عمارة البيوت بالطاعة يجعلها هادئة مريحة

منذ 2020-06-06

فمن رام أن يعيش في مسكنه بهدوء وراحة بال، وأن تقل الخلافات بينه وبين من يشاركونه المسكن، وأن يتمكن بتوفيق الله له من علاج ما قد يوجد منها بتعقل وحكمة

{بسم الله الرحمن الرحيم }

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين؛ أما بعد:

فكل نعمة يتمتع بها العباد فمن الله الكريم الرزاق؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿  {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّ} هِ ﴾ [النحل: 53]، ونعم الله على عباده لا تعد ولا تحصى؛ كما قال عز وجل: ﴿  {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ } ﴾ [النحل: 18]؛ قال العلامة السعدي رحمه الله: "﴿ { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ } ﴾ عددًا مجردًا عن الشكر ﴿ لَا تُحْصُوهَا ﴾ فضلًا عن كونكم تشكرونها، فإن نعمه الظاهرة والباطنة على العباد بعدد الأنفاس واللحظات من جميع أصناف النعم، مما يعرف العباد، ومما لا يعرفون".

ومن نعم الله الكثيرة علينا: نعمة المسكن؛ قال الله عز وجل في سورة النحل، التي تسمى سورة النعم؛ لكثرة تعداد النعم فيها: ﴿  {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا } ﴾ [النحل: 80]، فنعمة من الله عز وجل أن يجد الإنسان مكانًا يأوي إليه، ويرتاح فيه، ويقيه من الحر والبرد، ويستره وأهله عن الناس، إلى غير ذلك من الفوائد والمصالح.

ومن سعادة المرء أن يكون مسكنه واسعًا؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني» ))؛ [أخرجه ابن حبان في صحيحه، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (282)]، والمقصود بالمسكن الواسع أن يكون كثير المرافق؛ ففي رواية عند الحاكم زاد: ((والدار تكون واسعة كثيرة المرافق))؛ قال الشيخ عبدالرحمن بن سعد الشثري في كتابه (حجرة النبي صلى الله عليه وسلم: تاريخها وأحكامها): "لم تكن دار أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مجرد غرفةٍ ضيقةٍ، بل كان فيها منافع متعددة؛ منها: البيت (الغرفة)، والحجرة (الحوش أو الفناء)، والشرفة... التي كانت خزانة البيت (المستودع)، والكنيف الذي اتُّخذ فيه مؤخرًا".

ومن حرص الشارع أن يرتاح المسلم في مسكنه، فقد حضَّه على أمرين:

الأول: عدم إدخاله لمسكنه أشياء تجعل الملائكة لا تدخلها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة» ))؛ [متفق عليه]؛ قال العلامة العثيمين رحمه الله: "المراد بالكلب: الكلب الذي لا يجوز اقتناؤه... وكذلك بالنسبة للصورة يُحمل على الصورة التي لا يجوز اقتناؤها، أما ما يجوز اقتناؤه كالصور التي تمتهن على رأي جمهور العلماء الذين قالوا بالجواز، وكالصور التي يضطر إليها كالجواز ورخصة السيارة، والصور التي في الدراهم - فالظاهر أن الملائكة لا تمتنع من دخول البيت؛ لأن هذه الصور أمر لا يمكن للإنسان الانفكاك عنها، ولو ألزم الناس بإخراجها عن بيوتهم، لكان في ذلك حرج شديد".

الأمر الثاني: قراءة القرآن فيها؛ مما يجعل الشياطين تفرُّ منها؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( «لا تجعلوا بيوتكم مقابر؛ إن الشيطان ينفر من البيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة» ))؛ [أخرجه مسلم]؛ قال سماحة العلامة ابن باز رحمه الله: "القراءة في البيوت والصلاة فيها... من القربات، ومما يحبه الله عز وجل، وهي سبب من أسباب وجود البركة في البيت، ومن أسباب قلة الشياطين فيها؛ لأنها تنفر من سماع ذكر الله، فهي تكره سماع الخير وتحب سماع الشر، فكلما كان أهل البيت أكثر قراءةً للقرآن، وأكثر مذاكرةً للأحاديث، وأكثر ذكرًا لله وتسبيحًا وتهليلًا - كان أسلم من الشياطين، وأبعد منها، وكلما كان البيت مملوءًا بالغفلة وأسبابها؛ من الأغاني والملاهي، والقيل والقال، كان أقرب إلى وجود الشياطين المشجعة على الباطل".

ووجود الشياطين في البيوت يجعل من المشكلة الصغيرة مشكلة كبيرة، ويهيج الشر بين ساكنيها، ويزين لهم العداوة والشقاق، والفرقة والطلاق؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿  {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ } ﴾ [الإسراء: 53]؛ قال الإمام ابن جرير رحمه الله: "يفسد بينهم، يهيج بينهم الشر"، وقال عز وجل: ﴿  {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}  ﴾ [يوسف: 100]؛ قال الإمام القرطبي: "قيل: أفسد ما بيني وبين إخوتي".

وعن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( «إن إبليس يضع عرشه على الماء، ثم يبعث سراياه، فأدناهم منه منزلة أعظمهم فتنة، يجيء أحدهم فيقول: فعلتُ كذا، فيقول: ما صنعت شيئًا، ثم يجيء أحدهم، فيقول: ما تركته حتى فرقتُ بينه وبين امرأته، قال: فيدنيه منه ويقول: أنت» ))؛ [أخرجه مسلم]؛ قال الإمام ابن القيم رحمه الله: "فالشيطان وحزبه قد أغروا بإيقاع الطلاق، والتفريق بين المرء وزوجه، وكثيرًا ما يندم المطلق".

فمن رام أن يعيش في مسكنه بهدوء وراحة بال، وأن تقل الخلافات بينه وبين من يشاركونه المسكن، وأن يتمكن بتوفيق الله له من علاج ما قد يوجد منها بتعقل وحكمة، ينهي تلك الخلافات والمشكلات، وفي أقل الأحوال يقلل آثارها وأضرارها - فعليه أن يعمر مسكنه بما يرضي الرحمن من أنواع الطاعات والعبادات، وأن يحصنه بضد ما يحب الشيطان من أنواع المعاصي والمنكرات، وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه.

                                                    كتبه/ فهد بن عبدالعزيز بن عبدالله الشويرخ

  • 3
  • 0
  • 3,273

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً