من مقصد أو حكمة. فالموت نهاية أقرب إلى فكرة العدم كما روج لها بعض فلاسفة الغرب، وحين تندس تلك الفكرة في خبايا الشعور يتولد عنها قلق دفين يُوهم المرء بأن الموت هوة عميقة وفارغة، وأن مصيره هو التلاشي النهائي الذي يقطع صلاته بكل مظاهر الدفء الإنساني التي عاشها. ومادام المصير بهذا الرعب وتلك السوداوية فإن شريط حياته ينبغي ألا يحيد عن ثلاثة محاور: الحرص على البقاء، والاستمتاع بالحياة الذي يرادف إطلاق العنان لكل الغرائز، وعبثية الفعل والإعمار والنهوض بواجب الاستخلاف.
ولم يسلم عالم الطفل بدوره من رواسب هذه الفكرة وانعكاساتها الخطيرة على عقله ووجدانه، حيث الألعاب الإلكترونية تنبني في مجملها على تضخيم الذات، وحفز الطفل على الانخراط في عوالم المغامرة والتحدي، وكسر حاجز الخوف. وحين يتعلق الطفل بهذه الألعاب فإن الحيز الفاصل بين العالم الافتراضي وواقعه العملي ينحسر بالتدريج، مما يُسهل عليه نقل التجربة إلى الخارج، ومحاولة الاقتراب من الموت عبر سلوكيات وأفعال يدفعون أرواحهم ثمنا لها.
بالعودة إلى حقيقة الموت كما عرضتها نصوص الكتاب والسنة، يتبين أن ما يعتبره البعض نهاية ليس سوى انتقال من حال إلى أخرى، أو كما يصفه الشيخ محمد الغزالي: فاصل خفيف بين وجودين! وإذا كان الله تعالى قد سماه مصيبة في كتابه العزيز فإن الأعظم منه هي الغفلة عنه، و الإعراض عن ذكره، وقلة التفكر فيه، وترك العمل له، يقول القرطبي في (التذكرة).
جاء الإسلام ليبدد الحيرة التي يثيرها الموت كتجربة تجمع بين يقينية الفناء الشامل، وعدم يقين حول الأوان والكيفية والمكان. ولأن إنكار البعث شكّل ركيزة في معتقد المشركين زمن البعثة، فقد توالت نصوص الكتاب والسنة لتؤكد حقيقة ما بعد الموت، وأن ما ينبغي أن يشغل المسلم ليس الموت باعتباره موضوع تأمل ميتافيزيقي، وإنما الاستعداد له نفسيا بالإكثار من ذكره، وعمليا بالعمل الصالح والتكفير عن الخطايا.
وصى النبي صلى الله عليه وسلم بالإكثار من ذكر الموت، والحكمة في ذلك كما يرى المناوي رحمه الله أن تنقشع عن الصدر ظلمة الشهوات ليستنير القلب بنور التوحيد، فيرى الموت عاقبة الأمر، وقاطعا لكل لذة، وحائلا بينه وبين كل أمنية، فينكسر القلب، وتذبل نار الشهوة، ويرضى بأدنى عيشته.
ولذكر الموت فائدة أخرى هي تحرير الإنسان من وهم الخلود الذي يغذيه طول الأمل. ومعلوم أن قصر الأمل من أنفع الأشياء للعبد الفاني، لأنه يورث القناعة، ويُعجل بالتوبة، ويزيد من الإقبال على الطاعة.
ولو تتبعنا مواقف الصحابة، وهم أقرب الناس فهما لكتاب الله تعالى وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم، لتبين لنا السمو المعنوي الذي اكتسبته حقيقة الموت، والطمأنينة التي أعقبت حيرة الجاهلي بشأن مصير الإنسان. لقد تشربت النفوس معنى الرجوع إلى الله كأسمى تعبير عن مفارقة الحياة الدنيا، فأصبح الموت اشتياقا إليه، والتماسا لما عنده من الخير. يقول أبو الدرداء رضي الله عنه: ما من مؤمن إلا والموت خير له، فمن لم يصدقني فإن الله تعالى يقول:﴿ {وما عند الله خير للأبرار} ﴾-آل عمران: 198. ولم يعد شغل المسلم البحثَ في ماهية الموت بقدر ما تشغله الحال التي يلقى عليها ربه، فعن أنس بن مالك « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت، فقال: (( كيف تجدك؟ قال: أرجو اللهَ يا رسول الله وأخاف ذنوبي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو وآمنه من الذي يخاف)) » [جامع الترمذي:3-302]
إن للموت هوله وسكراته، وآلاما يثيرها انقطاع تعلق الروح بالبدن لحكمة يعلمها سبحانه. ورغم ما تثيره تلك اللحظات من رهبة إلا أنها تنطوي أيضا على جرد أولي لثمرات العبادة والعمل الصالح، فيكون ذلك سببا لأن تنشط الهمم وتبذر في الدنيا ما يليق بحرث الآخرة. وهذا المنظور الذي تؤكده آيات الكتاب والأحاديث النبوية كفيل بأن يشطب الصور المرعبة التي تتلقفها عقول الناشئة وقلوبها، فيذبل فيها حِس الآخرة، ويطول حبل التعلق بالدنيا وغرورها.
ما أحوج ثقافتنا المجتمعية إلى استعادة موقف يتسم بالسكينة والطمأنينة، والتفاعل مع حقيقة الموت برضى يتعالى على سلطة الزمن، تماما كالعبارة التي خلّفها مصري قديم على حيطان المعبد قائلا: " إن الموت بالنسبة إلي كفوح الطيب، كعبير زهرة اللوتس.
إنه يمثل لي رحلة نحو الحياة الأبدية ! "
- التصنيف: