التضرع إلى الله عند نزول الشدة والبأساء
فهد بن عبد العزيز الشويرخ
نسأل أن يوفق جميع المسلمين للتوبة والإنابة والتضرع إلى الله القوي العزيز, القادر المقتدر, الرحيم الغفور.
- التصنيفات: قضايا إسلامية -
{بسم الله الرحمن الرحيم }
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين...أما بعد: فالله عز وجل, حكيم في أفعاله, رحيم بعباده, يبتليهم بالبأساء والضراء, لِحكم قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله:" إن الله تعالى يبتلي بالبأساء والضراء لكن لحكمه, لا لمجرد إلحاق الضرر بالخلق...بل كل ما ضر الناس من تقديرات الله فالمراد به مصلحة الخلق."
فمن مصلحة الخلق أن يُبتلوا بالبأساء والضراء, من أجل أن يخضعوا لربهم, ويتذللوا له, ويتوبوا إليه, قال الله عز وجل: ( { وما أَرسَلنا في قَريَةٍ مِن نَبِيٍّ إِلّا أَخَذنا أَهلَها بِالبَأساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُم يَضَّرَّعونَ } ) [الأعراف:94] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يعني (بِالبَأساءِ) ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام, (والضَّرّاءِ) ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك, (لَعَلَّهُم يَضَّرَّعونَ ) أي: يدعون ويخشعون ويبتهلون في كشف ما نزل بهم.
وقال سبحانه وتعالى: ( {وَلَقَد أَرسَلنا إِلى أُمَمٍ مِن قَبلِكَ فَأَخَذناهُم بِالبَأساءِ وَالضَّرّاءِ لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعونَ} ) [الأنعام:42] قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: (بِالبَأساءِ) وهي شدة الفقر والضيق في المعيشة, (والضَّرّاءِ) وهي الأسقام والعلل العارضة في الأجسام, وقوله (لَعَلَّهُم يَتَضَرَّعونَ ) يقول: فعلنا ذلك بهم ليتضرعوا إليَّ, ويُخلصوا لي العبادة, ويفردوا رغبتهم إلي دون غيري, بالتذلل منهم لي بالطاعة, والاستكانة منهم إلي بالإنابة.وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: من فوائد الآية الكريمة: وجوب التضرع إلى الله عز وجل, والتضرع بمعنى اللجوء والإنابة إلى الله تعالى, والقيام بما يجب له من عقيدة أو قول أو عمل.
فحري بالعباد عند نزول البأساء والضرر بهم, من: فقر, أو جوع, أو خوف, أو أوبئة, ونحوها, أن يتضرعوا إلى الله بالدعاء, وينيبوا إليه بالطاعة, ويتوبوا عما هم عليه من ذنوب وآثام, لعل الله أن يرحمهم فيكشف ما نزل بهم, وليحذروا أن يكونوا ممن قال الله عز وجل فيهم: ( { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} ) [المؤمنون:76] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: ( وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ) أي: ابتليناهم بالمصائب والشدائد, (فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ) أي: فما ردهم ذلك عما كانوا عليه من الكفر والمخالفة, بل استمروا على غيهم وضلالهم,( ما استكانوا) أي: ما خشعوا, (وَمَا يَتَضَرَّعُونَ ) أي: ما دعوا.
وليحذروا أن يكونوا ممن قال سبحانه وتعالى فيهم ( {فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا وَلـكِن قَسَت قُلوبُهُم وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيطانُ ما كانوا يَعمَلون } ) [الأنعام:43] قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله: أقاموا على تكذيبهم رسلهم, وأصروا على ذلك, واستكبروا عن أمر ربهم, استهانة بعقاب الله, واستخفافاً بعذابه, وقساوة قلب منهم.وقال الإمام القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: ( فَلَولا إِذ جاءَهُم بَأسُنا تَضَرَّعوا) وهذا عتاب على ترك الدعاء, وإخبار عنهم لم يتضرعوا حين نزول العذاب, ويجوز أن يكونوا تضرعوا تضرع من لم يخلص.
والعباد إذا استمروا على ما هم عليه من باطل, ولم ينيبوا ويتوبوا إلى الله, فقد يستدرجون_ نعوذ بالله من ذلك_فيفتح الله عز وجل عليهم أبواب الرزق والنعم, حتى إذا أصابهم البطر, واستولى عليهم الإعجاب بما مُتعوا به, جاءهم عذاب الله فجأة, قال الله سبحانه وتعالى : {فَلَمّا نَسوا ما ذُكِّروا بِهِ فَتَحنا عَلَيهِم أَبوابَ كُلِّ شَيءٍ حَتّى إِذا فَرِحوا بِما أوتوا أَخَذناهُم بَغتَةً فَإِذا هُم مُبلِسونَ} [الأنعام:44] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: وهذا استدراج منه تعالى, وإملاء لهم, عياذا بالله من مكره, ولهذا قال: (حَتّى إِذا فَرِحوا بِما أوتوا ) أي من الأموال والأولاد والأرزاق, (أَخَذناهُم بَغتَةً ) أي: على غفلة, ( فَإِذا هُم مُبلِسونَ ) أي: آيسون من كل خير.قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: وهذا أشد ما يكون من العذاب, أن يؤخذوا على غرة, وغفلة وطمأنينة, ليكون أشد لعقوبتهم, وأعظم لمصيبتهم.وقال العلامة العثيمين رحمه الله: ( أَخَذناهُم بَغتَةً ) المباغت هو الشيء الذي لا يتوقعه الإنسان فيقع من غير توقع له"
وقال عز وجل:( {ثمَّ بَدَّلنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ حَتّى عَفَوا وَقالوا قَد مَسَّ آباءَنَا الضَّرّاءُ وَالسَّرّاءُ فَأَخَذناهُم بَغتَةً وَهُم لا يَشعُرونَ} )[الأعراف:95]قال العلامة السعدي رحمه الله: (ثم) إذا لم يفد فيهم, واستمر استكبارهم, وازداد طغيانهم, (بَدَّلنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الحَسَنَةَ ) فأدرَّ عليهم الأرزاق, وعافي أبدانهم, ورفع عنهم البلايا, ( حتى عفوا ) أي: كثرت أرزاقهم وانبسطوا في نعمه الله وفضله, ونسوا ما مر عليهم من البلايا...واغتبطوا, وفرحوا بما أوتوا, وكانت الدنيا, أسرّ ما كانت إليهم. ( فَأَخَذناهُم ) بالعذاب ( بَغتَةً وَهُم لا يَشعُرونَ ) أي: لا يخطر لهم الهلاك على بال.
إن في قصص القرآن الكريم, الكثير من العبر والعظات, قال الله عز وجل: ( { لَقَد كانَ في قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبابِ} ) [يوسف:111] فالله جل جلاله عندما ابتلى أولئك الأقوام بتلك العقوبات, ففي ذلك تحذير لغيرهم, أن سنة جارية فيهم وفي غيرهم, فينبغي أن أخذ العبرة والعظة منها.
نسأل أن يوفق جميع المسلمين للتوبة والإنابة والتضرع إلى الله القوي العزيز, القادر المقتدر, الرحيم الغفور.
كتبه / فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ
والعبد قد يُبتلى ليذوق حلاوة الإيمان, قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين, أن ينزل بهم الشدة والضر, ما يلجئهم إلى توحيده, فيدعونه مخلصين له الدين, ويرجونه ولا يرجون أحداً سواه, وتتعلق قلوبهم به لا بغيره, فيحصل لهم من التوكل عليه, والإنابة إليه, وحلاوة الإيمان, وذوق طعمه...من هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض...أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة"