حين تتوالى محن الإيغور.. تعذيب واضطهاد وتعقيم قسري
لا يمكن أن يظل العالم صامتًا أمام الفظائع المرتكبة، إن بلداننا ملزمة بالالتزامات الرسمية لمنع ومعاقبة أي عمل يفضي إلى تدمير مجموعة قومية أو عرقية أو دينية، كليًا أو جزئيًا"
- التصنيفات: قضايا إسلامية معاصرة -
«مَصائِبُ شَتّى جُمّعَتْ في مُصيبَةٍ ... ولم يَكفِها حتى قَفَتْها مَصائِبُ»، هكذا قال المتنبي ذات يوم شعرًا، ويبدو أن بيته الشعري هذا قد عبر الزمن ليصل إلينا واصفًا حال مسلمي الإيغور الذين يواجهون ممارسات قمعية هى الأبشع من نوعها، فبخلاف صنوف التعذيب في معتقلات جماعية تدّعيّ الصين أنها معسكرات للتأهيل، وتطلق عليها اسم "معسكرات إعادة التعليم والتعلم" أو "مراكز التعليم السياسي"، وهى في واقعها معتقلات بشعة تسعى من خلالها السلطات الصينية إلى تدمير هوية مسلمي الإيغور وإلغاء إرثهم، لكن يبدو أن ابتلاءات الإيغور لا تأتي فرادى؛ إذ كشف تقرير بحثي جديد أن السلطات الصينية تجبر نساء الأيغور على إجراء عمليات تعقيم لأنفسهن أو تزويدهن بوسائل تمنع الحمل، وذلك في مسعى جديد للحد من تعداد الإيغور المسلمين في الصين.
التقرير الجديد، الذي أعده الباحث الصيني "أدريان زينز"، أثار دعوات دولية لإجراء تحقيق بمعرفة الأمم المتحدة فيما تقوم به الصين بحق الأيغور وأقليات أخرى مسلمة مثل الكازاخ، واعتمد تقرير "زينز" على مزيج من البيانات الرسمية ووثائق سياسية ومقابلات مع أفراد من الأقليات العرقية التي يتمركز معظمها في إقليم شينجيانج الواقع في شمال غرب الصين، حيث كشف التقرير أن النساء المسلمات من الأقليات العرقية مهددات بالاعتقال في حالة رفضهن الإجهاض، أو في حالة تجاوز الحد المسموح به للإنجاب، وهو طفلين، حيث بدأت حملة قمع شاملة في آواخر عام 2016 تمّ بموجبها تحويل إقليم شينجيانج إلى ولاية بوليسية، حيث تتدخل الحكومة بشكل سافر في حياة الأسر، كما أجبرت بعض نساء الأيغور على وضع لولب في الرحم، بينما أُجبرت أخريات على الخضوع لجراحات التعقيم بشكل قسري، حيث أجبرت بعض السيدات على أخذ حقن تؤدي لإنقطاع الحيض، أو تسببت في حدوث نزيف غير عادي يتسق مع آثار أدوية منع الحمل، وهو ما أدى إلى تراجع النمو السكاني الطبيعي في شينجيانج بشكل كبير خلال الأعوام الأخيرة، حيث تراجع معدل النمو بنسبة 84% بين عامي 2015 و2018، وتراجع بشكل حاد خلال العام الماضي 2019.
"لا يمكن أن يظل العالم صامتًا أمام الفظائع المرتكبة، إن بلداننا ملزمة بالالتزامات الرسمية لمنع ومعاقبة أي عمل يفضي إلى تدمير مجموعة قومية أو عرقية أو دينية، كليًا أو جزئيًا"؛ بهذه الكلمات بدأت مجموعة دولية من أحزاب سياسية وشخصيات عامة، بيانها الموجه إلى الأمم المتحدة، مطالبين إياها بضرورة إجراء تحقيق دولي مستقل ونزيه بشأن الوضع في منطقة شينجيانج، هذا بخلاف السياسات التمييزية على أساس عرقي والمتبعة فيما يخص الإنجاب، ففي عام 2017، سُمِحَ للصينيين من عرقية "الهان" بإنجاب أكثر من طفلين دون الخضوع لنفس الممارسات المتعلقة بعمليات الإجهاض والتعقيم ووضع لولب في الرحم والاعتقالات التي تخضع لها الأقليات الأخرى، وعلى رأسها الإيغور، لذا فإن تقرير "زينز" يؤكد على هذه النقطة، ويعتبرها جزءًا من حملة سكانية للإبادة الجماعية ضد الإيغور، مؤكدًا أن هذه الممارسات تفيّ بأحد معايير الإبادة الجماعية المذكورة في اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها.
