من أبجدية السعادة الزوجية - "ثبت دعائم بيتك"
وأخذت أعيش بين مفردات الآية وألحظ دقة القرآن الكريم وهو يميز بين المودة والرحمة
الإنسان إذا أراد أن يتخذ له بيتًا بحث عن الأميز مكانًا، الأجود هواءً والأفضل جيرة وأصدقاء؛ لأنه يغلب على ظنه أن يعيش فيه طويلًا، ويلبث فيه مليًا، وهكذا الناس يحبون الاستقرار ويميلون إلى الديمومة في مواطنهم، ولذا فإنك تجد العربي القديم ومنذ الأزل يظهر في أبيات شعره، وقصائد نظمه مدى تعلق بمنزله وبيته، وحنينه إليه كلما غاب عنه أو رحل منه، فهذا المتنبي تراه يقول:
حي المنــــازل أقفــــــرت بسهــــــــام وعفت معالمها بجنب بِرام
جرت عليها الرامسات ذيولها وسجال كل مخلخل سجام
أقوت وقد كانت تحل بجوارها حور المدامع من ظباء الشام
ويظهر مدى لوعته وتعلق به، لما يربطه من ذكريات جميلة وأيام لطيفة لا يمكن له أن ينساها، بل ويظهر آخر أن الإنسان مهما حاول فذكراه الأولى في بيته الأول هي التي تظل ثابتة راسخة، لا تنفك لها عقدة، ولا تُمحى من ذاكر العمر، ولذا تسمعه يقول:
نَقِّلْ فُؤادَك حيث شئتَ من الهوى ما الحُبُّ إلا للحبيبٍ الأولٍ
كم منزلِ في الأرضٍ يألفُـــــــــهُ الفــــتى وحنيــــــــنـُهُ أبــــــــــداً لأولٍ منــــزل
وليس هذا بمستغرب .... بل هي الفطرة التي خُلق عليها الإنسان، فهو اجتماعي بطبيعته، يألف المكان الذي يستقر فيه، ويأنس بالبيت الذي يقيم فيه، وليس هذا خاص بالإنسان وفقط، بل هو بين الحيوانات في أوكارها، والطيور في أعشاشها بل والحيتان في أعماق البحار ...
وقد سطر ربنا - سبحانه وتعالى- هذا المعنى القرآني الجميل في صفحات الكتاب الخالد:" { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} " الروم:21
فالسكن والمودة والرحمة كلها دواع للاستقرار وراحة البال والطمأنينة التي يجدها الإنسان في بيته، وهذا ما أود أن أخلص إليه، هذه الدعائم الثلاثة: السكن والمودة والرحمة هي مبتغى كل بيت للزوجية ينشأ، فالسكن والراحة والهدوء، وكذلك الألفة والمودة والمحبة، وأيضًا الرحمة بين الزوجين هي ما تجعل الحياة الأسرية ذات قيمة، بل وتجعل من البيت إحدى جنات النعيم، ألم يذكر الله – جل وعلا – عن آدم ما امتن به عليه من زوجة أنجب منها الولد والبنت على السواء، قال الله – جل شانه- :" {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ... [الأعراف: 189]
وقد ذكر ابن كثير في تفسير قوله- سبحانه وتعالى -: "ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا " أي: خلق لكم من جنسكم إناثا يكن لكم أزواجا، لتسكنوا إليها، كما قال تعالى:" هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها " الأعراف: 189، يعني بذلك حواء، خلقها الله من آدم من ضلعه الأقصر الأيسر. ولو أنه جعل بني آدم كلهم ذكورًا وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم، إما من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس. ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم وبينهن مودة: وهي المحبة، ورحمة: وهي الرأفة، فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها ، بأن يكون لها منه ولد ، أو محتاجة إليه في الإنفاق ، أو للألفة بينهما ، وغير ذلك، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون .
ولذا فإن أردت أن تقيم بيتًا جيدًا، فدعم قواعده، وثبت بنيانه وأركانه، ولن يكون ذلك إلا بتحقيق تلك الشروط والدعائم الثلاثة، فلتكن الزوجة سكن لك، تبث إليها همومك، وتبث لك، تلقي عليها أحزانك وتلقي عليك، تفرحا سويًا وتواجها الحزن معًا، تتألم لألمها، وتتألم لك، وتأمل لمستقبلكما وتأمل هي الأخرى لك، هذه المشاركة الوجدانية، والشراكة الحقيقية في كل الأحوال أحد أهم الأركان التي ينبغي أن تثبت بها بيتك، وقد كنت في وقت من الأوقات، لا أحب أن أبوح بما يهمني، أو ينزل بي من تقلبات الدهر وصروفه، ولفترة من الزمن – حتى بعد أن رزقني الله بزوجة أسكن إليها_ آثرت أن أبقى على ما أنا عليه، لكن وبعد تجذر العلاقة بيننا وترسخها، أصبحت أجد المتعة في الأنس إليها، وفي الحديث معها، تخفف عني وأخفف عنها، فثبتت بذلك العلاقة بيننا.
وقد توقفت كثيرًا عند قول الله تعالى: " {وجعل بينكما مودة ورحمة} " وأخذت أعيش بين مفردات الآية وألحظ دقة القرآن الكريم وهو يميز بين المودة والرحمة، كما ذكر ابن كثير في تفسيره: " فإن الرجل يمسك المرأة إما لمحبته لها، أو لرحمة بها، بأن يكون لها منه ولد ، أو محتاجة إليه في الإنفاق ، أو للألفة بينهما ، وغير ذلك..." وذكره سبحانه أن هذه الدعامة لا يقوم بها واحدٌ دون شريكة بل يقوما بها سويًا، ولذا فقد استعمل(بينكما) ولم يقل منكم أو لكم، بل وقدم المودة على الرحمة وفي التقديم اعتبار أن الأساس هو المحبة لا الرحمة، وإنما الرحمة تكون لاعتبارات أخرى كالإبقاء على رابطة الزوجية حتى لا تنهدم الأسرة أو يضيع الولد.
وإن من أهم ما يثبت به البيت، وتقوى به أسسه، أن يكون أصل هذه المودة مرتبطة بالدين، نابعة من الاجتماع على القيم الفاضلة والأخلاق النبيلة والرؤى والأهداف المشتركة، فتأسيس البيت من أول يوم على تقوى الله ورضوانه، والعمل الصالح، والرغبة القوية في حب الخير وصلاح الدنيا، وتوجيه الجهود إلى ذلك كله، يوطد الأركان ويدعم البنيان، ويثبت الأساسات فتصير أقوى من الجبال رسوخًا، وأثبت من الأرض وهي تَسبح في فلك السماء، قال الله تعالى:" {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} " [التوبة: 109]
- التصنيف: