سورة الكهف وأَلِفُ الإرادة
نديم فرج خطاب
التحقق بمقام العبودية، والإذعان لقهر المشيئة الإلهية، والتبرُّؤ من لزوم التحكم على الله -جل وعلا-، فإن الله لا مُسْتَكْرِهَ له ﴿ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ﴾ ﴿ {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ﴾
- التصنيفات: القرآن وعلومه -
الحمد لله الذي علا بقهره فوق ..
والصلاة والسلام على من تفطرت قدماه في مقام الشوق..
وبعد؛
فإن الناظر في كتاب الله لابد أن يمتلئ قلبه للقرآن باثنتين:
1. يقين بمطلق إحكامه، لا يخالطه مثقال ذرة من ارتياب.
2. محبة، يؤثره بها على كل المحابّ.
حينها يكشف الله لعبده إن شاء ما شاء من لطائف الأسرار، وتنقدح في القلب عندها بوارق الأنوار، ويكون بإذن الله من حزب ﴿ {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا} ﴾، ومن الذين ﴿ {إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} ﴾.
قال الإمام ابن القيم -رحمه الله تعالى-:
فما أشدها حسرة، وأعظمها غبنة، على من أفنى أوقاته في طلب العلم، ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرءان، ولا باشر قلبَه أسرارُه ومعانيه!!
وقال وهيب بن ورد -رحمه الله تعالى-:
قيل لرجل: ألا تنام؟ قال: إن عجائب القرآن أذهبت نومي.
ولعمر الله! فليست عجائب القرآن مقصورة على قَيِّم معانيه، بل تشمل إِحكام فواصله، وفرائد رسم مبانيه، إلى غير ذلك من خصيصة قواعد تلاوته البهيجة، وعلوم قراءاته العطرة الأريجة. (الأريج والأريجة: توهج رائحة الطيب).
وهكذا يتقلب صاحب القرآن في رياض أفنانه، متضمخًا بعبير مسكه وعبيق ريحانه، فهو في جنة القرآن يتنعم قبل دخوله جنات النعيم.
ولهذا لما سُئِلَ الإمام مالك -رحمه الله تعالى- هل يُكتب المصحف على ما أحدثه الناس من الهجاء؟ قال :(لا، إلّا على الكتبة الأولى)، رواه الإمام أبو عمرو الداني في المقنع، ثم قال: ولا مخالف له من علماء الأمة – يعني في القرون الثلاثة الفاضلة-.
وفي ذلك المعنى يقول الإمام الشاطبي -أفاض الله على قبره سحائب الرحمات- في عقيلة أتراب القصائد في علم الرسم القرآني:
وقال مالكٌ القرآنُ يُكتَبُ بالـ ... كتابِ الأولِ، لا مُسْتَحْدَثًا سُطِرَا
لأنه بمخالفة رسم المصحف الإمام، ينطمس علم من علوم الكتاب، وتنمحي آثاره، ويغيب عن المتدبرين شيء من روعة أسراره.
سورة الكهف وفرائد الرسم:
ومن فرائد الرسم التي اختصت بها سورة الكهف كلمة (لِشَاْيْء) من قوله تعالى ﴿وَلَاتَقُولَنَّ لِشَاْىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا﴾ فرسمت بألف فاصلة بين الشين والياء، أشار إليها الإمام الشاطبي في العقيلة بقوله:
وفي الكهف شين (لِشَاْيءٍ) بَعْدَهُ أَلِفٌ ... وقولُ في كُلِّ (شَيءٍ) ليس معتبرًا
وقال الإمام الداني في المقنع: (قال محمد بن عيسى الأصبهاني: رأيت في المصاحف كلها (شيء) بغير ألف، ما خلا الذي في الكهف).
وحتى تُسْفِرَ الحكمةُ عن وجه من وجوه أسرار هذه الزيادة لابد من:
أولاً: النظر في جميع أجزاء السورة لمعرفة الصلة بين هذا الموضع وبين جميع أجزاء السورة.
ثانيًا: استقصاء جميع مواضع (شيء) بالقرآن الكريم -وعددها (201) موضع، ما خلا موضع الكهف- لمعرفة المعنى الفارق لموضع الكهف عن سائر المواضع.
ومن خلال الأصل الأول: تجد أن سورة الكهف ترسخ عقيدة قهر المشيئة الإلهية، وأن ماشاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، ولن يكون، وأن الله لا مُسْتَكْرِهَ له سبحانه، ﴿ {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} ﴾ -على قراءة الجماعة بلا النافية، وقرأها الإمام الدمشقي ابن عامر بلا الناهية وجزم الفعل مع تاء الخطاب ﴿ {وَلَا تُشْرِكْ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} ﴾-
وقد بدأت السورة بلفت النظر إلى ذلك الأصل في مطلعها بقوله سبحانه: ﴿ {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَٰذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} ﴾، وأكدته في أثنائها بقوله جل وعلا: ﴿ {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} ﴾ ﴿ {إِنَّا جَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا} ﴾.
فيهدي من يشاء رحمة منه وفضلًا..
ويضل من يشاء حكمة منه وعدلًا..
نفذت مشيئته بسابق علمه ... في خلقه عدلًا بلا عدوانِ
والكل في أم الكتاب مسطَّرٌ ... من غير إغفال ولا نقصان
وتدور قصص السورة الكريمة حول ترسيخ هذه العقيدة؛ فيقول المؤمن لصاحبه ﴿ {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} ﴾
والخضر لموسى -عليهما السلام- ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ بل أمر الله ومشيئته..