بخلاف الإبادة الممنهجة ضد الإيغور؛ فقد كشفت تقارير أخرى أن الآلاف من الإيغور قد تم تكليفهم خلال الأشهر الأولى من العام الجاري، بإنجاز مهام شاقة في بعض المصانع الصينية كـ"عمال عبيد"، وذلك للتعويض عن الثغرات الموجودة في القوة العاملة بسبب إجراءات الحجر المنزلي لمواجهة جائحة فيروس كورونا المستجد، ليس هذا فحسب؛ بل تم إجبار من لديهم معرفة بالإجراءات الصحية على التواجد في مراكز للحجر الصحي لعلاج المرضى الصينيين المصابين بالفيروس إبان فترة تفشي الوباء بشدة في ربوع الصين، كما واجه هؤلاء بشكل روتيني معاملة قاسية على أيدي مراقبيهم، متحملين بالإضافة إلى ذلك أنظمة غذائية سيئة وظروف غير صحية في مرافق مكتظة بمرضى كورونا، ولكن ما هو أسوأ من ذلك بكثير كان تعمد السلطات الصينية تسهيل دخول مصابين بالفيروس إلى إقليم شينجيانج حيث تقطنه الإيغور كأغلبية، وبحسب رئيس جمعية المعارف بتركستان الشرقية "عيسى ثابت"، فإن السلطات كانت تتعمد نقل الفيروس إلى داخل الإقليم، كما أغلقت جميع خطوط الطيران من وإلى مدينة ووهان، بؤرة انتشار الفيروس القاتل، فإنها استثنت إقليم واحد وهو شينجيانج، حيث تركته مفتوحًا، وظلت حركة الطيران بين ووهان وإقليم شينجيانج متاحة على قدم وساق.
وفقًا لمؤتمر الإيغور العالمي (WUC)، فإن البلديات في إقليم شينجيانج تنشر دوريًا إشعارات على مواقعها الإلكترونية، تفيد بأنه لن يُسمح للمواطنين إظهار أي معالم انتماء للدين الإسلامي، فعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ فإن الإحتفال بقدوم شهر رمضان ولو رمزيًا يعدّ من الممنوعات، ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد.. فالصحف الرسمية في الإقليم تنشر طوال شهر رمضان مقالات تحذر من المخاطر الصحية للصوم، وتحث الناس على عدم الانقطاع عن الطعام والشراب، مدّعيةً أن حظر الصيام له فوائد وأنه يصب في مصلحة الفرد ويضمن صحته واستمرار عافيته. وخلال الأعوام القليلة الماضية؛ شملت القيود الدينية على طلاب المدارس منعهم من الصيام، حيث كان المعلمون يذهبون إلى الصفوف المدرسية للتحقق من ذلك، وكان الطلاب مجبرين على إظهار الغداء الذي أحضروه معهم وتناوله أمام المعلمين كدليل على عدم صيامهم، وبشكل عام فإن إقامة الصلاة بانتظام ممنوعة، كما يتم منع الرجال من إطلاق لحاهم، ومنع النساء من ارتداء الحجاب، ولا تتوقف الدراسة وقت صلاة الجمعة، بل على العكس يتم تجميع الطلاب في هذا الوقت بالذات من أجل القيام بأنشطة رياضية جماعية أو مشاهدة الأفلام الوثائقية الشيوعية، مثل فيلم "تأسيس حزب" الذي يمجد الرئيس "شي جين بينغ".
الممارسات الإجرامية في حق الأقليات المسلمة لا تنتهي، منها ما حدث خلال رمضان قبل الماضي، حيث تمّ حرق نسخ من القرآن الكريم، وحظر تجارة الأطعمة الحلال، وغيرها من الممارسات التي تهدف إلى إضعاف الثقافة الإسلامية للإيغور، ومحو هويتهم، بالرغم من أن الصين يعيش فيها أكثر من 30 مليون مسلم طبقًا لإحصاءات رسمية، بينما تؤكد تقارير غير رسمية أن أعداد المسلمين تناهز الـ 100 مليون مسلم، أي نحو 9% من مجموع سكان الصين، وهناك 10 أقليات مسلمة من أصل 55 أقلية معترف بها في الصين، وتعدّ أقلية الإيغور المسلمة من أكثر هذه الأقليات عددًا، لكن النظام الحاكم في الصين أرسل، منذ عام 2017 حتى الآن، ما بين مليون إلى 3 ملايين من الأقليات العرقية المسلمة إلى معسكرات الاعتقال، وتزعم السلطات الصينية أن ما يصل إلى 1.8 مليون من الإيغور والأقليات المسلمة الأخرى يعتنقون أفكارا دينية متشددة وأفكارًا سياسية غير صحيحة.
يتمادى الأمر وصولًا إلى تسخير التكنولوجيا لزيادة الرقابة على الإيغور، ففي أكتوبر 2019 حظرت الولايات المتحدة 6 شركات صينية للذكاء الاصطناعي من التعامل مع الشركات الأمريكية، وذلك خشية أن يتم تزويدها بتقنيات تستخدم لقمع الأقلية الإيغورية في شينجيانج، بعض هذه الشركات كانت تعمل على تطوير تكنولوجيا لأقسام الشرطة هناك تستطيع من خلالها تحديد الأشخاص عن طريق أصواتهم، فيما تفرض الصين بالأساس على الإيغور تحميل تطبيقات على هواتفهم من أجل التجسس الإجباري عليهم، فضلًا عن تركيب أجهزة تتبع بشكل إجباري على سياراتهم، ضمن قيود مستدامة في شينجيانج في إطار ما تصفه بكين بـ"حملة ضد التطرف". السؤال الذي يطرح نفسه الآن.. هل يُنتَظَر من وراء كل هذه الإجراءات القمعية أن يصبح أفراد هذه الأقلية أو غيرها مواطنين موالين ومطيعين كما تدعيّ الحكومة الصينية، أم أن مشاعر الاضطهاد والانعزال المفروضة عليهم يمكن أن تدفعهم دفعًا نحو حمل السلاح لمواجهة هذا الظلم والاضطهاد؟، هل ستنجح الهبّة الدولية الراهنة في إجبار الصين على التخلي عن اضطهادها لمسلمي الإيغور أم ستنتهي كما انتهت حملات إدانة وشجب سابقة دون أن تضع حدًا لهذها المأساة؟