ويُجَلِّي قهرَ هذه المشيئة ذو القرنين بعد هذا البناء المحكم والعمل المُضني بقوله ﴿ {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ ۖ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} ﴾ ليبين أنّ مشيئة الله لا يردها ردم، ولا يعصم دونها عاصم.
وهو ما ختمت به السورة من الاستفهام التبكيتي لهؤلاء الكافرين الظانين أن لهم مشيئة خارجة عن سلطان مشيئته سبحانه فيقول -جل جلاله- ﴿ {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ ۚ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا} ﴾.
ومن خلال النظر الاستقصائي لجميع مواضع (شيء) بالقرآن الكريم:
تجد أن موضع الكهف مختص بمشيئة العبد لفعل الشيء في زمن الغيب المستقبل، ولا ريب أن هذه المشيئة ليست مطلقة ولا محررة؛ بل هي مرهونة بمشيئة الله -جل جلاله_ ﴿ {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ} ﴾.
كما سئل أحدهم: بماذا عرفت ربك؟ قال: بنقض العزائم.
وقد ورد هذا المعنى جليًّا في خبر سفر نبي الله موسى للخضر -عليهما السلام-، فها هو قد صرف لهذا المقصد كل اهتمامه، وعقد عليه عُرَى اعتزامه، حتى قال لفتاه ﴿ {لَا أَبْرَحُ حَتَّىٰ أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} ﴾، وهذه كلمة تنبعث منها حرارة الشوق، وتدل على تناهي التوق، ولكنّ مشيئة الله قاهرة من فوق...
(فسوابق الهمم؛ لا تخرق أسوار الأقدار) الحكم العطائية.
فبعد أن بلغ الكليم الكريم -عليه السلام- غايته، وأدرك طلبته بلقاء الخضر -عليه السلام-؛ إذا بمشيئة الله تحول بينه وبين ما اعتزمه على نفسه من لزوم الصبر، ولكن لا عتب عليه؛ إذ علقه بمشيئة من يرجع الأمر كله إليه.
وعليه؛ فلما كان هذا الموضع مختصًا بما تقدم ذكره من مشيئة العبد لفعل الشيء في زمن الغيب المستقبل، رسمت كلمة (لِشَاْيْء) بالألف (ألف الإرادة الإلهية) فاصلة بين الشين والياء، للدلالة على أنه ربما يخلق الله في قلب عبده المشيئة لكن تحول إرادة الله بينه وبين إيجاده واقعًا في عالم الحقيقة، وكأن هذه الألف الحائلة بين الشين والياء تشير إلى قوله سبحانه ﴿ {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} ﴾.
ومما يجعل هذا المعنى مقاربًا للحق -والله أعلم-: إحكام فاصلة الآية القرآنية عند كلمة ﴿ {غَدًا} ﴾ مع كون ما بعدها متصلًا بها لفظًا ومعنى، لكن في الوقف على رأس الآية إشارة لما تقدمت به العبارة.
ولذا كان من تمام أدب التالي لكتاب الله أن يقف عند رؤوس آياته، ولئن غابت عنه حكمة فصل ما عادته الوصل؛ فلا يَغِبْ عنه يقينه بقول الله سبحانه ﴿ {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} ﴾، وليكن شعاره ﴿ {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ} ﴾، حينها يكشف الله له عن بدائع الحكمة وراء هذه الفواصل المحكمة ﴿ {وَاتَّقُواْ اللّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللّهُ} ﴾، ولا تكن ممن ﴿ {كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ﴾.
وفي هذا التوجيه الإلهي ﴿ {وَلَاتَقُولَنَّ لِشَاْىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ﴾ فوائد وآداب؛ منها:
1. التحقق بمقام العبودية، والإذعان لقهر المشيئة الإلهية، والتبرُّؤ من لزوم التحكم على الله -جل وعلا-، فإن الله لا مُسْتَكْرِهَ له ﴿ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} ﴾ ﴿ {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} ﴾.
2. صيانة مقام النبوة المنيف، وحفظ حياضها الشريف عن أن ينسب إليه ما لا يليق به، فإنه متى عزم على فعل الشيء ثم علقه بمشيئة الله سبحانه، انتفت عنه لائمة الخُلْف، وفي ذلك توجيه لأتباعه متمثل في شخصه الكريم ﷺ.
3. وهو توجيه إلهي خاص بالنبي ﷺ؛ مقتضاه: ألَّا يَعِدَ أحدًا فيما يستقبله إلًّا أن يأذن الله له في ذلك، فيكون وعده ﷺ على ثقة منه بوعد الله له سبحانه.
كإخباره ﷺ عما سيجري على يديه الشريفتين أو على يد أتباعه من فتوحات أو ما سيحصل لهم من المثوبات كقوله ﷺ لعكاشة بن محصن -لما سأله أن يدعو الله له أن يكون من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بغير حساب- فقال له ﷺ بصيغة الجزم: “أنت منهم”، وكقوله ﷺ “أنا أول شافع وأول مشفع” ونحو ذلك مما ذخرت به دواوين السنة المطهرة.
فاللهم يا من قلوب العباد بين أصبعيه،
ويا من كل ما في السموات والأرض من خير يديه،
املأ قلوبنا بحب كتابك، واحفظ أعمارنا أن تبذل لغير جنابك،
واحرسنا من كيد العدا، وجنبنا مواطن الخزي والردى،
وصلِّ اللهم وسلم وبارك على نبينا المُفَدَّى؛
دائمًا وأبداً، والحمد لله رب العالمين